في موازاة أزيز الرصاص وهدير الطائرات والبوارج الحربية التي تكاد تختزل صورة الولاياتالمتحدة الأميركية في أذهان الشعوب في الشرق، ثمة صوت آخر مختلف، يقف على النقيض من تلك الصورة النمطية، ويظهر الوجه الحضاري الزاهي لبلد متعدد الأعراق والثقافات والمرجعيات. إنه صوت الأدب الذي يعبّر عن أحوال الروح، ويسعى إلى إشاعة قيم الجمال والعدالة والحب والحرية... ولعل الشاعر والمترجم السوري عابد إسماعيل أراد أن يصغي إلى هذه الأصوات الشعرية الخافتة القادمة من وراء المحيط ليترجمها، ويصدرها في كتاب «ديوان الشعر الأميركي الجديد» الصادر، أخيراً عن دار المدى (دمشق)، في سعي إلى تقديم صورة أخرى عن الولاياتالمتحدة للقارئ العربي، كما فعل الشاعر الراحل توفيق صايغ قبل عقود حين اصدر «50 قصيدة من الشعر الأميركي». يقدم إسماعيل في هذه الانطولوجيا نصوصاً لاثنين وعشرين شاعرا (تسعة شعراء، وثلاث عشرة شاعرة)، وهؤلاء الشعراء والشاعرات ينتمون، على رغم تنوع جذورهم الثقافية والعرقية، إلى الجيل الجديد المولود بعد الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، وكما جرت العادة في كل انطولوجيا، فإن المعد يستند الى بعض المعايير والضوابط، وهنا سنجد أن إسماعيل، كما يقول في مقدمته، ركز على اختيار شعراء «يترجمون للمرة الأولى إلى اللغة العربية على رغم حضورهم القوي في المشهد الشعري الأميركي»، وحرص، كذلك، على تقديم «أصوات شعرية شديدة التنوع والتباين في الأسلوب والرؤيا». على رغم ذلك، لا يمكن أي انطولوجيا شعرية أن تكون أمينة، وقادرة على التعبير الصادق عن الحركة الشعرية في هذا البلد أو ذاك، خصوصاً إذا تصدى للأمر شخص واحد كما هي الحال مع هذه الانطولوجيا التي تسعى إلى تقصي المشهد الشعري الأميركي بمختلف تلاوينه، إذ تتنوع جذور او أصول شعراء هذه المختارات، فهم ينتمون إلى أصول أوروبية وأفريقية وآسيوية، لكن الملاحظ أن ذائقة إسماعيل تميل إلى اختيار شعراء ينتمون في أصولهم إلى قبائل الهنود الحمر؛ سكان البلاد الأصليين الذين تعرضوا لأقسى حملات الإبادة على يد «الرجل الأبيض المتحضر»، ولعل في اختيار العنوان الفرعي للمختارات، المستوحى من قصائد جيمس وولش، والذي يقول «عالم مملوء بالعظام والريح» ما يفصح عن انحياز إسماعيل إلى تلك الأصوات الشعرية المهمشة؛ المنسية الشغوفة بماضي الأسلاف، والساعية، عبر غنائية عذبة، إلى إيقاظ «المفردات النائمة لعالم زاخر بالزرقة الصافية، حيث الأرض اقرب إلى السماء، والنجوم قاب قوسين من الحلم». هذا الفردوس الأرضي المفقود أصبح «مملوءاً بالعظام والريح»، وهاتان المفردتان (العظام والريح) تحيلان إلى الحنين، والفقدان، والقسوة، والشجن، والغياب، والنسيان، والخسارة، والضياع... وتعبران، في السياق الذي نتحدث عنه، عن «تفكك الروابط القبلية القديمة التي شكلت أسطورة الهندي الأحمر المتجذر في الأرض، والذي يعيش، الآن، وحيداً؛ معزولاً؛ مفكك المزاج يتسكع في أزقة المدن الأميركية الصاخبة، في رحلة انسلاخ رهيبة عن الجذور». غالبية شعراء هذه المختارات تنتمي إلى ذلك الماضي الآفل (لويز إردريتش، روبرتا هيل وايتمان، جيمس وولش، ليزلي مارمون سيلكو، ري ينغ بير، دوان نياتوم، جوي هرجو...) وغيرهم من الشعراء ممن تأثروا بأساطير او خرافات أجدادهم، وراحوا يصغون إلى صوت الشجر والطير والمطر والنهر عبر نبش الذاكرة الجمعية الجريحة، المثقلة بصور الدماء التي سالت على أرض خرساء تبوح، الآن، بأسرارها الموجعة لهؤلاء الشعراء الذين «يوظفون في قصائدهم مناخات فانتازية تعيد سرد قصة الهندي الأحمر؛ المقتلع من جذوره، وصراعه مع العالم المتمدن وثقافة الرجل الأبيض». وينبع هذا العناد في الإبقاء على الجرح نازفاً، من الوعي التاريخي بفداحة المأساة، والشعور بالفجوة التي تفصلهم عن الينابيع الأولى، ومن الرغبة «في استنهاض خرافات منسية ترتبط جوهرياً بتجربة الهندي الأحمر المقتلع من تاريخه ولغته وأساطيره، عبر إعادة سرد الحكاية وإخضاع الذاكرة لعملية تطهير رمزية». أدب الاحتجاج ويحضر في هذه الانطولوجيا شعراء من أصول افريقية، والمعروف أن الأفارقة قد جُلِبوا إلى الأرض الجديدة، لدى اكتشافها من جانب كريستوف كولومبوس، ليعملوا في البيوت، والحقول، والمزارع، ومناجم الذهب، وبعد أن استقرت الأوضاع وهدأت الاضطرابات تعرض هؤلاء الأفارقة للاضطهاد المتمثل في «التمييز العنصري» الذي دانته الفنون والآداب بمختلف الأشكال. سنسمع نماذج لهذه الإدانة في هذه المختارات من شعراء ينحدرون من أصول زنجية؛ افريقية، ولعل أبرزهم الشاعرة نيكي جيوفاني التي نشطت في حركة الحقوق المدنية للزنوج، فجاء شعرها «متأثراً بقضايا الزنوج، وبحثهم عن عدالة مفقودة خاصة في فترتي الخمسينات والستينات، وكان لاغتيال الزعيمين الأسودين مالكوم اكس، ومارتن لوثر كينغ في منتصف الستينات أثر بالغ في تجربتها، والى الفئة ذاتها تنتمي الشاعرة ريتا دوف التي تكتب قصيدتها من وحي الشعور بالظلم التاريخي الذي لحق بالزنوج، وما رافقه من قسوة على مدى عقود عدة. وتكتمل فصول التراجيديا في هذه المختارات عبر قصائد تضيء جوانب من حياة الشقاء والألم التي يعيشها المهاجرون القادمون من بلدان مختلفة إلى «أرض الأحلام»، كما في قصائد الشاعرة لورنا دي سرفانتس التي تصور في قصائدها حياة البؤس والكدح، وتوغل عميقاً في نسيج الطبقة المسحوقة لمهاجرين يحاولون انتزاع لقمة عيشهم بشتى السبل، وقد شكلت سرفانتس مع الشاعر غاري سوتو ثنائياً قوياً كرّس لحركة شعرية دؤوبة لفتت الأنظار، وخصوصاً أنظار المؤسسة الرسمية، وأنتجت ما يمكن تسميته ب «أدب الاحتجاج» ضد الظروف البائسة للمهاجرين الذين يعيشون في حياة العزلة، والتسكع والضياع وسط واقع لا يلتفت إلى همومهم بل يمعن في نبذهم، ورميهم إلى القاع. ولا تخلو هذه المختارات من قصائد تسعى إلى الدفاع عن الإنسان بمعزل عن أي تصنيف آخر. قصائد تجتهد في الإخلاص لطباع الشعر وخصوصيته المعبرة، دوماً، عن هموم الفرد، ومشاغله، وهواجسه، وأسئلته، وأحلامه كما لدى مايكل بلومينثال الذي يرفع - على حد تعبير إسماعيل - «سوط البلاغة عالياً، ويطلق العنان لمخيلته، واضعاً اللغة في مسار إيقاعي ودلالي لافت»، بيد أن هذه القصائد، وكما يرى إسماعيل، «ليست لوحات تجريدية محضة، فهي مسكونة بأصوات البشر حيث يستحضر الشاعر شخصيات كثيرة، أدبية وفكرية وسياسية، ممتدحاً إسهاماتها، ومشدداً على دورها في إثراء اللغة والحياة معاً»، وكذلك تفعل الشاعرة روزانا وورِِن التي تقدم قصيدة حافلة بالأصداء، والألوان، والرموز التي تحيل إلى صراعات نفسية داخلية تمور في قلب القصيدة المضاءة بالكثير من العزلة، والكثير من الجمال، ولا يبتعد الشاعر جيمس تيت عن هذه الكوكبة، فهو يرى ان الشعر هو شكل من أشكال الاحتجاج والاحتفال في آن، وهذا الاحتجاج يتجاوز الهم السياسي لأنه يُعنى، بالدرجة الأولى، بالتواصل بين البشر، ومن هنا، فإن تيت غالباً ما يحلم بعالم «تسود فيه هدنة بين الأضداد». ولا يمكن إغفال أحد ابرز الأسماء الشعرية في هذه المختارات، وهو ويليس بارنستون الذي يعد بحد ذاته مدرسة شعرية متكاملة، والذي ترجم له إسماعيل، قبل سنوات، مختارات شعرية صدرت تحت عنوان «ساعة حياة»، وهنا سنقرأ له قصائد جديدة بينها قصيدة «أغنية» المهداة إلى المترجم الذي يقول بان بارنستون «يبتكر قصيدة ميتافيزيقية فريدة في شعر الحداثة اليوم، تقوم على الدمج الفعال بين الخطاب الفلسفي والرؤيا الشعرية، وخلق تناغم سلس بين جدلية الفكر، وجماليات المجاز». يرى بارنستون ان «الشعر هو وسيلتنا الأمثل للارتقاء بالروح، والتحليق فوق ذرى يصعب وصفها عبر تسليط الضوء على قلق الإنسان الوجودي، وصراعه المستمر مع الحقيقة»، ولعل الأصوات الشعرية المدرجة ضمن هذه المختارات المزدحمة على نحو متنافر؛ متباعد حيناً، متناغم؛ متقارب أحياناً، تعبر عن تلك النزعة الطامحة إلى السمو بالروح، والوجدان، ولئن بدت هذه المختارات متباينة في الشكل والمضامين غير أنها تصوغ، في نهاية المطاف، لوحة ملونة؛ مكثفة للمشهد الشعري في بلد نجح في الإعلان عن قراراته السياسية الراديكالية، وربما لم ينجح بما يكفي في تصدير آدابه وفنونه العظيمة إلى شعوب العالم.