بعد عشرة أعوام من حصول فيلم "عمراً مديداً للسيدة" للمخرج الإيطالي ايرمانّو أولمي وعلى عكس جميع التوقعات التي سادت في أيام المهرجان، عادت السينما الإيطالية الى الفوز بأهم جائزة يمنحها أعرق مهرجان سينمائي إذ فتحت لجنة التحكيم الدولية للدورة ال55 من مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي جائزتها "الأسد الذهبي" الى الفيلم الإيطالي "هكذا كانوا يضحكون" للمخرج جاني اميليو، ووزعت الجوائز الأخرى على الأفلام التي كانت أقوى ترشيحاً من جميع النقاد الحاضرين في المهرجان، ومن بين هؤلاء المخرج اليوغوسلافي "البوسني الأصل" أمير كوستوريكا الذي مُنح جائزة الأسد الفضي لأفضل مخرج. وما عدا هذه المفاجأة "إذا جاز التعبير" فلم يكرر مهرجان فينسيا ما اعتاد عليه في السنوات الأخيرة بمنح الجائزة الرئيسية الى مخرجين يأتون من خارج الانتاج الغربي الكبير - فبعد أن منح أسده الذهبي في السنوات الأخيرة الى مخرجين كانت الجائزة فاتحة طريق بالنسبة لهم مثل الصيني زهانغ ييمو عن فيلمه "حكاية كوي - جو - 1992" والمقدوني ميلكو مانكينسكي عن فيلمه "قبل هطور المطر - 1997"، والى ممثلين شباب وواعدين، عاد في هذه الدورة ليؤكد على الجوائز ل"الرعيل الأول". فإلى جانب جاني آميليو الفائز بالأسد الذهبي وكوستوريكا الفائز بالأسد الفضّ للإخراج حازت الممثلة الفرنسية الكبيرة كاثرين دونوف ب"كأس فولبي" لأفضل تمثيل انثوي عن دورها في فيلم "ساحة فاندوم" للمخرجة الفرنسية "الجزائرية المولد" نيكول غارسيا، ومنحت لجنة التحكيم جائزة "كأس فولبي" لأفضل تمثيل ذكري الى الأمريكي شون بين عن دوره في فيلم "هارلي بيرلي" من اخراج الأميركي آنتوني ورازان، فيما عثرت، إدارة المهرجان ولجنة التحكيم الدولية على "تسوية سلمية" بل بقرار منح الممثل والمخرج الأميركي الكبير وارن بيتي جائزة "الأسد الذهبي للحياة الفنية" بعد أن كان مرشحاً قوياً للفوز بفيلمه "بولوروث" بأكثر من جائزة وفي مقدمتها جائزة أفضل تمثيل ذكريّ لأدائه دور السناتور جي بولوروث وأزماته بشكل رائع. وكانت ادارة المهرجان ومجلس ادارة البنيالة قد قررا منح الأسد الذهبي للحياة الفنية للنجمة الإيطالية صوفيا لورين "وتسلّم الجائزة عنها زوجها وولداها والمخرج البولندي الشهير أندريه فايدا. وعلى الرغم من أن مدير المهرجان "المستقيل" فيليتشي لاوداريو اقترح في آخر مؤتمر صحافي "إلغاء جوائز المهرجان واعتبار مشاركة الأفلام في المهرجان جائزة بحد ذاتها، بشرط أن لا يتجاوز عدد الأفلام المشاركة 40 فيلماً" فإن من المستبعد أن تحقق إدارة البنيالة له طلباته، ومن بين هذه الطلبات استقالته من ادارة المهرجان، لأنه ما يزال "حتى الآن" أقوى المرشحين للاستمرار وأفضل الأسماء المطروحة. ولم تكن مهمة لجنة التحكيم الدولية هينة في اختيار الأفلام الفائزة، خصوصاً وأن أكثر من فيلم كان يقف على قاب قوسين أو أدنى من المنصة العالية للجوائز، ومن بين الأفلام فيلم "الغمامة" للمخرج الأرجنتيني فرناندو "بينو" سولاناس الذي منح جائزة أفضل موسيقى حية، وفيلم "حكاية الخريف" للفرنسي أريك رومير الذي منح جائزة أفضل سيناريو. وذهبت جائزة لجنة التحكيم الخاصة الى فيلم "جنة النهايات" للروماني لوسيان بينتلليه، وكان يستحق بحق جائزة في المسابقة. وعلى الرغم من عدم كون فيلم الإيراني محسن مخملياف "الصمت" أفضل أعماله، فقد كانت الصحافة الإيطالية ترشحه في المقدمة من الفائزين، ومنحته لجنة التحكيم الخاصة "جائزة مجلس الشيوخ الإيطالي" وذلك لمضامينه الإنسانية والحضارية، ويمكن اعتبار هذه الجائزة تشجيعية، وكان بالإمكان أن يفوز بها أكثر من فيلم عرض داخل المسابقة. وكانت إدارة المهرجان قد استحدثت في هذه الدورة جائزة "مارتشيللو ماستروياني لأفضل ممثل واعد"، وقد منحت الى الممثل الشاب نيكولو سينّي عن دوره "سيد هارتا" في فيلم "شجرة الكمثرى" للإيطالية فرانشيسكا آركيبوجي. ومنحت جائزة أفضل تصوير الى الإيطالي لوكا بيغاتسي عن تصويره لفيلم فرانشيسكا آركيبوجي، وهو مدير التصوير الذي أدار فيلم "هكذا كانوا يضحكون" لجاني آميليو الفائز بالأسد الذهبي. وحصلت السينما العربية الممثلة بالفيلم الجزائري "العيش في الجنة" لبوعليم كيرجو و"غدوة غرق" للتونسي محمد بن إسماعيل على العديد من الإشادات، ومما تجدر الإشارة إليه حضور شركة انتاج سينمائية عربية فتيه في أول سوق للفيلم يقام ضمن المهرجان، إذ يمكن اعتبار حضور الشركة التونسية "نومادس ابماجيس" التي تديرها درة بوشوشة الفراتي بالتعاون مع إبراهيم لطيف فاتحة جيدة لمحاولات السينما العربية الوصول الى الأسواق الأوروبية. الصمت خارج الحدود وعودة الى الأفلام فإن محسن مخملباف ينتقل خارج حدود وطنه "للمرة الثانية بعد شريط زمن الحب" لينجز عملاً عن الموسيقى وقدرتها العالية لتتحول الى بصيرة أقوى من النظر، فبطل مخملباف في فيلم الصمت، طفل أعمى سكنت الموسيقى في جوانحه. ف"خورشيد" تمكّن من الاستفادة من قدرته الحالية في استخدام حاسة السمع وتحويلها الى أداة للعلاقة مع العالم الخارجي وذلك في شكل مفاعل موضوعي تختلط فيه الحواس ويتحول الصوت "أو بالأحرى - النغمة" الى حاسة للشم "مثل لقطة قيامه بتذوق قطعة الخبز" أو الى أداة للتعرف على مدى نضوج الفاكهة "كما تحدث في لقطة تقريب حبة الرمان الى أذنه". وبما أن خورشيد، الذي يعيش في طاجيكستان، لا ينتمي الى طبقة اجتماعية مرفهة تتمكن من التغلب على العجز الجسماني لديه، فإنه، على الرغم من براعته، في "دوزنة" الآلات الموسيقية الوترية التقليدية، يتعرض الى الطرد من العمل بسبب تأخره في الوصول الى مشغل صانع الآلات الموسيقية، وفيما يعجز خورشيد في طمأنة ومنع أمه وضمان أجرة المنزل للوقوف ضد تهديدات صاحب البيت، فإنه يتمكن، انطلاقاً من الضربات الكريهة الأربع التي يسمعها كل يوم عندما يطرق صاحب البيت باب المنزل، من تأليف "سيمفونيته - الخامسة - الإيرانية" وذلك في توليف مشهدي وصوتي يقرب الى التكوين المسرحي في نهاية الفيلم، مع استعارة واضحة للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن. وعلى الرغم من أننا كنا نفضل أن يختم مخملباف فيلمه بمعزوفة شرقية أو إيرانية، فإن المخرج يؤكد بأن هذه السيمفونية مرتبطة بذاكرته، فهو يقول بأن "هذه السيمفونية هي أول مقطوعة موسيقية غربية أسمعني إياها والدي عندما كنت في الخامسة". "الغمامة" من الأرجنتين وتشكل الموسيقى، أو بالأحرى، الغناء، عنصر الربط الإيقاعي في فيلم "الغمامة" للمخرج الأرجنتيني الكبير فيرناندو سولاناس "62 عاماً"، فهو يؤكد بأن الموسيقى وأغاني العمل أنجزت قبل البدء بالتصوير، وبهذا كانت المحرك الأساسي خلال تصوير الفيلم. وتدور أحداث الفيلم في بوينس آيرس التي يبللها مطر متواصل منذ وقت طويل، وفيما يتواصل المطر فإن المدينة تشهد متغيرات عديدة "تتراوح ما بين سياسة العولمة التي تمسح كل خصوصية وطنية وقومية" كما يقول المخرج، و"ثورة غريبة المظاهر تحاول اكتساح ما هو أصيل في هذا المجتمع"، ومن بين رموز هذه الأصالة مسرح قديم مثّل "على الرغم من خسارته مادياً" معلماً أساسياً من معالم التقاليد الثقافية والمسرحية الأرجنتينية. ويتعرض هذا المسرح، مثل بقية العمارات التي تقوم حوله الى خطر الهدم "ربما ليجري بناء مطاعم أو مرآب سيارات أو سوبر ماركت"، لكن عناد ممثلي المسرح "ماكس، فولو، باولو، انريكي، ادواردو، تيتو..." ومعهم الحضور القوي الممثل ببورتريهات لشكسبير وبيرتولت بريخت ولوجي بيرانديللو وصاموئيل بيكيت وفدريكو غارسيا لوركا ويوجين اونيل وغيرهم من كبار المسرح العالمي، يتمكن من وقف زحف الجرافات على المبنى وتخليصه من ضربات بلدوزر التهديم، ليعود المسرح صادحاً بالعرض ولتبدأ الغمامة الأرضية زحفها على المسرح - الشارع ملفعة المشهد بملاءة جميلة تشير وتؤشر بوصول الخير وانتهاء خطر هدم المسرح "أو ربما تأجيله لحين من الوقت". وعلى طريقته المعتادة وبالاعتماد الكامل على أداء ممثليه وبالابتعاد الكامل عن أية فذلكة سينمائية حقق المخرج الفرنسي ايريك رومير رائعة جديدة تحمل عنوان "حكاية الخريف". ف"ماغالي" - وقد أدت الدور بياتريس روماند - تعمل مزارعة كروم وهي تشعر في الخامسة والأربعين من العمر بالوحدة الموحشة بعد أن كبر أبناؤها وهجروها. ويثير الحزن الشديد الذي تشعر به ماغالي قلقاً شديداً لدى أصدقائها، وبالذات لدى صديقتها ايزابيل "أدتها ماري ريفير" وخطيبة ابنها اتيين "أدتها ديدري ساندر"، وفيما هي منشغلة بمتاعبة نضوج عناقيد كرومها تعمل المرأتان الأخريان على انضاج وضع جديد يخلّصها من حالة الوحدة الموحشة، ويعرض رومير في هذا الشريط أيضاً ما يمكن أن تؤول اليه العلاقات الإنسانية بسبب أحداث تبدو في ظاهرها مصادفة، "وربما هي في الواقع ليست كذلك!"، وما يمكن أن تفضي اليه من تشابكات وعلاقات جديدة.