أدت مقاطعة الحركة الإسلامية للانتخابات النيابية الأردنية العام 1997 إلى تفاعلات سياسية وتنظيمية شغلت أوساط الحركة الإسلامية ووسائل الاعلام، وحتى الهيئات الديبلوماسية في الأردن أبدت اهتماماً كبيراً وشاركت في حوارات ومحاولات لدراسة القرار وتداعياته سياسياً وتنظيمياً... والتفكير ببرامج الحركة ومواقفها القادمة، هل ستتجه إلى التطرف؟ أو إلى الانكفاء؟ هل تخلت عن العمل السياسي؟ هل ستشغل نفسها ب "ما بعد السياسة"؟ وكان من أهم تداعيات القرار التنظيمية أنه أحدث اختلافاً حاداً داخل صفوف الحركة الإسلامية بين مؤيد ومعارض للمشاركة في الانتخابات، وعبر عن هذا الاختلاف بحوارات داخلية طويلة مضنية ومساهمات إعلامية واسعة للطرفين في وسائل الاعلام المختلفة. كان واضحاً منذ سبع سنوات على الأقل أن الحركة الإسلامية تعيش تداعيات صدمة مرحلة الديموقراطية والعمل السياسي، وأنها تواجه اشكالية الدعوة والحزب، وفي أثناء التحضير لحزب جبهة العمل الإسلامي، طرحت بوضوح وتحديد هذه الاشكاليات والأسئلة، وكان واضحاً ان الحركة الإسلامية تفضل تأجيل مواجهة هذه التداعيات والاشكاليات، أو أنها تركتها للزمن والظروف المستقبلية. استجابت الحركة الإسلامية لمرحلة الديموقراطية والتعددية بتشكيل حزب جبهة العمل الإسلامي والمشاركة في انتخابات 1989 و1993، وشاركت في حكومة السيد مضر بدران عام 1991، فما الذي دفعها إلى مقاطعة اختيارية للحياة السياسية والعمل بعيداً عن البرلمان؟ ولماذا كان هذا الابتعاد مصحوباً بجدال تنظيمي وخلاف داخلي كبير؟ الحديث الدائر عن مشاركة الحركة الإسلامية في السياسة اغفل الموقع المناسب للأزمة أو الاشكالية، فهي "الاشكالية" ليست كامنة في إدراك أهمية المشاركة السياسية ومكاسبها كما يقدمها المؤيدون للمشاركة، وليست في التعامل مع المخاطر السياسية أو الانحرافات الفكرية والمنهجية التي تؤدي إليها المعارضة، كما يقدمها المعارضون، ولكنها اشكالية تفاعلات المرحلة واستحقاقاتها. فقد جمعت الحركة الإسلامية معظم أنصارها وأعضائها وأفرزت قادتها وكوادرها على أساس دعوي اصلاحي وارشادي يحفز نوازع التدين والاخلاق والتربية الإسلامية، ويستحث الدوافع والمشاعر الطيبة لدى الناس، وهو أمر يمكن استنتاجه ببساطة من أن معظم، إن لم يكن جميع، قادة الحركة الاسلامية ونوابها ونشطاءها من المشتغلين أساساً في التربية والتعليم والأوقاف والشؤون الإسلامية. وأصبح مطلوباً اليوم من هذا الكيان المبني أساساً بمنهجه وخبراته وفرصه على الدعوة والتربية، مطلوب منه أن يتصدى لقضايا الحكم والتنمية والمعارضة والعمل السياسي والعام. ثمة منهاجان ومعياران متوازيان، وإن لم يكونا متناقضين، لكنهما يختلفان اختلافاً كبيراً، منهج الدعوة إلى فكرة أو موقف أو مشروع أو حالة والعمل على تحقيقها بوسائل التأثير والضغط والاقناع والرقابة على المجتمع ومؤسساته بوسائل التبليغ والاعلام المتاحة والعمل على دفع الناس والدولة إلى ما يعتقد أنه صواب واصلاح، وذلك كله من دون مسؤولية فعلية مباشرة عن تنفيذه أو عن العواقب والنتائج المترتبة عليه، وفي الوقت نفسه أيضاً من دون مكاسب مادية ومصالح ومغانم يمكن تحقيقها من وراء ذلك. هذا هو المنهج الذي ظلت الحركة الإسلامية تمارسه وهو مستمد أساساً من منهج واسلوب العلماء والمسلمين كإبن تيمية والعز بن عبدالسلام وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في العصر الحديث، لكنها حولته من عمل نخبوي وفردي إلى عمل منظم جماهيري وعام. والمنهج الثاني هو العمل السياسي القائم على المشاركة في الانتخابات النيابية بهدف الحصول على أغلبية نيابية أو حجم مؤثر في مجلس النواب يتيح تشكيل حكومة أو المشاركة في تشكيل حكومة أو معارضة الحكومة القائمة "في حال عدم المشاركة" بهدف الوصول إلى مواقع التأثير والتطبيق لتحقيق برنامج سياسي واقتصادي واصلاحي تقدمت الحركة به إلى الناخبين. إن المقارنة بين العملين أو المنهجين ليست مقارنة بين الصواب والخطأ أو الضرر والمنفعة، ولكن في الفرق بينهما وما يقتضيه كل منهج بالضرورة، ويصعب القول إنه يمكن الجميع بينهما. ففي الاختيار الأول يعتمد العمل على المساجد والنقابات والاتحادات الطلابية والمهنية والروابط والاتصالات الفردية ووسائل الاعلام، ويحتاج العمل إلى متطوعين كثيرين، ولا يحتاج إلى تكاليف مادية كثيرة، فهو يعتمد على مصادر المؤسسات والجهات التي يتم العمل من خلالها ويتم بناء الخبرات فيه على أساس من القدرة على التأثير والاقناع والخدمة العامة ولا يحقق القائمون عليه مكاسب مادية مباشرة، فهو عمل تطوعي يقصد به الأجر والثواب أو الحوافز والمكاسب المعنوية، أو تحقيق تطلعات ومكاسب رمزية. والاختيار الثاني يعتمد على محترفين للعمل السياسي من أهل الخبرة والنفوذ والقيادة والتأثير ويحتاج إلى مؤسسات وموارد كبيرة خاصة بالعمل تنفق عليه وتفرغ الموظفين لأجله وتقيم مؤسسات ومكاتب تخدمه وتغنيه. وهو يعني بوضوح السعي للوصول إلى الحكم ولا قيمة ولا أهمية له إن لم يؤد إلى تشكيل الحكومة أو المشاركة فيها، ويقاس النجاح والفشل فيه على أساس هذا المعيار، وهو بالتالي يسمح بالمناورة والمراوحة بين المواقف المختلفة والمتناقضة كالمعارضة والائتلاف، وحجب الثقة أو منحها، والتعاون أو المقاطعة، ولا يحكم قواعد اللعبة فيه سوى هدف الوصول إلى الحكم. دخلت الحركة الإسلامية العمل السياسي وشاركت في الانتخابات النيابية بكل ما أوتيت به طاقة وحققت أغلبية نسبية أو حجماً مؤثراً في البرلمان، ولكنها في ذلك كله كمن يفتح محلاً تجارياً ويدفع ايجاراً وضرائب باهظة ويضع البضائع ويعرضها، ولكنه في الوقت نفسه يرفض بيعها ويكتفي بعرض ما لديه فقط، فالحركة الإسلامية ظلت في العمل السياسي تمارس اسلوب الدعوة والرقابة، فلا هي بقيت دعوة اصلاحية عامة ولا صارت حزباً سياسياً، أو بتوصيف واقعي صارت شيئاً جديداً يقع بين جماعة الاخوان المسلمين وحزب الرفاه التركي. ولكنها في ذلك تركت الأسئلة الأساسية معلقة من دون إجابة، وهي هل تريد الحركة الوصول إلى الحكم بمعنى احراز أغلبية نيابية وتشكيل حكومة أو المشاركة في الحكومة على أساس مكاسبها النيابية؟ وإذا كانت لا تريد ذلك، فلماذا وعلى أي أساس تخوض الانتخابات النيابية؟ وتسعى لتحقيق أكبر قدر ممكن من مقاعد مجلس النواب؟ فإن كانت تريد الدعوة والاصلاح، فيكفيها لأجل ذلك نائبان أو ثلاثة نواب. وإن كانت تريد التغيير وتطبيق برنامجها الانتخابي فيجب أن تحكم بالفعل. والاختيار في العادة لا يكون بوضوح وحسم وبخاصة في مثل هذه المسائل التي تختلط فيها الرؤى والدوافع والمصالح والتقديرات، ولكن مشاركة الحركة الإسلامية السياسية من دون أن توضح الأساس والهدف الذي تشارك لأجله في الانتخابات أوقعها في حيرة وارتباك جعلها تدفع بنفسها قصداً أو من دون قصد بعيداً عن العمل السياسي وفق قواعده المتاحة، وليس مؤكداً أنها ستكون قادرة على العودة إلى حالتها السابقة قبل عام 1989. وإذا حسمت الحركة الإسلامية اختيارها بوضوح على أنها ستسعى لأجل تحقيق أغلبية نيابية وبالتالي ستشكل حكومة أو تشارك في حكومة مقبلة، فإنها ستخوض في الوقت نفسه مراجعة شاملة وأساسية لمنهجها وطريقتها في العمل واختيار الاعضاء والقادة، بل وفي بنيتها التنظيمية، وبالطبع مواقفها السياسية والبرامجية، وستتحول إلى حركة جديدة مختلفة عما سبق وتكون أقرب إلى نموذج حزب الرفاه، ولكن ذلك لن يتم بسهولة ويسر، بل هو محصلة تفاعلات وتحولات داخلية بعضها مؤلم. وسيؤدي هذا الاختيار إلى متوالية أسئلة ومشاهد قد لا تكون هذه المساحة مناسبة لعرضها، ولكن لا بأس من إثارتها، مثل متى يمكن أن يشكل الإسلاميون الحكومة؟ وكيف سيتعاملون مع التسوية السياسية للقضية الفلسطينية؟ والصراع العربي - الإسرائىلي وما موقع مجموعة من القضايا التي يجري تكييفها في برنامجهم ورؤاهم كالعلاقة مع الغرب، والديموقراطية، والأقليات والمرأة...؟ وما شكل وطبيعة هذه الحكومة التي ستقوم بمشاركتهم أو قيادتهم؟ إنها أسئلة قصد بها استثارة المسائل المعلقة أو المحيرة أكثر مما يقصد اقتراح اجابة محددة عليها، وقد تكون هذه الاجابة غير متوافرة بالفعل. لكن ما حدث من مقاطعة اختيارية للعمل السياسي لم يكن ترجيحاً بين الدعوة والحزب، فقد بقيت هذه الاشكالية قائمة برغم المقاطعة، ولكن العملية السياسية بمجملها تعرضت لمراجعة شاملة على مستوى المجتمع كله وليس الحركة الإسلامية فقط، وذلك بفعل عوامل ومؤثرات عديدة، منها عدم نضج الحياة السياسية إلى القدر الذي يؤدي إلى شراكة وتنافس وتداول سلمي للسلطة والنفوذ، ومنها أيضاً تغير المجتمعات والدول بفعل العولمة والتقنية الحديثة والسياسات الجديدة كالخصخصة وتخلي الحكومة عن جزء كبير من دورها مما يزيد أهمية النقابات والتعاونيات والمؤسسات الأهلية لأنها ستكون أكثر اقتراباً من حاجات الناس وهمومهم الجديدة. * كاتب أردني