لقد اهتزت مسيرة عملية التسوية بشكل كبير عندما تزعزعت القناعة في الشارع الاسرائيلي بنجاح هذه العملية في حفظ الأمن الشخصي للاسرائيليين، ومن هذه الخلفية جاء التغيير في الحكم الاسرائيلي عام 1996، وكانت النتيجة تراجعاً جديداً وجوهرياً في تطبيق اتفاق اوسلو ومحاولة للقفز عن تطبيقات الحل الانتقالي الى المفاوضات النهائية، لأن هذه التطبيقات حسب الحكومة الجديدة لا تفي بمصالح وأمن الاسرائيليين. ورغم كل ذلك، لم تملك الادارة الأميركية اجبار حكومة نتانياهو على تنفيذ استحقاقات الحل الانتقالي، وركزت ديبلوماسيتها المكوكية في الآونة الأخيرة على تبني المطالب الأمنية الصهيونية والضغط على الفلسطينيين لتنفيذها، مع الاكتفاء بدعوة الطرف الاسرائيلي لزيادة المساحة المقررة لاعادة الانتشار بحيث تصل نسبتها الى رقمين بدلاً من رقم واحد كما تخطط الحكومة الاسرائيلية. بل ان الادارة الأميركية أقرت وبسابقة خطيرة من نوعها للاسرائيليين بأن يحددوا مسار عملية التسوية ويتحكموا بها من طرف واحد، عبر اعطائها الحق لهم بتحديد مدى اعادة الانتشار في مراحله الثلاث التي قررها اتفاق الخليل بداية العام المنصرم. اما حكومة نتانياهو فقد وسعت هذا الحق ليشمل تنفيذ مراحل اعادة الانتشار ذاتها، وقصرها على مرحلة واحدة بدلاً من ثلاث وذلك في محاولة واضحة لترك الجزء الأكبر من أراضي الضفة لمفاوضات الحل النهائي تمهيداً لضم الجزء الأكبر منها. وفي الوقت الذي كانت تحرص فيه حكومة رابين - بيريز على الاستدلال بالمصطلحات المطاطة والغامضة لاتفاق أوسلو لتبرير تعطيل بعض بنوده أو تبديلها، فإن الحكومة الاسرائيلية الحالية تنطلق من أرضية اخرى مختلفة قليلاً، وتتمثل بأن اتفاق أوسلو احتوى على الكثير من البنود السيئة والمضرة بالأمن الصهيوني، وانه لا بد من تغييرها. ولهذا ظهرت صورة التعطيل لعملية التسوية بشكل أبرز وأوضح، وسلطت الأضواء بشكل أكبر على التعنت والتصلب الاسرائيلي، وبدا واضحاً ان نتيجة المفاوضات الاسرائيلية والفلسطينية تتحدد بشكل مسبق بما يجري من مفاوضات داخلية على الصعيد الاسرائيلي، سواء أكانت هذه المفاوضات تجرى بين الأقطاب المتشددة والأقل تشدداً في حكومة نتانياهو، أو حتى بين "ليكود" و"حزب العمل" اللذين اتفقا مسبقاً على خريطة واضحة ومحددة لأسس الحل النهائي ضاربين عرض الحائط بمطالب الطرف الفلسطيني الرئيسية المتعلقة بالاستيطان والقدس والسيادة واللاجئين. ومفرغين مفاوضات الحل النهائي التي تتناول هذه المواضيع من مضمونها الحقيقي! ولا شك ان رجحان موازين القوى لصالح الطرف الاسرائيلي وعجز الادارة الأميركية عن ممارسة ضغوط فاعلة عليه، شجع ويشجع الحكومات الاسرائيلية على استمرار التمترس بمواقفها المتشددة الرافضة لأي سلام بالمعنى الحقيقي. ولكن تصاعد وتيرة التشدد الاسرائيلي واستمرار التعامل باستخفاف مع الموقف الفلسطيني والعربي الرسمي على اعتبار انه أصبح لا يملك الا خيار التسوية، وليس أمامه الا الاستجابة للمطالب الاسرائيلية، يحتاج الى وقفة جدية ومتأنية في الاطار الرسمي العربي والفلسطيني، تستخلص العبر مما يحدث، وتضع حداً للغطرسة الاسرائيلية. وفي ظننا ان المقاطعة العربية لمؤتمر الدوحة ينبغي ان تكون خطوة صغيرة ومقدمة لخطوات أكبر وأهم لا تنتهي عند التلويح أو حتى الشروع بوقف التطبيع الرسمي مع الدولة العبرية، ورهنه بما يتحقق من تقدم على مسيرة التسوية. فهذه التسوية أصبحت بحكم الميتة، والأصل تجهيز أكفانها ودفنها بدلاً من استمرار التعويل على نجاح محاولات التنفس الاصطناعي الأميركية لها.