الاحتفال بذكرى احداث كبرى يشكل دائماً مناسبة لإعادة النظر في أمور افترضنا سابقاً اننا نعرف كل ما يمكن عنها. من بين هذه الأحداث تأميم شركة قناة السويس في 26 تموز يوليو 1956، الخطوة المهمة بشكل خاص لا لمصر وحدها بل للبنك الدولي ايضاً. فقد كانت هذه من اولى المرات التي يتورط فيها البنك في المزالق الخطرة للإقراض الدولي، ومني بالخيبة اثر فشله في ابرام صفقة تمويل القرض المشترك من الولاياتالمتحدة وبريطانيا والبنك الدولي نفسه الى مصر، لكنه استرد مكانته بعد ذاك لدرجة سمحت له بأن ينهض بدور في التسويات المالية في مرحلة ما بعد حرب السويس في أواخر الخمسينات. الحكاية يرويها بشكل جيد كتاب ادوارد ماسون وروبرت آشر الذي عرض التاريخ الرسمي للبنك ونشر في 1973. وكما هو معروف، تبنى الضباط الاحرار بعد وصولهم الى السلطة في تموز يوليو 1952 مشروع ادريان دانينو لبناء سد عالٍ. وفي كانون الثاني يناير 1953، كتب وزير المال المصري عبدالجليل العمري الى رئىس البنك يوجين بلاك يسأله اذا كان مهتماً بتوفير جزء من التمويل او كله. لكن سلسلة كاملة من المشاكل السياسية والفنية برزت حينذاك، ولم يتوصل موظفو البنك الى موقف نهائي ايجابي من المشروع إلاّ في آب اغسطس 1955، معتبرين انه سليم على المستويين الاقتصادي والفني على السواء. نوقشت المسألة بعدها في واشنطن مع وفد مصري برئاسة عبدالمنعم القيسوني. ووافق بلاك مبدئياً على تقديم جزء كبير من التمويل، على ان يُستكمل بقروض من الحكومتين البريطانية والاميركية. لكن كانت هناك قضايا فنية متنوعة تقتضي معالجتها ايضاً، اهمها توفير الوقت بمنح العقد مباشرة الى كونسورتيوم يضم شركات بريطانية وفرنسية والمانية من دون طرحه أولاً للتنافس على صعيد عالمي كما تقضي أنظمة البنك والقوانين الاميركية. ارتكب بلاك عندها خطأً اساسياً ضمن مساعيه لتجاوز هذه العقبة، اذ اقترح ان يُقسّم المشروع الى مرحلتين ليسمح ببدء العمل في تموز يوليو 1956. المرحلة الاولى تضمنت تحويل مجرى مياه النيل، فيما يُنجز السد نفسه في المرحلة الثانية. وذهب موظفوه الى حد التلميح بشكل اولي بأن المرحلة الاولى يمكن ان تُنفّذ من جانب مقاولين تعيّنهم الحكومة المصرية من دون طرحها على التنافس العالمي. لكن الخطة فشلت من البداىة. فعلى رغم ان بلاك أبلغ مديريه في كانون الاول ديسمبر 1955 ان المحادثات اُختتمت وسُلّم القيسوني مذكرة لينقلها الى القاهرة، واجهت الخطة فوراً معارضة من الرئيس المصري جمال عبدالناصر. فالظاهر، على رغم غموض التفاصيل، ان عبدالناصر اعتبر العرض لتمويل المرحلة الاولى فقط مكيدة، هدفها تمكين الأميركيين والبريطانيين من استعمال عرض تمويل المرحلة الثانية للضغط عليه لمصالحة اسرائيل، وهي فكرة كانت وقتذاك تبحث سراً. هكذا، عندما توجه بلاك نفسه الى القاهرة بعد ذلك ببضعة ايام كان الوضع مهيئاً لمواجهة سعى فيها الرئيس المصري، من دون نجاح، الى ان يحوّل عرض التمويل المشروط الذي قدمه بلاك الى التزام مستقل وغير مقيد بشروط. وهو ما رفضه بلاك. يبدو من هذا السرد للاحداث كما لو ان خطة التمويل الغربي للسد انتهت عملياً في كانون الاول ديسمبر 1955. وجاء ذلك قبل وقت قصير من التدهور الحاد في علاقات مصر مع الولاياتالمتحدة وبريطانيا مخلال الاشهر الاولى من عام 1956، وقبل ظهور معارضة قوية في الكونغرس لتقديم اموال الى مصر، وهما السببان اللذان يطرحان عادة لانهيار المشروع كله في النهاية. كما تكتسب هذه المسألة اهمية لأنه اذا كان عبدالناصر نفسه، حسب ما يلمح تاريخ البنك الدولي، صرف الاهتمام بالتمويل الغربي فان ذلك اعطاه ايضاً الكثير من الوقت ليدرس العرض السوفياتي المنافس ولاعداد خطط لتأميم شركة قناة السويس كمصدر عائدات اضافية. كان هناك شخصان اعتبرا ان المشروع لا يزال قائماً حتى اللحظة الاخيرة تقريباً. احدهما هو بلاك نفسه. فمساعيه المخلصة لدعم مشروع كان مقتنعاً بأنه يستجيب لمتطلبات المستقبل الاقتصادي لمصر نالت اعجاب الرئىس عبدالناصر نفسه، الذي دعا بلاك الى استخدام مساعيه الحميدة لتسوية الدعاوى الناجمة عن تأميم قناة السويس والاستيلاء على ممتلكات اجنبية، وهو ما اعقب العدوان الثلاثي على مصر في تشرين الاول اكتوبر وتشرين الثاني نوفمبر 1956. وساهم هذا لدرجة كبيرة في استعادة الصدقية المالية العالمية لمصر بالاضافة الى تمهيد الطريق لقرض من البنك الدولي لتوسيع قناة السويس ذاتها. الشخص الاخر هو أحمد حسين، سفير مصر لدى واشنطن، الذي واصل باخلاص مساعيه للحصول على دعم اميركا لمشروع السد العالي على رغم انه كان يملك من الاسباب ما يدفعه الى الاعتقاد بأن عبدالناصر لم يكن صادقاً معه، وان المفاوضات مع البنك تعرضت، في مراحل اساسية معينة، الى الاعاقة من قبل اعضاء في الحكومة المصرية. كما كان هو الذي أعدّ، بناء على طلب شخصي من عبدالناصر، الكراس الذي يعرض دوافع مصر لتأميم شركة القناة ليكون جاهزاً للتوزيع حال الاعلان عن هذه الخطوة في 26 تموز يوليو 1956. مع ذلك فان الوضع خلّف لديه احساساً قوياً بالمرارة جعله يرفض تسلم اي منصب رسمي آخر بعد استدعائه من واشنطن في 8519. ليس معروفاً اذا كانت هذه هي القصة الكاملة. فحتى فتح ارشيف الرئاسة المصرية الخاص بتلك الفترة لن نحيط بشكل دقيق بمسلسل الاحداث والمفاوضات والنقاشات المكثفة التي رافقت بالتأكيد قرار عبدالناصر البحث عن مصدر آخر لتمويل السد العالي، لكي يستطيع الاعلان عن المشروع في الموعد المحدد له، أي تموز يوليو 1956. لكن ما يتضح من كتاب ماسون وآشر ان البنك الدولي لعب في تلك الأحداث دوراً أكبر بكثير مما كان يعرف. فقد حدد البنك كمية التمويل المطلوبة من الاطراف الخارجية، وحاول التفاوض على التمويل الاضافي من الولاياتالمتحدة وبريطانيا. كما ان خطة المرحلتين، التي يرجح انها كانت السبب الرئيسي في تقويض المشروع، جاءت من البنك نفسه، وذلك قبل شهور من سحب اميركا وبريطانيا عرض التمويل، في اهانة علنية لكرامة مصر. * مدير مركز دراسات الشرق الاوسط في جامعة هارفرد.