الأزمة التي تمر بها عملية التسوية في الوقت الحالي، لها شقان أساسيان: الأول يتمثل بعدم رغبة الطرف الاسرائيلي في تقديم استحقاقاتها المهمة والسعي لتغيير بنودها واجراءاتها، والثاني يتمثل بعجز الادارة الأميركية عن زحزحة الموقف الاسرائيلي المتشدد نتيجة لحسابات داخلية لهذه الادارة، ونتيجة لعدم وجود آفاق بامكانية تغيير هذين الموقفين لدى أي من الطرفين الاسرائيلي والأميركي فإن الطرف العربي يقف عاجزاً عن تحريك هذه العملية بعد أن كانت مراهنته الأساسية تستند من جهة الى وساطة أميركية فاعلة تكون قادرة على اعطاء زخم لعملية التسوية والوصول بها الى نتائج ملموسة، وعلى رأسها استعادة جزء من الأراضي العربية المحتلة، باعتبار ان ذلك يساعد في حفظ المصالح الأميركية في المنطقة العربية عبر تحقيق الاستقرار فيها، ومن جهة أخرى الى وعود من حزب العمل بانجاز اتفاقيات سلام مع الأطراف العربية المعنية كل على حدة، وفي مقدم ذلك عدم معارضة قيام دولة فلسطينية شكلية وإعادة الجولان المحتل الى سورية والانسحاب من جنوبلبنان مقابل اندماج الدولة العبرية في العالم العربي عبر تطبيع العلاقات معه على كافة المستويات. وبعد مضي أكثر من سبعة أعوام ونصف العام على مؤتمر مدريد اتضح ان الرهانين السابقين لم يكونا في محلهما. اذ ان الولاياتالمتحدة نأت بنفسها منذ البداية عن ممارسة دور الوسيط النزيه والفاعل، واكتفت بالتدخل في الحالات التي تشهد أزمات مستعصية، وفي أغلب الأحيان كان هذا التدخل لمصلحة الطرف الاسرائيلي الذي كان في عهد حكومة العمل يستجيب لهذا التدخل ويستثمره لجهة تثبيت مطالبه مقابل تقديم تنازلات شكلية. بل ان حكومة العمل حرصت على انجاز الاتفاقيات التفصيلية اللاحقة لاتفاق أوسلو من دون الحاجة الى الدور الأميركي الفاعل الذي اقتصر دوره على رعاية الاتفاقيات وضمان تطبيقها. وعلى الرغم من أن عملية التسوية عانت من أزمات عدة في عهد حكومة رابين - بيريز، إلا أن رؤية الحكومة العمالية للمنافع المهمة التي ستنتج عن عملية التسوية في اطار العلاقات والتطبيع الاقتصادي، جعلتها حريصة على تجاوز هذه الأزمات من دون التفريط بعنصر الأمن مع التمسك بأسلوب تفتيت وتجزيء الاستحقاقات. ومن هنا، لم تظهر سوأة الوساطة الأميركية التي لم يكن هناك حاجة لتفعيلها. ولا يعني ذلك أن التسوية كانت تعيش احسن حالاتها، فالدول العربية كانت تتحسب للاستحقاقات المتمثلة بهيمنة الدولة العبرية على اقتصاديات العالم العربي في ظل ما تروج له من "سوق شرق أوسطية" كما أن النزعة المتطرفة للشارع الاسرائيلي لم تتراجع مع تقدم التسوية على الأرض، اذ ان "المشروع الشرقي أوسطي" لم يكن الا مجرد حلم تتخلله كوابيس العداوة التاريخية مع الشعوب العربية، وسنين طويلة من الحروب المتبادلة والهواجس الأمنية التي عززتها استمرار عمليات المقاومة الفلسطينية. وأهم نتيجة أسفر عنها تقلد الليكود حكم الدولة العبرية تمثلت بانهاء الآمال بدور أميركي فاعل بعد ثبات الحكومة الاسرائيلية عند مواقف غير قابلة للتزحزح. ومع أن الادارة الأميركية تحاول اطالة أمد دورها والمحافظة على وجوده من خلال اعطاء مهلة تتجدد كل مرة للحركؤ الإسرائيلية بالموافقة على مبادرتها، إلا أن هذه الأخيرة لا تبدي حرصاً على حفظ ماء وجه هذه الإدارة، وتضع في أولوياتها استمرار تماسك التحالف الحكومي الذي يرفض بعض شركائه رفضاً قاطعاً لالتجاوب مع هذه المبادرة، ووصف أحد الكتّاب الإسرائيليين المعارضين عكيفا الدار موقف حكومة نتانياهو من الدور الأميركي بالقول: "إن تحذير أولبرايت بأن تسحب الولاياتالمتحدة يدها من المسيرة السلمية يقلق نتانياهو في أفضل الأحوال مثلما يقلق الأممالمتحدة إلغاء حفلة موسيقية". ويفترض التقويم السابق أن ينتهي رهان الدول العربية على الدور الأميركي الفاعل، ولكن لا يبدو ان ذلك هو الواقع، حيث ان هذه الدول لا زالت تتمسك بالوساطة الأميركية وتراهن عليها على أمل أن تتغير بتغير الحكومة الإسرائيلية الحالية أو تغير الإدارة الأميركية نفسها بما يتيح امكانية ممارسة ضغوط حقيقية على الحكومة الإسرائيلية. كما أن الدول العربية لا زالت متمسكة بإطار وآلية التسوية القائمة على الرغم من ثبات فشلها وعجزها، وان الزمن الذي استغرقته هذه العملية لا زال - حسب هذه الدول - فيه متسع وفرصة حتى ولو عمدت الحكومة الإسرائيلية إلى تجميد عملية التسوية لمدة تكاد وتصل بعد شهور إلى عامين كاملين. استمرار المراهنة على الدور الأميركي لا يعبر عن قناعة حقيقية بفاعليته، وإنما يشير إلى عجز وعدم فاعلية الدور العربي والتردد والتشرذم الكبير الذي يعتري هذا الموقف إلى درجة عدم القدرة على عقد قمة عربية تخرج بقرارات جريئة في مواجهة الصلف الاسرائيلي! إن الإدارة الأميركية المكبلة بضغوط اللوبي اليهودي والمرتهنة لحساباتها الانتخابية التي ترتبط في جزء منها بهذا اللوبي، لا يمكن ان تكون قادرة على رعاية مفاوضات صعبة ومعقدة بحيادية وبوساطة فاعلة. ومن هنا فإن السبيل الوحيد لتحريك فاعلية الدور الأميركي هو رهن تحقيق المصالح الأميركية في المنطقة العربية بوجود دور فاعل ونزيه للإدارة الأميركية في المفاوضات، وإذا كانت الدول العربية لا ترغب باتخاذ خطوة كهذه في الوقت الحاضر، فإن المطلوب هو وقف التعويل على الدور الأميركي، وحتى لو تطلب ذلك تجميد العملية السلمية في ظل التعنت والتصلب الإسرائيلي الحالي، والالتفات الى تعزيز العمل العربي المشترك وتقوية الموقف العربي وتصليبه بالشكل الذي يوفر ظروفاً أفضل في المستقبل لقيادة الصراع مع الدولة العبرية، والتأثير على فاعلية الدور الأميركي وتوجهاته في المنطقة لا سيما في ظل الامكانيات المتزايدة لبروز قوى اقليمية ودولية منافسة لدور الولاياتالمتحدة والتي ستنهي الاستفراد الأميركي الاستثنائي في قيادة العالم وتفتح آفاقاً جديدة لرفع سقف الموقف العربي وتحسينه نسبياً، اذ ان القوة الذاتية بالامكانات المحلية تشكل عامل الحسم في تقدم هذا الموقف. والى أن تحين هذه الظروف، فإن التعويل على تحسن الموقف العربي يبقى في اطار نسبي، والمبادرة الأولى في سبيل ذلك هي التخلي عن أوهام الوساطة الأميركية الفاعلة في هذه الظروف على الأقل. * كاتب فلسطيني.