عشرة من كتّاب القصة القصيرة من أعمار متباينة، ومن الجنسين... تجمع بينهم صفة مشتركة هي انتماؤهم الى محافظة درعا جنوب سورية. بعضهم أصدر من قبل مجموعات قصصية خاصة، فيما بعضهم الآخر اقتصرت مساهماته في النشر على الصحف والمجلات. كتابهم المشترك هذا، ضم عشرين قصة من نتاجاتهم الجديدة، أي بمعدل قصتين لكل كاتب، ومن خلالها يمكن قراءة ملامح تجربة إبداعية نامية في هذه المحافظة الجنوبية. يصعب الوقوف على ملامح فنية واحدة لهذا العدد الوافر من الكتاب، وان توافرت ارهاصات مشتركة وبعض الملامح المتقاربة، بحكم المكان والزمان - وربما - بحكم جدّة تجاربهم التي تقع في أغابها في رقعة البدايات حتى بالنسبة لمن أصدروا مجموعة قصصية أو أكثر، وبمعنى ما يمكن القول أن قارىء قصص هذه المجموعة سوف يقف على مستويات فنية متفاوتة تقسم كتاب القصص، وتعكس درجات النضج الفني والفكري، واختلاف المواهب الأدبية، كما تعكس أيضاً حجم خبرة ودراية كل كاتب منهم بفنيات القصة كجنس أدبي ماكر، مخادع، يتطلب مهارات تتنامى وتتصاعد باستمرار. الكاتب إبراهيم النجار، صدرت له من قبل مجموعتان قصصيتان هما "حياة ثانية" 1996 و"ماء وثلج وبرد" 1997 وقدم في المجموعة المشتركة قصتين، هما "شواء على نار نزقة" و"العقدة الزرقاء". في "شواء على نار نزقة"، يقدم النجار حكاية موظف بسيط يحاول استعادة أوراقه الثبوتية لكي يتمكن من الاحتفاظ بوظيفته بعد أن خرج من السجن، ولكنه يصطدم بضياع هذه الأوراق، وبلا مبالاة المسؤول وعدم اهتمامه. قصة تتحرك فيها الأحداث على مستويين: مستوى العمل الوظيفي، بما فيه من هوّة سحيقة بين الكبار والصغار، ومستوى آخر يقدم جنون البحث العبثي عن الكنوز الذهبية من خلال الحفر بالاستناد الى خرائط ورسوم يحتفظ بها بعض الناس، وهي المسألة التي راودت أحلام بطل القصة، الموظف الصغير، وتسببت في دخوله الى السجن قبل قليل من وصوله الى الكنز المنشود. في هذه القصة اتكاء رمزي على الحلول الغيبية للخروج من إسر حالة اجتماعية متردية حيث تشكل العودة الى ما تركه الأجداد من ثروات، هاجساً هستيرياً يركض خلفه الفقراء والمعوزون. قصة فيها الكثير من الواقعية، وفيها رمزية الإطار الفني والحدثي، قدمها الكاتب في لغة بسيطة، مشحونة ومتوترة، جعلتها تصل الى القارىء في يسرٍ ورشاقة. أما في "العقدة الزرقاء" التي تحكي عن مجزرة قانا اللبنانية، الجنوبية، فإن النجار يميل الى تقديم أحداث قصته في أسلوب فانتازي حيناً، ساخراً، متهكماً حيناً آخر، وإن عاب هذه القصة بعض المقاطع المباشرة، والتي قاربت الأجواء التقريرية الصحافية، على عكس المقاطع المكتوبة بأسلوب ساخر، والتي جاءت أكثر رشاقة وجاذبية. في العموم، لا يغامر ابراهيم النجار في التجريب القصصي، ونلمس حرصه على التزام أشكال وأساليب أقرب الى التقليدية، خصوصاً في حرصه على الحكاية القصصية، وهي مسألة لا تقع في مساحة السلبية بالضرورة، إذ هي كثيراً ما منحت قصصه ميزة التشويق. الكاتب الشاب جهاد الخطيب، لم تصدر له أية مجموعة مستقلة. قدم في هذه المجموعة قصتيه "مدينة الشياطين" و"مجنون يتحدث عن نفسه". في "مدينة الشياطين" يقدم جهاد الخطيب حكاية فانتازية رمزية عن مدينة تصحو على أهلها وقد نبتت لهم ذيول في أقفيتهم: "في البداية لم يصدق أحد ما حدث وانقسم القوم في تفسيرهم لهذه الظاهرة. قال رهط منهم، انها لعنة إلهية، وحاججوا بوقائع مماثلة في الكتب المقدسة. ودحض آخرون بأن هذا دليل على صحة نظرية معلمهم دارون... بينما اكتفى الباقون بأن الأمر مجرد طفرة وراثية موقتة". المفارقة أن بطل القصة المثقف، يبقى وحده دون ذيل، ما يعتبر عيباً في مدينة تعج بالذيول، وتفشل كل محاولاته لاستنبات ذيل خاص به، مع أن هناك من يشير عليه بأن يتخلص من كتبه التي هي لعنة، فقد ينبت له ذيل كالآخرين. أما في القصة الثانية، "مجنون يتحدث عن نفسه"، فإن جهاد الخطيب يضعنا أمام حكاية "مجنون"، يطارده الصغار، ويضحك منه الكبار، الا حميدة، الأرملة الشابة التي تحميه وتدخله الى بيتها الطيني المتواضع: "أجلستني حميدة قبالتها... وأطلقت العنان لشيطانها كي يعبث بي، ويستنهض الوحش الكامن في أعماقي... غمرتني نشوة عارمة، لم أستيقظ منها الا على صراخ الأرملة وتجمع أهل القرية". تعتمد قصة جهاد الخطيب في صورة أساس على التكثيف الشديد، من خلال تقديم أحداث أقرب الى اللوحات المصورة والتي يقدمها الكاتب بلغة إيحائية تتواءم مع مضامينه الفكرية التي تتصدى لأحداث اجتماعية حادّة تعكس - غالباً - صوراً من الظلم الاجتماعي ومشاكل الفقر، حيث الأبطال من بسطاء الناس الذين يجدون أنفسهم في مواجهة وقائع صادمة. كاتب يجتهد من أجل تقديم قصة تقارب توترات اللحظة العربية الراهنة وإيقاعها اللاهب. أما حمدي البصيري، فقد صدرت له مجموعتان قصصيتان، كانتا على التوالي "نساء عدنان ينتظرن" و"كيف ضاع العمر"، وشارك في هذه المجموعة بقصتيه "أجيال" و"كيف ضاع العمر". قصص حمدي البصيري تهتم بتقديم صياغات فنية متطورة، يجتهد صاحبها على صعيدي الحكاية والأسلوب معاً، كما هو الحال في قصته الجميلة "كيف ضاع العمر"، التي تقدم حيرة بطلها بين عالمين متناقضين، وما بين هذين العالمين من حياة تبدو عبثية مضت سنواتها في الهباء، قصة فيها الكثير من الشجن والحميمية في لغة سلسة تعد بكاتب قادم، وإن شابت مضامينه في بعض الحالات فجاجات فكرية لا تتناسب مع مستوى قصصه. من الضروري عند الحديث عن كتاب هذه المجموعة القصصية المشتركة، الإشادة بقصص الكاتبة الشابة زرياف المقداد، والتي سبق وأصدرت مجموعتها الأولى "الكل يحترق" والتي شاركت في هذه المجموعة بقصتها التي تحمل عنوانها الى جانب قصة أخرى بعنوان "ست البنات". في قصص زرياف المقداد نجد أنفسنا إزاء كتابة تحترم القارىء وتحترم فن القصة، فالكاتبة تهتم بتقديم قصص ذات وشائج متينة بالحياة في جوانبها الأكثر حميمية. في "ست البنات"، شخصية الجدّة التي تشبه شجرة وارفة يستظل بها الأحفاد، فيستذكرون معها شبابها الأول وحياتهم الراهنة في مقاربات ذكية فيها اللقطة المعبرة والمواقف الموحية التي تجعل من القصة تلامس الروح الداخلية لقارئها، في حين تقدم قصة "الكل يحترق" حالة ترتفع فوق الحدث البسيط... حالة المدرّس الذي يتوحد مع تلاميذه من خلال توحّده مع رسوماتهم، ولكنه حين توشك المدفأة على الانطفاء يتصرف في صورة مغايرة شكلياً لهذا التوحد، حيث "استجمع شجاعته وأشعل المدفأة... كانت آخر قطرات المازوت قد نفذت، وقد نسي ذلك عندما شرد في أم محمود والأولاد في المدرسة. استجمع شجاعته مرة أخرى وقرّر أن يستمر حريق المدفأة، ألقى برسوم الأولاد عن المطر والشمس والتراب... عن الفرح والشتاء داخل المدفأة، كانت تحترق بلهب مشرق يبعث النور فيما حوله، وكان يرى كلاً منها وقد أصبح طيفاً مشرقاً. امتزجت الألوان مع النار... وأيقن أن الأوراق لم تحترق... كان هو من يحترق داخل المدفأة ليدفىء نفسه، أما الرسوم فقد تحولت لفراش ملون لا يخاف اللهب". هذه النكهة المشبعة بالألفة والحب نقف عليها في قصتي موسى إبراهيم المسالمة "الشاهد" و"كلانا على الطريق"، حيث أجواء واقعية ينتقي منها الكاتب صوراً ومشاهدات نعيشها كل يوم، غير أنه يضعها في سياقات تكشف تناقضاتها الى تلك الحدود التي ترفعها الى مرتبة الأدب العابق بالتشويق والمتعة. أهم ما يميز قصة موسى إبراهيم المسالمة، اتكاؤها على لا معقولية الواقع في لحظة افتضاح تعرّيه من كل ما يجعل منه عادياً، مألوفاً، تعقلنه المشاهدة اليومية وتسوّغ استمراره، فالكاتب إذ يهتم في قصصه بمسألة التخلف، ويفضح تجلياتها في الجوانب الاجتماعية من حياتنا، ينجح - غالباً - في استقصاء التفاصيل - وحتى الرتوش - التي ينهض عليها الواقع ويتشكل منها، في أسلوب قصصي لا يتعالى على القارىء لأنه يصل الى جمالياته الفنية من خلال حوار هادىء... متزن، ومسؤول بين الشكل والمضمون... حوار لا يطغى خلاله أحد الطرفين فيغرد وحيداً. الكاتب حسين الكراد، ينفرد من بين زملائه بعمله القصصي الشغوف باستدراج أشكال فنية جديدة، تستفيد غالباً من الفنون البصرية، فنراه في قصتيه المنشورتين في هذه المجموعة حريصاً على الجمع بين سلاسة الحكاية القصصية وبين طلاوة الأساليب والأشكال التي يكتب بها. قصص حسين الكراد فيها الكثير من "هندسة" الشكل، والانفتاح على تجريبية مفتوحة، فيما يكرس خلف الزرزور اهتماماً أكبر للمضامين الاجتماعية - وحتى السياسية - في قصصه، اهتماماً يزحف - أحياناً - على فنية القصص، وإن لم تخل قصص الزرزور من أجواء اجتماعية تعكس قاع المجتمع وآلامه وتصور مصائر البؤساء وأشكال معاناتهم. أما عبدالرزاق صبح الذي أصدر لتوّه مجموعته الأولى "الذئاب"، فهو صياد ماهر للقطة القصصية المثيرة، وإن كنا نلاحظ عدم تمكنه - دائماً - من إعادة تقديم هذه اللقطات المثيرة في أساليب فنية مقنعة، بحيث نلمس أن بعضها يقدم لنا في صورته الهجينة، البدائية الواقعية. كذلك هي قصص سعاد القادري، والتي سبق أن أصدرت مجموعتين هما "أنا و12 قصة" و"على حافة الحلم" وان اختلفت الموضوعات التي تكتب عنها، ولكن ضمن محدودية تجعلها أقرب الى التشابه والتكرار. يبقى أن نشير أخيراً الى قصتي ميلاد قندلفت المميزتين "الكلب الادرد" و"الهر سعيد" والمكتوبتين بأسلوب رمزي تصل مراميه للقارىء في سهولة، خصوصاً وأن قندلفت استخدم لغة شديدة السخرية أضافت لحكايته الرمزية الناجحة، رشاقة وتألقاً، جعلت من كاتبها يقبض على فن القصة المراوغ. "جنوب القصة السورية"، مجموعة تقدم أبرز من يكتبون القصة القصيرة في محافظة درعا، جديرة بالقراءة والاهتمام إذ هي تسلط ضوءاً على مساحة إبداعية تتنامى وتضطرد، وتبشر بالكثير