تميز فيلم «الصمت» The silence للمخرج الإيراني محسن مخملباف بالحس الفني الرهيف في كل مشاهده ولقطاته، دون مبالغة، لما تضافر فيه من اشتغالات فنية سينمائية متكاملة، لا سيما في سرد التمازج الجمالي البصري بالسمعي في «كوادر» مختارة بدقة، بل وتجانسها الانسيابي في سياق الفيلم الذي يتداخل مع مشاعر طفل كفيف ولكنه عالي الحساسية الفطرية بحاسة السمع. فما يزيد من قيمة التمازج بين هذين العنصرين والرؤية الفنية، هو أن هذا الصبي ضرير وفقير ويمتلك إحساساً سمعياً مرهفاً، لطالما تتأجج بداخله لتصبح الموسيقى والأصوات بشكل عام شغفاً حقيقياً يسيطر على وجوده ووجدانه، ولذلك سخّر موهبته هذه لتكون مصدراً لرزقه الذي يقتات منه هو ووالدته البائسة. من هنا، ومن هذه الحبكة الدرامية قام المخرج الإيراني متعدد المواهب محسن مخملباف بإخراج هذا الفيلم وإنتاجه، وكتابة السيناريو له، وتنفيذ المونتاج، وتصميم الديكورات الداخلية، وتحديد المواقع الخارجية للتصوير، وأشرف على أداء الممثلين وغير ذلك.. وحقق الفيلم خلال عامين من الاشتغال الحثيث وعرضه عام 1998 في عدة مهرجانات، ونال عنه ثلاثة جوائز في مهرجان البندقية السينمائي، بعد أن رُشح لجائزة الأسد الذهبي في ذات المهرجان، وبعد أن أثرى السينما الشعرية بفيلم تحفة لا يمكن تجاوزه إذا ما ذُكرت السينما الشعرية. غير أنه كان لابنتيّ مخملباف نصيب في مشاركة والدهما في العمل على إنجاز الفيلم؛ إذ عملت ابنته «سميرة» مساعدة له في الإخراج، وابنته «هناء» مشرفة على النص السينمائي وتدقيق مونتاجه.لكن حقيقة ما يزخر به الفيلم هو التصوير البديع لتلك المشاهد المؤثرة بجماليتها البالغة، بل والمفعمة بالعفوية المتجانسة التي لا تشوشها لقطات صادمة أو مفاجأة، وغير ذلك فإن المخرج اعتمد على وضعية الصور الأخاذة للتكوينات البصرية الطبيعية التي حفل بها الفيلم. إضافة إلى هذا وذاك فإن الموسيقى والأغنيات التي تنساب خلال أحداث الفيلم تؤثر تأثيراً ساحراً بالمُشاهد، وليس الموسيقى والغناء فقط، ولكن الأصوات بشكل عام التي يسمعها المُشاهد بأذن الصبي. تتحرك كاميرا المصور إبراهيم غفوري عبر مزارع القطن والنهر والأسواق الشعبية والمحال التجارية في طاجيكستان لتقدم صورة اجتماعية وواقعية للحياة في تلك البلاد الجميلة. إذن، تقع أحداث فيلم «السكوت» (Sokout) أو «الصمت»، بحسب ما تعنيه الكلمة باللغة الفارسية، في قرية صغيرة بطاجيكستان، ينحدر سكانها من أصول إيرانية ويتحدثون اللغة الفارسية.. يتناول الفيلم قصة هذا الفتى الكفيف في العاشرة من عمره واسمه خورشيد (قام بالدور الطفل تحمينا نورماتوفا)، وهو يعشق الموسيقى وأصوات الطبيعة، ويتمتع بموهبة التعرف على الأشياء عن طريق أصواتها، ربما كمعظم الأكفاء، ولكنه يفوقهم في ذلك للدرجة التي جعلته يعمل «مدوزناً» للآلات الموسيقية في محل لبيعها بسوق قريته. ورغم صغر سن خورشيد وفقره، فقد أصبح العائل الوحيد لوالدته، بعد أن هجرهم والده وانتقل إلى روسيا. وكما عرفنا منذ البداية فإن خورشيد ولد ضرير، وهذا لا يعني أنه فاقد البصيرة. فهو يعيش في عالم خاص به ينبض بالحيوية بفضل روحه المستشعرة للجمال المحيط به في بيئة حافلة بالمكونات الطبيعية الخلابة. غير أنه أصبح يواجه مشكلة تؤرقه، فهو في كل يوم يصل إلى عمله متأخرا، بسبب ولعه بالموسيقى التي يعزفها الموسيقيون الشعبيون المتجولون في شوارع القرية، وتجبره على التوقف لسماعها، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تأخره عن عمله، وبالتالي غضب منه صاحب المحل الذي يعمل فيه، ويقرر الاستغناء عن خدماته.. هنا تقوم صديقته الطفلة (نادرة) بمحاولة مساعدته بعد أن تفهمت حقيقة سبب تأخره عن العمل، وعرفت مدى انجذابه للأصوات من حوله، فتقترح عليه أن يضع القطن في أذنيه حتى لا يسمع ما يدور حوله وبالتالي يكون طبيعياً.. وفي مشهد من أجمل مشاهد الفيلم يقوم «خورشيد» بدوزنة آلة البوزق والعزف عليها، فتطرب «نادرة» فتقوم وتؤدي رقصة تعبيرية لطيفة من التراث الطاجيكي وهي ترتدي ملابسها المحلية المزركشة بتطريزات خاصة هي جزء من هوية النساء في تلك المنطقة.. يقول لها ضمن حواراتهما الطفولية البسيطة والمليئة بالفلسفة والمنطق: عندما تريدين أن تري الجمال حولك أغمضي عينيكِ، ارقصي وأنتِ مغمضة العينين. ولكن كما أسلفت فإن تأخره عن العمل أصبح مشكلة، وأدى بدوره إلى انقطاع كسبه للمال، فصاحب العمل يوبخه، ويقتطع جزءاً من راتبه كجزاء على تأخره، حتى أنه فصله من العمل، وأدى ذلك بالتالي إلى تهديد من صاحب البيت الذي يسكنه الصبي مع والدته بإخلاء المنزل بعد أربعة أيام بسبب تخلفهما عن دفع الأجرة. هكذا ينبني الخط الدرامي وتتشكل أزمة قصة الفيلم في مسارها الحكائي، ولكن في مسار الفيلم الفني يتشكل بُعد آخر: هو ما يدور داخل الصبي خورشيد، فحين يكون هائماً في صمته ولا يسمع الموسيقى في شوارع القرية، فإنه يتخيل سماع المقطع الأول من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن إلى درجة أن هذا يشعره بأن هذه الموسيقى تستحوذ على عقله أينما كان، سواء أثناء سيره في شوارع القرية أو على شاطئ النهر، وعندما ينقطع صوت الموسيقى بداخله يسمع صوت أزيز دبور أو نحلة لا تكف عن الطنين في أذنه.في هذا، يذكر المخرج محسن مخملباف في أحد لقاءاته أنه في هذا الفيلم يستعيد بعض الذكريات الخاصة به في مرحلة طفولته. فحين كان طفلاً صغيراً كانت جدته المتزمتة تجبره على وضع أصابعه في أذنيه لكي لا يسمع الموسيقى «الشريرة» في الشارع. فكان أول ما سكن ذاكرته من الموروث الغربي سماعه للمقاطع الأربعة الأولى من السيمفونية الخامسة لبيتهوفن التي استخدمها ببراعة في الفيلم؛ لذلك كلما تذكَّرها يلوذ بالصمت حتى يرهف السمع لعزف هذه الموسيقى التي تنساب بداخله.