خلال ربيع 1998 صدرت عن دار سيمون أند شوستر بنيويورك أنطولوجيا فاخرة وأنيقة جداً تضم فيضاً من القصائد واللوحات من الشرق الأوسط والمغرب العربي، سهرت على انجازها الشاعرة الأميركية ذات الأصل الفلسطيني نعومي شهاب ني. ولقد جاء هذا العمل، الى جانب تقديمه الباذخ لجماليات الفن والإبداع العربيين، محاولة تمدّ بعض الجسور الحضارية بين ثقافتنا وثقافة البلد الأكثر جهلاً بنا: أميركا. فحين يقول المرء لأصدقائه في الولاياتالمتحدة أنه ذاهب الى الشرق، فإنهم يرفعون حواجبهم في اندهاش، ربما لأن هنالك تصوراً سلبياً جاهزاً ومسكوكاً في أذهان أغلب الأمريكيين من خلاله ينظرون عادة الى الشرق الأوسط. لهذا ربما تساءلت الأديبة نعومي شهاب ني في مقدمتها لهذه الأنطولوجيا: كيف حصل هذا كيف ترسخ هذا التصور تجاه بقعة كانت مركزاً لأهم حلقات التاريخ الثقافي الدرامي والديني للإنسان؟ وما لم يتمكن الأمريكي من السفر الى المنطقة أو العيش فيها لفترة، فإنه سيظل طبعاً ضحية للإعلام الأمريكي وقصاصاته الاخبارية الملغومة، وكذا الأفلام الهوليودية التي كرَّس للعربي صورة سطحية تافهة فيها الكثير من التحامل وسوء النية. إن صياغة صورة منمطة للمنطقة - وللعرب عموماً - ترجع بالأساس الى أن الإعلام الأمريكي لا يبُثُّ عنّا غير القصص الحزينة وأخبار الدم والعنف، لكنَّ نعومي شهاب ترى أن ذلك لا يعدو كونه الفصل المروع من حكاية الشرق، وهي حكاية طويلة ومشوقة، ثرية ثراء الحياة. إن مثل هذا التحريف لواقع الحال بالشرق لا يمكن إلا أن يُنتج تعاملاً مماثلاً في الجهة الأخرى الجريحة من خريطة العالم، حيث أصبحت أميركا في نظر العديد من أبناء جلدتنا مجرد تجمُّع للقتلة والمدمنين ومعاقري المخدرات. بلدٌ يصعب أن تتجول في طرقاته بسلام. تلاميذ منحرفون. أسر مفككة. وشيوخ تلفظهم أسرهم ويودِعهم أبناؤهم دوراً للعجزة عادة ما يفضلونها بعيدة... عنهم، وعن الحياة. إن نعومي شهاب ذات الأصل الفلسطيني والجنسية الأمريكية تبدو غير راضية عن ملامح الصورتين معاً، لذا اختارت لنفسها دور الوسيط بين الحضارتين وبين الإنسانين الشرقي والأمريكي. فهي ترى أن الإنسان بطبعه متعطش الى معرفة الآخر، اكتشافه عميقاً، وسبر أغواره خارج ما ترسمه عناوين الأخبار المتهافتة. وما من سبيل لتحقيق هكذا اكتشاف غير سبيل الأدب، ولا من طاولة تتحاور عليها الشعوب والثقافات بلغات الداخل العميقة النابضة غير طاولة الفن. وهو حوار كان قد بدأ قوياً - بحسب نعومي - من خلال ظاهرة جبران خليل جبران، الشاب الذي هاجر في السابعة والعشرين من لبنان الى أميركا ليملأ الدنيا هناك شعراً ويشغل الناس بالقوة التعبيرية لرسومه ولوحاته. ورغم وفاته المبكرة نسبياً إلا أنه ما زال حياً بقوة بين الإميركيين من خلال أعماله التي ما زالت طبعاتها الجديدة تصدر الى اليوم. والساحة الوحيدة المهداة الى كاتب بواشنطن دي سي أهديت في العقد الماضي الى هذا المعلم الألمعي الذي سرَّب الى أميركا تعاليم الشرق. لكن خارج الظاهرة الجبرانية، يبدو الشعر العربي في نظر هواة التصنيفات الجاهزة من الأميركيين إما شعراً مُحَبراً تثقله الزخارف والتنميقات، أو شعر يتوهمُ الملاحم ويتصنع الرومانسية، أما الفن عندنا فهو ذهني في مجمله ميال الى التجريد. ولقد حرصت نعومي شهاب أثناء اختيارها لمواد هذه الأنطولوجيا على مواجهة هذا التصور والتصدي له. فالقصائد واللوحات التي انتقتها تنبض في مجملها بالحب الكبير للطفولة والأطفال، بالتلاحم العائلي الذي يفيض رقة وحناناً، بالحنين الى أيام البراءة الأولى، بالتوق الملتاع الى أرض الوطن، بشجى المنافي وكمد المنفيين، بنظرة الخشوع الى جلال الطبيعة، بالافتتان بالحياة اليومية، وحب الآخرين. فأيُّ هذه المواضيع يبدو غريباً عن الإنسان، مجافياً لروح الشعر؟ إن نعومي كانت واثقة من أن اختياراتها ستضع الكثير من الأفكار الجاهزة في مأزق وستصيب أصحابها بالذهول. لقد أرادت أن تجعل من هذه الأنطولوجيا ربيعاً مفاجئاً يوقظ الأميركيين من نومتهم النهارية، وليمة من الأطباق الصغيرة، ونزهة مفاجئة على مشارف مدينة الجلالة والروعة. ولتحقيق هكذا طموح، فقد اختارت - ما دامت كلمة أنطولوجيا تعني في أصلها الإغريقي "جمع الأزهار" - أن تُقدّم للأميركيين باقة باذخة الأريج مزركشة الألوان تشكلها القصائد البهيجة واللوحات الفاتنة لأكثر من مائة شاعر وفنان من تسعة عشر بلداً من العالم العربي والشرق الأوسط. نصوص شعرية ولوحات منتقاة برهافة قصوى بعد ملاحقة سديدة السهام لمكامن الجمال الأصيل في جسد القصيدة العربية من المحيط الى الخليج وأجساد جاراتها تركيا وايران. ومن داخل الجسد العربي، كان الشريان الفلسطيني الأكثر نشاطاً في الأنطولوجيا، حيث حضر إبداع الأرض المحتلة عبر عدد كبير من رموزه: محمود درويش، فدوى طوقان، سميح القاسم، محمد القيسي، محمد الأسعد، أنطوان شمّاس، وحنان ميخائيل عشراوي التي جاءت قصيدتها من مذكرات طفل في الرابعة تقريباً لتؤكد أن هذه المفاوضة الحديدية تخفي بداخلها رهافة لا حد لها. قامت مديدة أخرى كانت بدورها تقود طلائع الخضرة الشعرية العربية في هذه الأنطولوجيا، نذكر من بينها: أدونيس، ممدوح عدوان، وسليم بركات سورية، يوسف الخال، سعيد عقل، وقيصر عفيف لبنان، أبو القاسم الشابي تونس، قاسم حدَّاد البحرين، ظبية خميس الإمارات، ونجيب محفوظ الذي أبت المحررة إلا أن تستحضره عبر مقطع من عمله الجديد "اهداء من سيرة ذاتية". طبعاً من دون أن ننسى الحضور اللافت القوي لشعراء العراق وبينهم سعدي يوسف، عبدالوهاب البياتي وآخرين كصلاح فائق، هاتف الجنابي، هاشم شفيق، إضافة الى الفنانة سعاد العطار، وفائق حسن صاحب الجدارية الشهيرة التي كان سعدي قد تغنى بها ذات يوم. وفيما يتعلق بالحضور المغربي في الأنطولوجيا فقد كان محصوراً في أربعة أسماء فقط: سعد سرحان والطاهر بن جلون، الى جانب الفنانتين الشعيبية طلال وفاطمة حسن الفروج. وإضافة الى الحضور الإبداعي العربي، فقد كانت تركيا وإيران حاضرتان بقوة في هذا المؤلف. تركيا بمجموعة من شعرائها الكبار يتقدمهم ناظم حكمت. وإيران بأقوى أصواتها المعاصرة وعلى رأسها سهراب سيهري الذي سبق للغارة الشعرية أن أصدرت في أحد خراطيشها ترجمة لمجموعة من نصوصه، أحدُ هذه النصوص قصيدته الباذخة وقع خطى الماء وهي القصيدة التي أزهر عبرها صوته في هذا الكتاب. ولأن محررة الأنطولوجيا من جيل المبدعين الأميركيين ذوي الأصول العربية، فقد أصرَّت على استحضار تجارب مجموعة من أشباهها في حديقة الأحلام هذه. فليلى حلبي، نتالي هندال، غادة جمال، بولين كلداس، هيلين خال، ليزا سهير، لندا دلال، ونادين لورتوما هي القوارب الأليفة التي ستربط جزيرة القراء هناك بشاطىء الإبداع العربي. لذا لم يكن عبثاً أن اختارت نعومي عنوان كتابها من قصيدة نتالي هندال عن بيت لحم وهي القصيدة التي كانت الأسرار فيها تعيش في المسافة بين وقع الخطى، فيما المدينة خالية إلا من صفحة من جريدة كانت ضائعة بين الأزقة. وإذا كانت نعومي ترجو أن تبهر القارىء الأميركي بهذا العمل، فإنها قد حققت فعلاً جزءاً من طموحها. فمباشرة بعد صدور هذه الأنطولوجيا ستحصل على نجمة من جريدة جوك ليست حيث كتبت هذه الأخيرة: "ثروة من الأصوات... ولوحات بهية الألوان تتوزَّع في أسلوبها بين حكي الفن الشعبي وتشابك الكاليغرافيا العربية، وبين السريالية وفن الغرافيك المعاصر". فيما اعتبرت مجلة هورن يوك أن الروابط الإنسانية في التيمات الشعرية والفنية للكتاب متنوعة وكونية وأشادت كثيراً بجمال الكتاب من حيث طباعته وإخراجه، كما أكدت على بهجة اللغة فيه وقوة الخيال في لوحاته. إن المسافة بين وقع خطانا ليست مجرد أنطولوجيا أدبية وفنية. فهي بالأساس تحد ثقافي كبير. استثمار حضاري من أجل المستقبل. لذا، لم يكن عبثاً أن توجَّهت الى الأطفال واليافعين على وجه الخصوص: فهم أميركا الغد. وهي أيضاً محاولة جريئة لاستلهام الظاهرة الجبرانية وتمثلها من أجل تحقيق سفر جماعي لأصوات الشرق وألوانه الى الهناك الذي يجهلنا. عبر هذا الكتاب ستتقدم روح الشرق عميقاً في الوجدان الأمريكي باسقة كنخل العراق، حافية كعيون جبال الأطلس، وطازجة كفطائر الفلاحين. المسافة بين وقع خطانا: أكثر من 100 ديلوماسي محنك يقودون حملة حرة، عميقة وشفافة بإسمنا وراء المحيط دونما حاجة الى تذاكر سفر أو تأشيرات. عند الأنطولوجيا ]معطيات[: The space between our Footsteps: Poems and paintings from the Middle East Selected by: Naomi Shihab Nye. Simon & Schuster books for young Readers, 1998 New York printed in Singapore, First Edition. the Book is a collection of poetry and Full-Color artwork from the Middle Eastern countries. Readers: Ages 12 up, price: $ 19.95US