قبل أن تنفجر الأزمة المالية والسياسية الأخيرة، سادت اوساط الاحزاب الاشتراكية الاوروبية ومعها الحزب الديموقراطي الاميركي، تأملات تتصل ب "طريق ثالث" و"سياسات طريق ثالث". وقد شبّه البعض هذا الوليد الموعود بالاشتراكية الديموقراطية السويدية، ورآها البعض الآخر نقطة وسطى بين التجربة السويدية وبين الولاياتالمتحدة. وإذا لم يكن حس الأزمة حاداً، بالضرورة وبالتساوي، لدى أهل الطريق الثالث، فالواضح أن تولّيهم المسؤوليات الرسمية لعدد من البلدان وضعهم أمام هواجس مضخّمة للفشل والنجاح. فهم الآن يحكمون، بصورة أو أخرى، كلاً من الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا وايطاليا، وقد يحكمون المانيا أيضاً، ما يجعل أقوى اقتصادات الكون في يدهم. وما بين خوف ضمني لدى بعضهم من ضعف العدّة النظرية والاستكانة التامة الى مجريات الأحداث عملاً بطروحات الصِفر الايديولوجي، أو الاستكانة الى تعريف سلبي نحن لسنا يساراً قديماً ولا يميناً جديداً للذات، وما بين خوف معلن لدى البعض الآخر من ظهور تحديات قد لا تكون مسبوقة ولا متوقعة، حاولت جماعات الطريق الثالث صوغ اسئلتها/ مسائلها في عدد من المحاور: كيفية تأثير الحكومات الديموقراطية على الاقتصاد الكوني الذي يتجاهل، وبصورة متعاظمة، الحدود والقوانين الوطنية، وكيفية التعاطي مع الاجحافات الجديدة التي اطلقتها الرأسمالية في طورها الحالي، ومن ثم كيفية تسليح الافراد بما يدافعون به عن وجودهم في زمن اشد تنافسية بكثير، وأخيراً كيفية اعادة صوغ برامج الرفاه الاجتماعي التي وضعت قبل فترة تتراوح بين الاربعة عقود والستة، تبعاً للبلد المعني، والموازنة تالياً بين دينامية السوق والحاجة الى حماية العائلات والجماعات المحلية من خرابها المحتم؟ بيد ان تعبير "الطريق الثالث" لا يعني، بحال من الأحوال، أن الجميع متساوون كأسنان المشط، اذ لا تزال الدولة ودورها سبباً لانقسام كبير داخل الطريق المذكور. فالكثيرون من قادته كتوني بلير وبيل كلينتون يواكبون السوق الكونية والتجارة الحرة، فيما يبدو ليونيل جوسبان اكثر حذرا، يتلوه في ذلك غيرهارد شرودر، ولو بدا أقرب الى الأنغلو ساكسون مما الى زميله الفرنسي. واذ ترى جماعة "السوق الحرة أولاً" ان المفتاح الى توسيع دائرة "الرابحين" هو تعليم الكفاءات الجديدة واطلاق سيرورة التمهين، يرى يساريو الطريق الثالث ودولتيوهم، على كبير تفاوتهم، ان هذا لا يكفي. فهم يحاجّون بان بلوغ اقتصادات اعدل يتطلب اشكالا جديدة من الضبط الكوني، خصوصا في مجالات العمل والسيطرة على المضاربات التي يسعها، وبسرعة، ان تدمر اقتصادات مزدهرة وتمتص دماءها. ويرد بعض هؤلاء بشراسة على ما يسمّونه بحق "عبادة السوق الحرة". فعلى عكس الاعتقاد الذي أشاعته الريغانية والثاتشرية بأن رأسماليةً لا قيوداً عليها تعزز الديموقراطية، تسود الأوساطَ هذه رؤية مفادها أن نخبة من المدراء والبيروقراطيين هي التي تتحكم بحياة المجتمعات، وهذه النخبة انما تسيء الى الديموقراطية عبر استبعادها المواطن العادي عن عملية صنع القرار، واضعةً العملية المذكورة في ايدي أصحاب المصالح وجماعاتها ممن عيّنوا أنفسهم بأنفسهم في مواقع التأثير. غير ان هذه النخبة، كما يمضي التحليل، لا تبدي الا الفشل في ما خص استجابتها لمسؤوليتها الاجتماعية المفترضة: فهي بدل ان تستثمر في مجالات ضرورية لأي اقتصاد صحي، كتحسين صحة العاملين وتوسيع التعليم، نراها لا تُحدث الا التوسيع لذاتها من خلال إضافة شريحة من "الخبراء" الى الشرائح الموجودة أصلاً. وفيما تتسع الهوة بين هؤلاء ومعهم السياسة والشأن العام، وبين الناس الذين هم موضوع الشأن العام المفترض، تتزايد البطالة التي تشمل الآن في الغرب المتقدم، ما بين 30 و50 مليوناً. والحال ان نبرة النقد هذه ترتفع أكثر فأكثر في الوسط اليساري خارج الطريق الثالث، اذ تظهر مخاوف من ان تؤدي "همروجة" الطريق هذا الى مزيد من اضعاف اليسار من دون اي تعاط مع الاجحافات الاقتصادية والاجتماعية القائمة. وعلى أية حال فقد غدا لمدرسة الطريق الثالث الناشئة والتي يبدو أيضاً أن هيلاري كلينتون غير بعيدة عنها مثقفوها البارزون. ومن هؤلاء أنثوني غيدنز، مدير مدرسة لندن للاقتصاد الذي يرى في الطريق هذا استجابةً لانحطاط السياسات الطبقية القديمة، اذ مع "الانكماش المتسارع للطبقة العاملة واختفاء العالم القطبي"، كما كتب في "نيو ستايتسمان" - المجلة البريطانية التي تحضن النقاش، "تراجع حضور السياسات الطبقية والانقسام التقليدي الى يسار ويمين". وبغض النظر عن بعض المبالغات في ما خص مدى الاختفاءين الطبقي والقطبي، فالصحيح في كلامه ان الطبقة العاملة، اليدوي منها خصوصا، وهي قاعدة السياسات التقليدية لليسار، تنكمش نسبتها المئوية في اجمالي قوة العمل، فيما تحل محلها انواع شتى من عمال الخدمات وأصحاب الياقات البيضاء. ومع ضمور الولاءات الطبقية، تضمر الولاءات الحزبية: فمعظم الاحزاب الاشتراكية في الغرب تستقي مراجعها من احداث فقدت صلتها بالبشر الأحياء، إن لم يكن بمعارفهم فبتجاربهم حكماً. فقلةٌ، مثلاً، من الذين يعيشون في بريطانيا الآن يرتبطون شخصياً أو عاطفياً بالانجازات الاجتماعية لحكومة أتلي العمالية التي انتُخبت في 1945. والشيء نفسه يمكن قوله عن صلة الأميركان الحاليين ب"النيو ديل" الروزفلتي. لهذا يبدو بيل كلينتون وتوني بلير مهجوسين باصوات اهل الضواحي من ذوي الولاءات السياسية الرجراجة، والذين ادى انتقالهم من الحواضر المدينية الى اضعاف روابطهم بالمؤسسات التقليدية لآبائهم من النقابة الى الكنيسة، كما غدوا اشد تأثراً بالاعلام الجماهيري ووسائله وبطرقهم الكثيرة، الخاصة والشخصية، في الحصول على المعلومات. كذلك يميز غيدنز بين نسختي الاقتصاد المختلط عند اليسار القديم، والذي انطوى خارج الولاياتالمتحدة على ملكية الدولة للصناعة، وبين قبول الطريق الثالث بتدخل الدولة لمساعدة الافراد من داخل اقتصادٍ ذي ملكية وادارة خاصتين. وهنا يضم غيدنز صوته الى أصوات كثيرة سجّل أصحابها للديموقراطيين الاميركان اسبقيتهم في الالهام والمرجعية. ثم انه فيما قام اليسار القديم على دعم دولة الرفاه من المهد الى اللحد، فان يسار - الوسط من جماعة الطريق الثالث يركز اكثر على التوظيفات الاجتماعية، خصوصا في مجالي التعليم والتمهين العمالي. فالطريق هذا هو، بلغة اخرى، ثمرة انحسار نفوذ الايديولوجيا الاشتراكية، لا سيما الماركسي منها، بعد انتهاء الحرب الباردة. وهناك أيضاً من يرعى هذه النزعة الثالثية كسيدني بلومنثال، المستشار السياسي في البيت الابيض، الذي ينظّم مؤتمراً يفترض أن ينعقد الشهر المقبل في نيويورك، ويضم زعماء الولاياتالمتحدةوبريطانيا وفرنسا وإيطاليا: كلينتون وبلير وجوسبان وبرودي بالطبع إن لم تؤد ذيول لوينسكي الى اطاحة الرئيس الأميركي. والمؤتمر المذكور يُفترض به مناقشة "أُطرٍ لسياسات مشتركة" تدور حول أفكار أهمها: تخلي احزاب اليسار التقليدي عن الملكية العامة للصناعات الكبرى وخفض الضرائب والحد من خدمات دولة الرفاه، واعتبار هذا التخلي تكيّفاً مع قوى السوق المعولمة وما تسببه من عمليات تفكك في مواضع الانتاج التابعة لاقتصادات البلدان الصناعية والديموقراطية. فالمطلوب من أوروبا، في هذا النطاق، ان تتعلم من الولاياتالمتحدة، اكثر فاكثر، كيف "تُدخل عنصر المخاطرة في طرق اشتغال مجتمعاتها، وذلك من اجل الموازنة بين الأمنين الاجتماعي والاقتصادي". وبهذا المعنى فان التقديمات الاوروبية في ما خص التقاعد والصحة وغيرهما، مما يشكل شبكة امان للكثير من بلدان القارة، لا يعود يمكن الحفاظ عليها حين تؤدي الضرائب المرتفعة وأكلاف الأجور الى اضعاف القطاع الخاص وقدراته التنافسية. وفي المقابل تطارد أهلَ الطريق الثالث تساؤلات الشكاكين والنقاد والسيناكيين التي لن تزيدها الأزمة المالية الأخيرة الا تأججاً. وهذه التساؤلات، كما نقلها الأميركي ي. ج. ديون، تُختصر في ما يأتي: هل الطريق الثالث أفكار جدية أم هو مجرد شعارات اعلانية في الأسوأ، انتخابيةٌ في الأحسن؟ وهل يمثل جهودا حقيقية لخلق اشكال جديدة من السياسات التقدمية، ام انه تنازل آخر لليمين، وانتصار أخير، وليس آخراً، للريغانية والثاتشرية؟ ثم هل الطريق الثالث شكل ذكي من تجميع وتحزيم العوامل والسلوكات السياسية التي اتبعها كلينتون وبلير للفوز في الانتخابات، ام هو طريقة لتمييز النفس عن اليمين المتطرف واليسار القديم من دون اي تعريف ذاتي لهذه النفس؟ فكثيراً ما يؤخذ على انصار الطريق الثالث، وهو ما يقلق بعضهم، أنهم يعرّفونه بما ليس هو: ففي رسالة مفتوحة وجّهت الى توني بلير في مطالع العام ونشرتها مجلة "نيو ستايتسمان"، حاجّ المفكر الاجتماعي رالف دهرندورف بأن التعريف الذاتي أكبر مشاكل الطريق المذكور. ف"لا هذا ولا ذاك"، كما كتب، "يجبرك على تقديم الآخرين كاريكاتورياً". فاليسار القديم يبدو اشتراكيا اكثر، والديموقراطيون القدامى دولتيين اكثر، والريغانية/ الثاتشرية تبدو اشد تماسكاً مما الواقع متماسك، وأشد خساسة منه في الوقت عينه. واهم من هذا، كما يمضي دهرندورف واضعاً يده على الأزمة الايديولوجية، انك "حين تعرّف نفسك بمصطلحات الآخرين، فانك تسمح لهم بان يحددوا اجندتك". فاذا كان الطريق الثالث، اساسا، ردة فعل على اليسار القديم واليمين الجديد، فانه مرشّح لأن يُرى أسيراً لسجالات قادمة من الماضي، اكثر مما كمرشد للمستقبل. والغريب، لدى النقاد، ان كلينتون وبلير يأتيان بمثالاتهما ومراجعهما من تواريخ سابقة على التي يستشهدها اليسار التقليدي، فيرجع الاول لا الى الروزفلتية بل الى "الحقبة التقدمية" لأميركا منعطف القرن، كذلك يرجع الثاني لا الى حكومة أتلي بل الى حكومة 1906 الاصلاحية الليبرالية التي سبقت قيام حزب العمال بصفته هذه. ثم اذا صحّ ان الطبقة الوسطى عرُضت وزاد وزنها، فيما الطبقة العاملة انكمشت، الا ان الصحيح أيضاً اتساع ظاهرة المستبعدين والمهمّشين وأبناء دواخل المدن حيث يتكاثر العنف وتنسد آفاق المستقبل كما تتعطل امكاناتٌ كانت لتكون واعدة اقتصادياً وانتاجياً. فكيف حين نضيف تفاعل هذه الأزمة مع أزمة أخرى تنجم عن الهجرة في ظل ضعف الوسائط الكفيلة بدمج المهاجرين، أحزاباً ونقاباتٍ وكنائس و... مناطق سكنية؟ وبدورهم يقلل النقاد، بقدر لا يخفى من السخرية، من طابع الجدّة التي يسبغها أصحاب الطريق الثالث على أنفسهم وعلى دعوتهم. فجذور هذه النزعة قديمة، على الأقل في بريطانيا، حيث عرّف برنارد شو الاشتراكية بأنها ما يتبناه "أي مواطن عادي محترم من دون أن يُلزم نفسه بهوى ثوري". وفي وقت يرقى الى 1905 رأى رامزي ماكدونالد الذي أصبح لاحقاً أول رئيس حكومة عمالي أن "كلمة السر في الاشتراكية ليست الوعي الطبقي، بل وعي الجماعة". وفي الستينات أكد هارولد ويلسون، الذي بكّر في الانتباه الى الثورة التقنية ومفاعيلها، على غلبة "سياسات الطمأنة" على "سياسات الاثارة"، تأكيده على أن مرجعية حزب العمال ليست أوروبية وثورية كالماركسية، بل هي أفكار تم تجريبها في انكلترا قبل الماركسية بقرون، واهمها المسيحية. ولم يكن تعويل ويلسون على المسيحية فكرياً بحتاً بل كان انتخابياً أيضاً، ملاحظاً أن عدداً كبيراً من الذين انضووا في "العمال" انما فعلوا ذلك لاعتقادهم أن الاشتراكية "طريقةٌ لتحويل المبادىء المسيحية الى واقعٍ في الحياة اليومية". واندفعت الوسطية والانتخابية خطوة أبعد مع نيل كينوك، اواسط الثمانينات، اذ دعا "العمال" الى تبني "الطريق الثالث" حرفياً. فهذا التبني إذ يأخذ في الاعتبار التحولات المجتمعية الناشئة، فإنه يسمح للحزب بأن يعيد موقَعَة نفسه وتحديد اصطفافاته. ومضى كينوك يومها مهاجماً "الطليعية البائخة لأقصى اليسار، والفذلكات الخجولة والتي تستلهم الماضي لدى الاشتراكية الديموقراطية". ولئن عزز جون سميث، خليفة كينوك، النزعة المسيحية في "العمال"، فإنه أكمل ما بدأه سلفه على جبهة الحزبية كأداة انتخابية أولاً وأساساً، ولهذا كان ينبغي، في عرفه، نقل الحزب من "السلبية" الى "الهجومية السياسية". وفي النهاية، ما "الجديد" حقاً في الاحتكام الى المسيحية والانتخابية والمرجعية الوطنية أو القومية؟ بيد ان المعضلة الاساسية للطريق الثالث تتعلق بالتعاطي مع الاقتصاد الكوني، بعد مصاعب توفيقه مع الدولة الموجهة او حتى المنظمة. فاستثمارات الشركات والاستثمارات الخاصة يصعب ضبطها، ومن الصعب فرض ضوابط العمل من دون حدود وطنية راسخة، الشيء الذي يصح أيضاً في القوانين الضريبية. لكنْ مؤخراً بدأت أوساط يسار الطريق الثالث، تبدي تفاؤلها بالقناعات التي شرعت تنسجها الأزمة الأخيرة الراهنة. ومن هذا القبيل يشار الى صدور التقرير الحكومي البريطاني عن "الاستبعاد الاجتماعي"، والى بعض التأويلات الصحافية التي قرأت الخطابات والتصريحات الأخيرة لشرودر بصفتها "انعطافاً قليلاً الى اليسار". لكن، مع هذا، يبقى أنه ربما كانت نقطة القوة الاهم لدى الطريق الثالث ان الآخرين، في اليمين او اليسار، لا يملكون افكاراً أفضل لعالمنا وتحديات العولمة. فاليمين يقف عند نصف المشكلة عجز بعض المجتمعات عن التكيف مع الرأسمالية، واليسار يقف عند نصفها الآخر عدم ضبط الرأسمالية العابرة الحدود. الا أن الأول لا يجد اية مشكلة في هذه الرأسمالية نفسها والتي، في ظل العولمة، غدا يستحيل الحديث عن مجتمعات بعينها من دون الحديث عنها وعن صلتها بها. وفي المقابل لا يتقدم اليسار خطوة واحدة نحو اقتراحات عملية تطول القدرة على الضبط والتحكم في ظل التداخل الراهن للأسواق. وفي غضون ذلك يُطلق النقاش ما هو غثّ وما هو سمين. أما سمينه فالمحك العملي لامتحانه جاهزٌ، على الأقل بسبب الأزمة والحاحها. وأما غثّه فيمكننا نحن العرب ان نشم رائحته التي تشبه روائح "النظرية الثالثة" و"اللا شرقية واللا غربية"... * كاتب ومعلّق لبناني.