بعد انتهاء أزمة التصعيد الأميركي ضد العراق في الخليج، عادت الأضواء لتسلط مرة أخرى، وبأسرع مما كان يتوقع البعض، على عملية التسوية التي كانت وما تزال تعاني من أزمة خطيرة على كل المستويات. ولكن الملفت للنظر أن هذه العودة السريعة، قادها المتهم بتعطيل عملية التسوية وتأزيمها، وهو رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو الذي بادر الى طرح اقتراح انسحاب اسرائيلي من جنوبلبنان دون اشتراط توقيع معاهدة سلام مع كل من لبنان وسورية، وكذلك اقتراحه الجديد القديم بعقد مفاوضات مع الفلسطينيين على غرار كمب ديفيد للتوصل الى معاهدة سلام دائمة بما يتضمن القفز عن تطبيق بعض المراحل المهمة من المراحل الانتقالية، وعلى الأخص استكمال كل مراحل إعادة الانتشار في الضفة. والملاحظ أن مبادرات نتانياهو الجديدة - القديمة تستهدف تجاوز التداعيات السلبية لفشل الحل العسكري الأميركي في العراق والذي تزامن أيضاً مع فشل السياسة الأمنية الاسرائيلية في فلسطينولبنان عبر فضائح الموساد المتكررة والهزائم المتزايدة لجيش الاحتلال الاسرائيلي في لبنان، الأمر الذي عزز قناعة الإدارة الأميركية بضرورة المبادرة الى ممارسة ضغوط معتدلة على حكومة نتانياهو للتقدم في عملية التسوية وعلى الأخص على المسار الفلسطيني، لا سيما وأن هذا التقدم أصبح ضرورياً ومهماً لاسترجاع هيبة الولاياتالمتحدة في المنطقة والتي تضررت في الآونة الأخيرة بعد تزايد المعارضة في العالم العربي ولدى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن لاستخدام أسلوب الحسم العسكري في التعامل مع العراق. إلا أن الخيط الذي ينظم مبادرات نتانياهو هو الرغبة في تجاوز الأسس التي قام عليها مؤتمر مدريد، واعتماد أسس جديدة للتسوية السياسية تتوافق أكثر، حسب وجهة نظر الحكومة الاسرائيلية المتشددة، مع مصالح الدولة العبرية. فقد عبر نتانياهو عن رؤيته بهذا الخصوص بتأكيده أن مفتاح السلام في المنطقة هو الأمن، وأن له الأولوية على المعاهدات الموقعة مع الدول العربية. ولذلك فإن جوهر الموقف الاسرائيلي يستند الى الأمن كعنصر أساس في التسويات السياسية، وهو الموقف الذي فرّغ عملية التسوية من مضمونها، وجعلها رهينة للتطورات الأمنية على الساحتين الفلسطينيةواللبنانية. إن الموقف الاسرائيلي بعد انقشاع غيوم الأزمة الأميركية - العراقية، لا يختلف بتاتاً عما كان عليه سابقاً، ولكنه هذه المرة يعتمد أكثر على مبادرات إعلامية لا تحظى بنصيب وافر من النجاح، وتستمر في المراهنة على امكانية خضوع الموقف العربي للشروط والإملاءات الصهيونية على افتراض عدم امتلاك العرب لبديل آخر عن التسوية السياسية في ظل الظروف الحالية. ومن الواضح ان نتانياهو يتحاشى قراءة بعض المؤشرات التي فرزتها الأزمة الأخيرة، إذ أن الموقف العربي على الرغم من ضعفه وتفككه قد يكون في طريقه الى التحسن والتصاعد، وأن من أبرز العوامل التي قد تساعد على ذلك استمرار السياسة المتشنجة لحكومة نتانياهو وتعطل مسيرة التسوية الذي يوسع قاعدة الرفض الشعبي لها في العالم العربي. ومن زاوية أخرى، فإن الإدارة الأميركية، وفي اطار سعيها لحماية مصالحها في المنطقة، قد تضطر الى ممارسة ضغوط معينة على حكومة نتانياهو للحيلولة دون تعزيز الدور الروسي - الفرنسي المتصاعد باتجاه رفض الهيمنة الأميركية على المنطقة والمطالبة بدور أساسي في رعاية عملية التسوية، الأمر الذي قد يزيد من حدة الضغوط الموجهة ضد الدولة العبرية. ولئن كانت هذه المؤشرات من الضعف بمكان في الفترة الحالية، فإن امكانيات تعزيزها موجودة، وهو الأمر الذي يفسر سبب الاهتمام المفاجئ لنتانياهو بأوروبا ودعوتها لممارسة دور كان حتى عهد قريب مرفوضاً كلية إلا في الاطار الاقتصادي. كما أن هذه المؤشرات ربما دفعت نتانياهو باتجاه تطبيق بعض القضايا العالقة من الحل الانتقالي مثل مواضيع المطار والميناء والممر الآمن، ولكنها لن تصل الى درجة اقناعه بتطبيق إعادة انتشار واسعة في الضفة المحتلة. ومن المرجح أن نتانياهو يعلق آمالاً كبيرة على النفوذ المهم للوبي اليهودي في الكونغرس الأميركي والذي سيحول دون لجوء الإدارة الأميركية مستقبلاً لأي تصعيد سياسي ضد حكومته، فضلاً عن سعي هذا اللوبي لاستثمار المنافسة المحتدمة بين الجمهوريين والديموقراطيين لكسب ثقة الأميركيين اليهود في الانتخابات الرئاسية القادمة، باتجاه تجنيب الدولة العبرية أية ضغوط من الإدارة الأميركية من زاوية، وتصعيد دعوات التصدي بالقوة للعراق في حالة اخلاله ببنود اتفاقه مع الأممالمتحدة من زاوية أخرى. وهو ما قد يعزز مجال المناورة لحكومة نتانياهو، ويعطيها فرصة للتملص من الضغوط الأميركية كما يعزز دعواتها لاعتماد الأمن كأساس أول للتسوية في المنطقة. إن استمرار نتانياهو في طرح مبادرات إعلامية دون استعداده لتحقيق تقدم على أرض الواقع سيعجّل في موت عملية التسوية، ويعقد مهمة الادارة الأميركية التي يظهر أنها عاجزة حتى الآن عن اجباره على تجاوز طرح المبادرات الإعلامية الفارغة الى تنفيذ الجوانب المعلقة في الاتفاقات. ويبقى السؤال مطروحاً حول ردود فعل الموقف العربي والفلسطيني على هذه السياسة، والى أي حد يمكن الاستمرار في القول إن هناك عملية تسوية موجودة على أرض الواقع!