ينقل الكاتب حاييم هنغبي عن رئيس بلدية القدس السابق وأحد رموز حزب العمل تيدي كوليك عن تجربته في التعامل مع سكان المدينة من الفلسطينيين، قوله: "انني لم أكن اريد أن أمنحهم الشعور بالمساواة، لأنني أصلاً لا استطيع منحهم ذلك الشعور. اعتقدت دوماً أن يكون وجود العرب هنا غير مقترن بدفع ثمن من قبلنا، وكان هدفي خلال 25 عاماً من رئاستي لبلدية القدس هو مواجهة تعاظم عدد السكان العرب في المدينة وضواحيها" "معاريف" 23/12/1997. وإذا كان هذا ما يقر به اليساري كوليك الذي كان يحظى بدعم مطلق من قبل حكومات حزب العمل المتعاقبة على الجهود التي قام بها من أجل استكمال تهويد المدينة، فإنه من غير المستغرب أن تعلن حكومة برئاسة بنيامين نتانياهو عن المصادقة على خطة كبيرة لتعزيز "الوجود اليهودي" في المدينة، أو انشاء ما يعرف ب "القدس الكبرى" عن طريق ضم مناطق كبيرة من الضفة الغربية تقع شمال وشمال شرق وجنوب القدس إلى مناطق نفوذ البلدية الحالية، وإن كان من بين قادة المعارضة الإسرائيلية من اعترض على الخطة المذكورة، فإنهم شددوا على أنهم يعترضون على "توقيت" الخطة وأنها تتزامن مع إصرار حكومة نتانياهو على عدم تنفيذ المرحلة الثانية من إعادة الانتشار. وأوضح بنيامين بن اليعازر الذي شغل في السابق منصب وزير الإسكان في حكومتي رابين وبيريز ان ضمان تفوق اليهود الديموقراطي في القدس كان دوماً هدفاً مشتركاً لكل من الحزبين الكبيرين. ولمح أكثر من قيادي في حزب العمل إلى أنه لو كانت الظروف السياسية مؤاتية لكانت هذه الخطة أفضل ما أنجزته حكومة نتانياهو خلال حكمها. الخطة الإسرائيلية تهدف إلى زيادة عدد السكان اليهود إلى مليون شخص في القدس والمنطقة المحيطة بها حتى عام 2020 حتى لا تتجاوز نسبة العرب ما هي عليه الآن وهي 22 في المئة من مجمل سكان المدينة. والسؤال إذا كان اليهود حالياً يشكلون غالبية كبيرة بالنسبة للعرب، وما دامت الحكومة الإسرائيلية تتجند إلى جانب الجمعيات الاستيطانية اليهودية ممثلة في "عطيرات كوهنيم" و"اليعاد" في مسعاها للسيطرة على البيوت والعقارات العربية، فلماذا تجازف حكومة نتانياهو باختيار هذا التوقيت غير المناسب من ناحية سياسية سيما وأنه أدى إلى انتقادات حادة داخل الإدارة الأميركية. يؤكد كثير من المعلقين الإسرائيليين ان نتانياهو والأحزاب العلمانية في ائتلافه إلى جانب كثير من الحركات والأحزاب العلمانية خارج إطار الحكومة الحالية يبدون قلقاً من طبيعة الغالبية اليهودية الموجودة في القدس، إذ أن معظم اليهود في القدس ينتمون إلى التيار الديني الارثوذكسي "الحريدي" غير الصهيوني، ونظراً لطغيان عدد المتدينين "الحريديم" غير الصهيونيين وانتشارهم في معظم الأحياء اليهودية في المدينة فرضوا نمط حياة متشدد مستعينين بقوتهم السياسية سواء داخل الحكومة أو في مجلس بلدية القدس، إذ يستطيع ممثلوهم تمرير القوانين التي تناسب معتقداتهم مثل حظر استخدام شوارع مهمة في المدينة أو افتتاح الملاهي والنوادي الترفيهية أيام السبت، الأمر الذي اجبر العلمانيين الصهاينة على الهجرة العكسية والانتقال إلى المدن الساحلية هرباً مما يسمونه ب "جحيم الاكراه الديني". إلى ذلك، فإن انصراف المتدينين الارثوذكس عن العمل وتوجههم للتعليم التوراتي جعلا الحكومات الإسرائيلية لا تظهر ميلاً للاستثمار في مجال المشاريع الاقتصادية، وهذا ما أضاف مشكلة البطالة كسبب يدفع العلمانيين للانتقال لوسط إسرائيل، إذ سوق العمل أكثر طلباً واتساعاً. من هنا اشتملت الخطة التي أقرتها حكومة نتانياهو على انشاء مشاريع اقتصادية على خط التماس بين القدس ورام الله وعلى أرض تابعة للضفة الغربية، إلى جانب منح شروط اسكان سهلة لإغراء الأزواج العلمانية الشابة للانتقال إلى القدس. وللتدليل على الاشكالية التي تخلقها طبيعة الغالبية اليهودية في القدس بالنسبة للدولة العبرية، يشير الصحافي عكيفا الدار إلى أنه بإضافة عدد العرب في القدس إلى عدد اليهود الارثوذكس "الحريديم" فإن "المدينة التي تعتبرها إسرائيل عاصمتها الموحدة والأبدية لا تحتوي على غالبية يهودية صهيونية". وعليه ستستخدم الأراضي التي ستقوم إسرائيل بضمها لبلدية القدس كمخزون لإقامة آلاف الوحدات السكنية، وإذا كان هناك من هدف لجميع ألوان الطيف الصهيوني العلماني في تسهيل غالبية يهودية صهيونية في القدس ومناطقها استعداداً لمفاوضات الحل الدائم التي يرى الجانب الفلسطيني فيها مناسبة للمطالبة بحقه في المدينة المقدسة، إلا أن هناك سبباً آخر وراء إصرار نتانياهو على المصادقة على هذه الخطة، ألا وهو تخوفه من الطموح السياسي لرئيس بلدية القدس وزميله في قيادة الليكود ايهود أولمرت الذي يعتبره الكثير من رجالات اليمين الإسرائيلي بديلاً منطقياً لنتانياهو نظراً للصدقية التي يتمتع بها لدى الجمهورين اليميني والديني. ويجمع المراقبون في إسرائيل على أن ايهود اولمرت يريد خوض معترك التنافس السياسي مع نتانياهو من طريق رفع لواء "تهويد وصهينة" القدس. ووجد نتانياهو نفسه في كثير من الأحيان، مضطراً إلى مجاراته كما حدث في افتتاح النفق، لقطع الطريق عليه للظهور أمام الرأي العام الإسرائيلي كالزعيم الأحرص على "صهيونية" المدينة. لذلك لم يتردد نتانياهو في وصف الانتقادات الأميركية لخطة حكومته بالسخف. وحرص في الآونة الأخيرة على التفاخر بأنه هو الذي قام باغلاق المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية في القدس، وحظر الأنشطة السياسية داخل "بيت الشرق" من طريق الزام المسؤولين الأجانب الذين يزورون المدينة بعدم عقد لقاءات مع شخصيات فلسطينية داخله. وأشارت الصحف الإسرائيلية إلى أن نتانياهو يريد أن يثبت للإسرائيليين أنه على رغم جهود أولمرت في تهويد القدس، إلا أنه كرئيس للوزراء يتحمل وحده التبعات السياسية لخطوات أولمرت. حتى ان هناك من المحللين السياسيين من يتهم أولمرت بمحاولة "توريط" نتانياهو عبر جره إلى مغامرات سياسية، مستغلاً الحساسية التي ينظر فيها الجمهور اليهودي للقدس. إلا أنه أياً كانت الاعتبارات التي دفعت نتانياهو لاتخاذ قرار المصادقة على الخطة المذكورة ستكون نتائجها خطيرة جداً على مستقبل القدس، إذ أن إنشاء بلدية ما يعرف ب "القدس الكبرى" يعني اقتطاع 20 في المئة على الأقل من مساحة الضفة الغربية وضمها لإسرائيل. وعلقت افتتاحية "هآرتس" بتاريخ 22/6/1996 على ذلك: "من حق الفلسطينيين أن يعتبروا هذه الخطة بمثابة تخريب متعمد للاتفاقيات الموقعة". فضلاً على أن المصادقة على الخطة تعتبر خطوة أحادية الجانب تستهدف حسم مسألة مطروحة للحل الدائم، وفي وقت تحاول فيه حكومة نتانياهو تجنيد العالم بأسره من أجل ثني السلطة الفلسطينية عن الاعلان عن الدولة الفلسطينية في العام المقبل بحجة ان هذه الخطوة أحادية الجانب. وما يزيد الأمور تعقيداً ان الاجراء الإسرائيلي جاء في خضم كشف العديد من الصحف العبرية عن مخطط لحكومة نتانياهو يهدف إلى اضفاء الشرعية على العشرات من المستوطنات والمواقع السكانية التي أقامها مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية من دون الحصول على ترخيص من قبل الجهات الحكومية. واطلق على هذا المخطط "تبييض عمليات غير شرعية" وفي حين يمنع مكتب نتانياهو مراقبة الدولة القاضية مريام بن بورات من التحقيق في عمليات التضليل والاحتيال التي تمارسها الجمعيات الاستيطانية في سعيها للاستيلاء على المنازل العربية في القدس وضواحيها "هآرتس" 15/6/1998. وأكد أستاذ القانون الدولي البروفيسور ايال بنفنستي أنه ليس من حق الحكومة أو البرلمان الإسرائيلي إصدار قوانين لضم مناطق من الضفة الغربية إلى القدس حسب القانون الدولي. ومع شعور نتانياهو بقدرته على فعل كل شيء، فإنه سيكون من نصيب فلسطينيي القدس مكابدة حرب الوجود التي تشنها بلدية "أولمرت"، التي بدأها العمالي تيدي كوليك الذي يوجز كل ما قدمه للعرب خلال رئاسته للبلدية التي امتدت لربع قرن، كما ورد في بروتوكول جلسة للبلدية عقدت بتاريخ 27/12/1987، حين خاطب كوليك أنصاره قائلاً: "إننا لم نعمل شيئاً واحداً يفيد العرب، لم نبن لهم مدارس أو أسواق أو منتديات ثقافية، ان الانجاز الوحيد الذي قدمناه لهم: شبكة مجاري، وهل تعلمون لماذا؟ هل تعتقدون أن هذا لصالحهم؟ ولرفعة مستوى حياتهم؟ كانت هناك حالات كوليرا وعندما شعر الجمهور اليهودي بالذهول قمنا بانشاء المشروع". وإن كانت هذه الأقوال العنصرية تصدر عن كوليك الذي طالما ارتدى ثوب الليبرالية الزائف، فإن نتانياهو وأولمرت لا يحاولان حتى مجرد اخفاء المخطط الذي عمل كوليك على تحقيقه بسرية تامة. * صحافي فلسطيني