بدا السيد أعظم طارق زعيم حزب "سيباهي الصحابة" الطائفي الباكستاني العنيف - في رسالة بعثها الى صحيفة "درب المؤمنين" التي تصدرها حركة طالبان - مبتهجاً بالانتصارات الأخيرة التي حققها اخوته في الايديولوجية. وهو ابتهاج شاركه فيه قادة جهاز الأمن الوطني الباكستاني ولكن لأسباب غير ايديولوجية. فقد ظل الوصول الى "عمق استراتيجي" شغلاً شاغلاً للسياسة الباكستانية تجاه افغانستان منذ عهد الجنرال محمد ضياء الحق. قامت حركة طالبان خلال السنوات الماضية بازاحة قلب الدين حكمتيار الذي كان يستخدم أداة لتحقيق ذلك الهدف. ولعل انتصاراتهم الأخيرة، خصوصاً استيلاءهم على مزار الشريف التي تمثل الجهاز العصبي المركزي للشمال الأفغاني، تدنو بباكستان أكثر فأكثر نحو تحقيق هدفها إذا كان لما يسمى "العمق الاستراتيجي" وجود في العالم الحقيقي عدا رؤوس بعض العسكريين التي يسكنها هاجسه. والواقع انه لا وجود له حقاً. فهو ليس فكرة من الأفكار التي يتكون منها التفكير العسكري، ما لم يكن المرء بصدد الاشارة الى موقع يصعب الوصول اليه ويمكن أن يلوذ اليه بسلام أي جيش مهزوم. وبدلاً من التأثير بشكل ايجابي في المحنة الاستراتيجية والسياسية التي تعانيها باكستان، يبدو أن انتصار "طالبان" زادها تفاقماً. وأسباب ذلك عديدة ومقنعة. لندرس هذا المثال: من المتطلبات الأساسية للأمن القومي أن تنعم الدولة بعلاقات طيبة مع الدول المجاورة لها. وإذا شاءت اقدار دولة ان تكون جارتها خصماً لها، فلا يخدم مصالحها الأمنية أكثر من أن تقيم علاقات ممتازة مع الدول الأخرى المحيطة بها. ومن سوء حظ باكستان انها نشأت في محيط خصومة مع الهند وهي دولة مأهولة بالسكان ومكتظة بالموارد. ولا يبدو أن تلك العداوة ستكون لها نهاية، بل زادت أخيراً إثر التسابق على اقتناء السلاح النووي وادارة الحرب عبر اطراف ثالثة. ويزيد نمو النزاعات الاقليمية والعرقية هشاشة الوضع ليصل به الى حافة الحرب. فيما كانت البيئة الاقليمية مواتية لتعزيز الصداقات القديمة وخلق صداقات جديدة. لكن اسلام اباد عمدت - كما يبدو - على استبعاد الأصدقاء الفعليين الذين كان يمكن أن تكسب صداقتهم. وظلت باكستان حتى وقت قريب تقيم علاقات طيبة مع ايران والصين. وخلال هذا العقد ظهرت دول جديدة في آسيا الوسطى لتزيد عدد الشركاء التجاريين والحلفاء الاستراتيجيين المحتملين لباكستان. كما أن نهاية الحرب الباردة وضعت حداً لعداوتها مع روسيا وأتت بتباشير تحالف اقليمي ودي. وكانت افغانستان مصدر قلق منذ زمن طويل، اذ ظلت تطالب بأراض في المقاطعة الباكستانية التي يقطنها البشتونيون. غير أن الغزو السوفياتي لافغانستان وتأييد باكستان للمجاهدين الأفغان المناوئين للشيوعية وضع حداً للعداوة بين اسلام اباد وكابول وأعطى لباكستان نفوذاً على افغانستان. غير أن باكستان اساءت استخدام ذلك المكسب ما عاد عليها بالضرر. أدت سياستها تجاه افغانستان - التي تتلخص في البحث عن وهم اسمه "العمق الاستراتيجي" - الى نفور حلفائها السابقين واغلقت الباب - في الوقت نفسه - أمام بناء صداقات جديدة، بل ان قادة أجهزتها الأمنية أهدروا فرصاً تاريخية وأوجدوا لباكستان نمطاً جديداً من المشاكل التي تواجه أمن البلاد. ولا تني طهران تعلن صراحة عداءها للمساندة التي تقدمها باكستان الى حركة طالبان، اذ قال الرئيس السابق هاشمي رفسنجاني في احدى خطبه أخيراً: "لدينا اتفاق مع باكستان على عدم حل المشكل الافغاني عن طريق الحرب ... وقد حصل ذلك الآن ونحن ببساطة لن نقبله". واثر ذلك تظاهر مئات الايرانيين أمام السفارة الباكستانية في طهران ضد "طالبان المهووسين الآتين من القرون الوسطي" بسبب احتجازهم 11 ديبلوماسياً ايرانياً رهائن، وقصفهم بلا رحمة الأحياء المدنية في مدينة باميان. ووصف وزير الخارجية الايراني كمال خرازي استيلاء "طالبان" على مزار الشريف بأنه "تهديد للمنطقة". ويبدو أن القرار الذي أصدره مجلس الأمن الدولي إثر ذلك متطابق مع ما ذكره الوزير الايراني. وأصدرت روسيا تحذيراتها. وردت طاجكستان واوزبكستان على تقدم قوات "طالبان" بتعزيز دفاعاتها. وردت وزارة الخارجية الباكستانية بتصريحات شديدة اللهجة عن براءتها وحيادها تجاه افغانستان. وهو أمر لم يصدقه أي ديبلوماسي في مقر الأممالمتحدة في نيويورك. ولا شك في أن فقدان الصدقية على هذا المستوى العالمي لا يمكن أن يعد انجازاً للسياسة الخارجية الباكستانية. كما ان بيانات النفي لن تكون بديلاً من السياسة نفسها. والحقيقة ان ايران - وهي جارة مهمة وصديقة تقليدياً - تشعر بنفور شديد مما تعتبره رعاية باكستانية لحركة طالبان. أما روسيا - وهي قوة عظمى - فاحتجت على ذلك. أما الدول المستقلة حديثاً - اوزبكستان وطاجكستان وقرغيزيا التي كانت تتطلع الى اسلام اباد لمساعدتها والاسترشاد بها - فباتت تتطلع اليها اليوم بشيء من الخوف. وتبدو باكستان اليوم معزولة سياسياً، وهو وضع تقتسمه مع "طالبان" التي تقدم الى العالم وجهاً مشوهاً للاسلام. ولا يزال غير ممكن حتى الآن تخطي نتائج تلك العزلة، لكن من المؤكد أنها ستزيد الى درجة كبيرة الشعور بعدم الأمن الذي ظل يطارد باكستان خمسة عقود وساهم بقدر كبير في بؤسها وانغماسها في التسلح. وبقي الثمن الذي تدفعه باكستان نتيجة سياستها تجاه افغانستان يزيد فداحة منذ العام 1980، عندما اعلن الجنرال محمد ضياء الحق بكل زهو بلاده "دولة مواجهة" ابان الحرب الباردة. ويرجح ان يتضاعف ذلك الثمن الذي يتجلى في انتشار الأسلحة والهيروين والمتطرفين المسلحين. ومن المؤكد ان اسلام اباد ستساند حركة طالبان على تعزيز مكاسبها. وسواء أنجح ذلك أم لم ينجح فهو سيكون تعهداً باهظ الكلفة، وهو حساب ليست هي على استعداد لتحمله. ذلك ان انتصارات "طالبان" لم تضع حداً لتحديات منافسيها. فهم باقون ولا يفتقرون الى من يرعاهم. وتبدو فرص استمرار الحرب عبر أطراف أخرى وافرة. وقد يتطلب الابقاء على "طالبان" منتصرة بلايين الدولارات حتى إذا افترضنا ان باكستان ستنجح في تجنب خوض حرب أكبر مع ايران أو روسيا أو كلتهما. إن كلفة إعادة إعمار افغانستان تقدر، بتحفظ، بنحو 40 بليون دولار، وهو مبلغ لا تستطيع باكستان ان توفره حتى لنفسها. إذن من سينفق على "طالبان"؟ ان أصحاب الأحلام الاستراتيجية في اسلام اباد يحلمون بأموال الدول الصديقة وتجار النفط الأميركيين لينشئوا خط أنابيب نقل النفط من تركمانستان الى كراتشي. ان باكستان تجد نفسها مرة أخرى في فخ أوهام مفعمة بالمغامرات، ومرة أخرى سيدفع الثمن الشعب وليس صناع القرار. لقد دخلت باكستان اللعبة من دون ان تكون لديها موارد قوة عظمى - اللعبة النوية وغير النووية - وهي اللعبة التي اكتشفت الدول العظمى انه صعب عليها ان تستمر فيها. كما ان الكلفة الداخلية لجيرة باكستان مع "طالبان" أمر لا يمكن تقديره وينطوي على كارثة محتملة. ولعل تورطها في قضية بن لادن - شاءت أم أبت - ابلغ مثال. والأهم من ذلك أن "طالبان" تمثل أكثر الحركات السياسية تخلفاً في تاريخ الاسلام. * أستاذ جامعي باكستاني مقيم في واشنطن