تتعالى في اسرائيل الاصوات الداعية الى مراجعة اسس الاستراتيجية الامنية للدولة العبرية التي لم يدخل عليها اي تغيير منذ ان صيغت في مطلع الخمسينات في عهد رئيس وزراء اسرائيل الاول ديفيد بن غوريون ولم تعد توفر رداً للتحديات التي خلقتها التطورات المتلاحقة خلال العقود الخمسة الماضية، ووجه بعض كبار الضباط والساسة والصحافيين جملة من الانتقادات الى الاستمرار في التشبث بهذه الاستراتيجية. وكان نائب رئيس اركان الجيش المستقيل الجنرال ماتان فلنائي اكثر حدة في انتقاداته عندما دان المفهوم السياسي في الحكومات السابقة بپ"غض الطرف عن مفهوم امني لا يوفر الرد الكافي على التهديدات التي تواجه اسرائيل" ويستهجن فلنائي استمرار تشبث اسرائيل "بنظرية امنية صيغت في واقع مختلف كثيراً عما عليه الحال الآن". ويصل الى الاستنتاج بأن اسرائيل فقدت القدرة على الحسم في حين ان العرب بيدهم القدرة على ذلك ان ارادوا "معاريف" 29/6/1996 ولاإراز عناصر النظرية الأمنية الحالية مثار الانتقاد فإننا نورد موجزاً لهذه العناصر كما يلخصها المعلقان العسكريان لصحيفتي "هآرتس" و"يديعوت احرونوت" زئيف شيف ورون بن يشاي. تقوم النظرية الامنية على ان الشعب الاسرائيلي شعب صغير في مواجهة شعوب كبيرة. ومساحة اسرائيل صغيرة ومحاطة باعدائها من مختلف الجهات وجيشها صغير الامر الذي يجعلها تعتمد على قوات الاحتياط. ولأنه يصعب ابقاء قوات الاحتياط لوقت كبير في الخدمة، الى جانب افتقادها للعمق الجغرافي الاستراتيجي، لذلك فمن الصعوبة عليها شن حرب طويلة وشاملة. ومن هنا تنص النظرية الامنية الحالية على وجوب توجيه اسرائيل ضربات خاطفة وقاصمة لپ"العدو". ونقل المعركة الى ارضه حتى يضطر إلى طلب تسوية معينة وذلك يؤدي بدوره الى انهاء سريع للحرب. وتشتمل النظرية الامنية على عقاب للخصم باحتلال ارضه وتدمير قوته العسكرية بعد تحقيق نصر حاسم عليه. وفي موازاة ذلك تعتمد النظرية الامنية الى استغلال عناصر الردع في مواجهة الدول العربية ومنها التجربة التراكمية ممثلة في توالي انتصارات الجيش الاسرائيلي من حرب 1948 وانتهاء بتدمير شبكة الصواريخ السورية في لبنان وما رافق ذلك من تجسيد لصورة الجيش الذي لا يقهر، بالاضافة الى ردع نووي محاط بالغموض. وكما يقول شمعون بيريز "ابو المشروع النووي الاسرائيلي" فإن القدرات النووية الاسرائيلية جاءت لزجر العرب عن التفكير في شن حرب ضد اسرائيل. حظيت دعوة الجنرال فلنائي لصياغة نظرية امنية جديدة بتأييد واسع على المستويين السياسي والعسكري في اسرائيل. ويرى المنتقدون للنظرية الامنية الحالية التي صيغت مع قيام الدولة العبرية انها تشتمل على مظاهر خلل ويمكن تلخيص مواطن الخلل على النحو الآتي: 1- استمرار العمل بنظرية وضعت قبل 50 عاماً يعني تجاهل التطورات المهمة التي حدثت خلال هذه الفترة. فقد نشبت حرب 1967 التي اضافت اراضي شاسعة لاسرائيل ووفرت لها حزاماً امنياً. الا ان ذلك لم يحل دون اندلاع مزيد من الحروب كما حصل في حرب 1973. 2- بناء على النظرية الحالية قامت اسرائيل بالسيطرة على الشعب الفلسطيني في مسعاها للاحتفاظ بالاراضي الفلسطينية من اجل توفير عمق استراتيجي لها، لكن تجربة الانتفاضة اثبتت انه لا يمكن الاستمرار في السيطرة على شعوب اخرى، اذ تم استنزاف الجيش الاسرائيلي الذي تحول الى مجرد جهاز شرطة في مواجهة المنتفضين الفلسطينيين، وما رافق ذلك من بروز اشكال جديدة للمقاومة انتهت بعمليات التفجير التي تركت آثاراً خطيرة على المجتمع الاسرائيلي، الى جانب دخول عناصر جديدة حلبة الصراع وخصوصاً التيارات الاسلامية ممثلة في حماس والجهاد الاسلامي وحزب الله. 3- مفهوم العمق الاستراتيجي يجتاز حالياً تغييرات كبيرة. فدخول عنصر الانذار المبكر المتطور القائم على الاقمار الاصطناعية يعوض عن الاحتفاظ بالمناطق الامنية. 4- ادى قيام اسرائيل عقد معاهدات سلام مع الدول المحيطة الى زعزعة اساس مهمة في النظرية الامنية الحالية التي تنص على ضرورة نقل المعركة الى ارض العدو، فلو شن مثلاً العراق او ايران حرباً على اسرائيل فلن يكون بالامكان نقل المدرعات الاسرائيلية عبر الاردن او استخدام المجال الجوي الاردني لأن ذلك سيعد خرقاً لمعاهدة السلام. 5- تطوير عدد من الدول العربية والاسلامية اسلحة غير تقليدية مثل العراقوايران وباكستان سواء في المجال النووي او الكيماوي والبيولوجي وهذا على المدى البعيد يفقد اسرائيل اهمية الاحتفاظ بالسلاح النووي كقوة ردع. 6- يرى المراقبون في اسرائيل انه من الصعوبة الاستمرار في الاعتماد على قوات الاحتياط في الجهد الحربي كما تنص النظرية الامنية الحالية، اذ ان رجال الاحتياط لا يمكنهم التعامل بكفاءة مع المعدات والاجهزة الحديثة التي تتطلبها الحرب حالياً وهذه مشكلة يشير اليها العديد من كبار الضباط. 7- تجاهل النظرية الحالية للعامل الاقتصادي كعنصر حاسم في مواجهة الدول العربية، ومع ما يتطلبه ذلك من مناقشة مسألة العوائد الاقتصادية للسلام مع العرب. لذلك سارعت وزارة الدفاع الاسرائيلية الى تشكيل لجنة مكونة من 98 شخصية من الخبراء الامنيين والاقتصاديين واكاديميين وساسة لاجراء مشاورات بقصد ادخال تعديلات على النظرية الحالية وستقدم هذه اللجنة توصياتها الى رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو من اجل عرضها على الحكومة ولجنة الخارجية والامن التابعة للكنيست. الا انه بدا ان التعامل مع مظاهر الخلل في النظرية الامنية الحالية يصطدم بالمنطلقات الايديولوجية التي تستند اليها الحكومة الحالية. فنتانياهو مثلاً لا يمكن ان يقر بأن السيطرة على الارض لم تعد جزءاً من مركبات النظرية الامنية الاسرائيلية، كما انه لا يرى في اجهزة الانذار المبكر تعويضاً عن الاحتفاظ بالمناطق الامنية، بل ان الائتلاف الديني الحاكم يصر على اقحام مسألتين مهمتين في المشاورات التي تجرى من أجل مراجعة النظرية الامنية، وهي معاهدات السلام مع الدول العربية، واقامة الدولة الفلسطينية. فاليمين الاسرائيلي وكما عبّر عن ذلك نتانياهو في اكثر من مرة يرى ان اسرائيل لا يمكن ان تركن الى توقيع معاهدات سلام مع الدول العربية المحيطة، لأن هذه الدول تحكمها انظمة ديكتاتورية لا تمثل سياساتها خيار الشعوب العربية. ويدعي نتانياهو انه قد يأتي يوم تستبدل فيه هذه الانظمة باخرى لا ترى في السلام مع اسرائيل خياراً استراتيجياً، ولعل الخطاب الذي القاه نتانياهو في المؤتمر الاقتصادي في مدينة "زخرون يعكوف" الاسرائيلية يظهر عزمه على تجاهل السلام مع العرب كعنصر من عناصر النظرية الامنية الجديدة، اذ يقول: "ان مكان اسرائيل الطبيعي في الغرب حيث العالم الحروالعولمة والديموقراطيات والاقتصاد المفتوح، ولا مجال لعلاقات مع دول هذه البقعة المتخلفة حضارياً حيث تسود دكتاتوريات مظلمة" "معاريف" 26/6/1998 ويواصل "ان السلام مع العرب لن يكفل الأمن". ويعلن رئيس وزراء اسرائيل ان الاقتصاد القوي يجب ان يكون ركيزة لأي استراتيجية امنية، وبعكس المنطق الذي يحكم شمعون بيريز فان نتانياهو يستخف بالعوائد الاقتصادية للسلام مع الدول العربية ويقول في المؤتمر المذكور "لسوء حظنا ان نعيش في محيط متخلف اقتصادياً وهذا لن يخدم اقتصاد اسرائيل بل ان السلام مع العرب قد يضر بالاقتصاد الاسرائيلي القوي". اما بالنسبة للدولة الفلسطينية فإن حكومة اليمين ترى فيها تهديداً استراتيجياً لأنها ستقلص العمق الجغرافي لاسرائيل. انضم عدد من منظري اليمين للتأثير على المشاورات الحالية، ويحذر موشيه زاك المحرر السابق لپ"معاريف" من الايمان بفكرة "الشرق الاوسط الجديد" ويقول "انه حقاً شرق اوسط جديد، اكثر تسلحاً مقارنة مع ما كانت عليه الحال قبل توقيع اتفاقيات السلام" ويتساءل رئيس لجنة الخارجية والامن التابعة للكنيست عوزي لنداو "لماذا تصر مصر على التزود بطائرات اميركية متطورة، فلأي عدو تقتني القاهرة صواريخ بحر - بحر طويلة الامد، من هي الدولة الجارة التي ترى فيها مصر تهديداً لأمنها". ويحذر زاك من ان يركن مخططو النظرية الجديدة الى العلاقة مع الغرب. الى ما سبق يود نتانياهو ان تناقش اللجنة المشرفة على مراجعة النظرية الامنية مسائل اخرى لم تتعرض لها النظرية الحالية. وحسب ما تم تسريبه من اجتماعات هذه اللجنة السرية، ستناقش هذه اللجنة مستقبل خريطة العلاقات الدولية وتأثيرها على دولة اسرائيل وتأثير الاصولية الاسلامية على العالم، وبحث سبل مراقبة تطوير برامج التسليح في الدول العربية ومناقشة قضايا اقتصادية واجتماعية متعلقة بالعالمين العربي والاسلامي الى جانب التطورات التي مرت بالمجتمع الاسرائيلي ومستوى التعليم والتكنولوجيا وموازنة الامن وسلم الاولويات "الوطنية" للدولة العبرية. وعلى رغم ان المشاورات لصياغة النظرية الامنية من المفترض ان تتم بشكل موضوعي وبعيداً عن التأثر بالمواقف السياسية، الا ان كثيراً من المراقبين يرون في اصرار نتانياهو على صوغ النظرية الامنية الجديدة لاسرائيل كمحاولة للتأثير على رسم مستقبل دولة اسرائيل وفق رؤيته الايديولوجية علماً انه لن يعترض على اي تعديل في النظرية الامنية لا يتعارض مع هذه الايديولوجية. * صحافي فلسطيني.