عادت القضية الفلسطينية الى الفراغ الديبلوماسي الدولي الذي كانت تعيشه قبل عقد مؤتمر مدريد العام 1991، خصوصاً بعد فشل ما يسمى بالمبادرة الاميركية. فما هي البدائل المتاحة للعرب. من المؤكد ان أفضل الاختيارات البديلة هو الإعداد لانتزاع الأرض العربية المحتلة بالقوة. فلم تكن حكمة عبدالناصر القائلة بأن "ما ينتزع بالقوة لا يسترد بغير القوة" اكثر صدقاً مما هي اليوم. غير انه اذا حصرت البدائل السياسية - الديبلوماسية المتاحة للعرب، بخلاف الحل العسكري الحاسم، فإنه يبدو ان هناك خمسة اختيارات رئيسية، مطروحة على جدول اعمال السياسة الديبلوماسية العربية، وهي: - فكرة عقد مؤتمر منقذي السلام، او المبادرة الفرنسية - المصرية. - فكرة العودة الى الاممالمتحدة. - فكرة الانتفاضة واحياؤها. - فكرة تصعيد الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، بمساندة عربية، وصولاً الى تفجير اوسلو، من جانب العرب، بدورهم. - فكرة عقد مؤتمر قمة عربي. والواقع ان هذه الاختيارات ليست متناقضة. ويمكن التعويل عليها جميعها لشغل الفراغ الديبلوماسي المحيط بالصراع العربي - الاسرائيلي. غير انها تختلف اختلافات كبيرة من حيث آليات تحريكها، ومساراتها والنتائج المتوقعة منها، ولذلك فمن الضروري ان تناقش بعناية، وان تنظم في اطار رؤية استراتيجية لحل الصراع واسترداد الحقوق والاراضي العربية. * منقذو السلام: لم تتضمن المبادرة الفرنسية - المصرية الاخيرة تفاصيل تذكر حول طبيعة المؤتمر الدولي الذي تدعو اليه لإنقاذ السلام في الشرق الاوسط. كل ما يمكن استشفافه هو انه سيتحول عملياً الى شيء مماثل لمؤتمر شرم الشيخ العام 1996، وان كان برسالة معاكسة. فقد ركز مؤتمر شرم الشيخ على نقد ما أسماه بالارهاب. والمرجح ان يركز المؤتمر المقترح من جانب فرنسا ومصر على نقد التعنت الاسرائيلي. ومعنى ذلك ان المؤتمر لن يناقش تدابير محددة كفيلة بتحريك ديبلوماسية التسوية السياسية، اللهم سوى من خلال نداء يوجهه الى الاطراف المباشرة للصراع، وتحديداً اسرائيل وفلسطين وسورية. ومن هذا المنظور، فإن هناك معارضة ولو صامتة لهذه المبادرة، خصوصاً انها قد تقطع الطريق على اتخاذ تدابير اكثر قوة واشد حسماً في إدانة اسرائيل. ورغم ان المؤتمر لن يناقش تدابير عملية محددة، في ما يبدو، إلا انه لم يحصل على قوة دفع عملية. إذ اصدر الاتحاد الاوروبي بياناً يساند فيه المبادرة. ولكن الموقف الاميركي لم يعلن، والمرجح انه سيقف على جانب المعارضة. وحتى لو لم تعارض الولاياتالمتحدة عقد هذا المؤتمر، بل حتى لو قررت المشاركة فيه، فإن من غير المرجح ان تمنحه القوة الاعلامية والدعائية اللازمة. والواقع ان فكرة عقد مثل هذا المؤتمر ليست سيئة، اذا ما جعلت مجرد مقدمة لخطوات تالية اكبر واقوى. اذ يحقق المؤتمر المقترح للعرب مكسبين مهمين، الاول هو إعادة التأكيد على المرجعية الوحيدة المقبولة لحل الصراع العربي - الاسرائيلي حلاً سلمياً، متمثلة في قرارات الاممالمتحدة في مجموعها، بما في ذلك انسحاب اسرائيل التام من الاراضي المحتلة، والاعتراف بحق الشعب الفلسطيني في تكوين دولته. والثاني هو اعادة فرض عزلة ديبلوماسية وسياسية دولية على اسرائيل، كحد ادنى. والواقع انه كان من الممكن، بل لا يزال من الممكن، تحسين المقترح الفرنسي - المصري. وهناك على الاقل فكرتان رئيسيتان للاضافة الى قيمة هذا المقترح. الفكرة الاولى هي جعل هذا المؤتمر سنوياً، بما يؤدي الى جعله مناسبة سياسية وديبلوماسية دورية لإدانة سياسة التعنت والاجحاف الاسرائيلية، ولفرض رقابة دولية مستمرة على مواقف اسرائيل حيال الشعب الفلسطيني ومأساته الممتدة. والفكرة الثانية هي اضافة شق غير حكومي اليه، وبهذه الاضافة يصبح المؤتمر المقترح مماثلاً من الناحية العملية لمؤتمرات الاممالمتحدة حول الشؤون العالمية، والتي تعد مسؤولية مشتركة للبشرية، ويتيح هذا الاقتراح بناء تحالف مدني دولي مضاد للاستعمار الصهيوني - الاسرائيلي ومناصر لحقوق الشعب الفلسطيني. * العودة الى الاممالمتحدة: تنطوي الدعوة الى العودة للامم المتحدة على اعلان رسمي بوفاة مؤتمر مدريد، وبالتالي وفاة الاحتكار الاميركي لعملية التسوية. وربما يكون هذا المعنى الاخير هو ما يجعله صعباً بالنسبة الى بعض الدول العربية. ولا تعود هذه الصعوبة الى ما يترتب على الاخذ بهذا الاختيار من صدام بين هذه الدول والولاياتالمتحدة بقدر ما يعود الى حرص هذه الاطراف على عدم احراج الادارة الاميركية، امام خصومها في الكونغرس وامام اللوبي الصهيوني الموالي لحكومة ليكود، وترى هذه الاطراف العربية ان تكثيف الضغط على الادارة الاميركية قد يضطرها في النهاية الى استخدام الفيتو سيء السمعة ضد التحرك العربي الهادف الى مناقشة التعنت الاسرائيلي والخروقات الاسرائيلية للقرارات والاتفاقات الدولية في مجلس الامن. ويعني ذلك بالنسبة الى هذه الاطراف خسارة الموقف "الايجابي" للادارة الحالية، او بالأحرى تمكين اللوبي الصهيوني داخل وخارج الكونغرس من إلحاق هزيمة تامة بالإدارة في ما يتعلق بالشأن الفلسطيني خصوصاً، وهو ما يمثل خسارة ديبلوماسية للفلسطينيين وخسارة سياسية للعرب. غير ان هذا التقدير يبدو مبالغاً فيه. فالمؤكد هو ان حنق الادارة الاميركية وبخاصة الرئيس كلينتون نفسه على نتانياهو وحكومته المتطرفة وما قامت به من توجيه إهانات متكررة للرئيس الاميركي قد يغري ب "تمرير" التحرك العربي في مجلس الامن. وحتى لو اضطر كلينتون الى استخدام الفيتو في النهاية، وهو ما يقتل فرص الخروج بنتائج ايجابية من المجلس، فإنه لن يمثل نهاية الامر. اذ ان ظهور عجز مجلس الامن عن اتخاذ قرارات ايجابية حيال التعنت والانتهاك الاسرائيلي لقراراته بما يؤدي الى موقف يهدد الامن والسلم الدوليين، هو فرصة للعرب لدعوة الجمعية العامة للامم المتحدة لعقد جلسة خاصة وفقاً لمبدأ "التحالف من اجل السلام"، وهو ما يتيح للجمعية اتخاذ قرارات تطبق الفصل السابع من الميثاق، على نحو استثنائي، مثلما حدث في حالة كوريا عام 1954. وبصفة محددة، فإن اختيار العودة الى الاممالمتحدة يجب ان يشتمل على مرحلتين تستهدفان الاغراض نفسها. المرحلة الاولى هي دعوة مجلس الامن لمناقشة قرار يعتبر استمرار الاحتلال الاسرائيلي للاراضي العربية انتهاكاً جسيماً لقرارات مجلس الامن ذات الصلة وموقفاً يهدد الامن والسلم الدوليين، ويفرض عقوبات تصاعدية على اسرائيل، حتى تستجيب لهذه القرارات. وحيث ان المرجح هو ان تستخدم الولاياتالمتحدة "الفيتو" وان تثير بعض الدول الاوروبية، خصوصاً المملكة المتحدة اعتراضات خاصة بالعقوبات، تصبح المرحلة التالية حتمية. المرحلة الثانية تشتمل على دعوة الجمعية العامة للامم المتحدة لمناقشة تطبيق قراراتها الخاصة بالحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وفرض عقوبات على الدولة المعتدية والممتنعة اي اسرائيل، وذلك في جلسة خاصة، تحت شعار "التحالف من اجل السلام". وتتطلب هذه المرحلة إعداداً عربياً كثيفاً ومبكراً لتأمين الحصول على اغلبية الثلثين الضرورية لاتخاذ هذه التدابير العقابية من جانب الجمعية العامة. ولا شك انه بهذه الصيغة يصبح اختيار الذهاب الى الاممالمتحدة هو اقوى البدائل الديبلوماسية الدولية المتاحة للعرب وللشعب الفلسطيني، اذ انه يتضمن للمرة الاولى تحريك الآلية العقابية لميثاق الاممالمتحدة ضد اسرائيل. وتتعاظم فرص نجاح هذا الاختيار لو تمت صياغة القرار المقترح على ضوء مفهوم "العقوبات التصاعدية"، وبحيث تبدأ مخففة للتغلب على المعارضة الاوروبية المتوقعة لمثل هذا الإجراء، ولتأمين امتثال اوروبا للعقوبات المطلوبة ضد اسرائيل. * احياء الانتفاضة: ويبدو ان العالم كله ينتظر، بل يحث على، انبثاق انتفاضة فلسطينية جديدة، باعتبارها الورقة الاساسية الكفيلة بتحريك جاد للعمل الديبلوماسي الدولي. غير ان هذا الانتظار، او هذا الطلب والضغط المضمر يعد في الحقيقة تعبيراً عن فقدان العالم الشعور بالمسؤولية حيال الشعب الفلسطيني. فالانتفاضة ليست آلية نضالية تعمل من دون ثمن، بحيث يُطالب الشعب الفلسطيني النهوض بها على نحو دائم. فقد دفع هذا الشعب ضريبة غالية للغاية للانتفاضة بين عامي 1987 و1990. ولم تسفر هذه التضحيات الغالية عن شيء في ذلك الوقت، بسبب بلادة الديبلوماسية الاميركية وضعفها. ولم يتغير شيء من ذلك الواقع. فانبثاق انتفاضة لا تجد افقاً للترجمة الى واقع سياسي وتحرك ديبلوماسي جدي وسريع يفضي الى "ديالكتيك افتراسي ذاتي"، وهو ما حدث فعلاً بالقرب من عام 1990، عندما راحت الانتفاضة تأكل ذاتها. وربما يكون الخطأ الاساسي في الدعوة الى تجديد الانتفاضة هو ان هذه الدعوة تضمر هدف الضغط على اميركا بقصد تكثيف ضغطها على اسرائيل. وحتى يتم ذلك، لا بد ان تكون الانتفاضة قطعت شوطاً طويلاً، وشغلت فضاءً زمنياً طويلاً، حتى تظهر "الوحشية الاسرائيلية" بكاملها بما يؤدي الي ثورة ضمير اميركية، اضطرارية. غير ان من الممكن، بل من الضروري تحريك الانتفاضة الشعبية في الارض المحتلة على ارضية تصور ديبلوماسي جديد يرتبط باقتراح محدد لفرض العقوبات على اسرائيل تطبيقاً للفصل السابع من ميثاق الاممالمتحدة. وبحيث تبدأ الانتفاضة قبيل مناقشة هذه التدابير العقابية في مجلس الامن والجمعية العامة، وتنتهي طوعياً مع الوصول الى هذه العقوبات. * تفجير اوسلو: وفي لحظة ما من تطور الانتفاضة، وبالطبع العنف الاسرائيلي ضدهما، يُعد من المناسب - بل من الضروري- ان يعلن ابو عمار عدم تقيده بالتزامات سلطة الحكم الذاتي باتفاقات اوسلو، ، رداً على انتهاك اسرائيل لها. ويعني ذلك عملياً رفضه القيام بأي موقف سلبي حيال كل صور المقاومة المسلحة ضد الاحتلال الاسرائيلي. ومن الممكن في هذا السياق، دراسة إمكان اقامة ابو عمار في القاهرة او في تونس، ودعوته لعقد اجتماع لمنظمة التحرير الفلسطينية بكامل هيئاتها وفصائلها لتدارس طبيعة المرحلة المقبلة، والشكل المناسب للثورة الوطنية الفلسطينية في المدى المباشر والوسيط. ومن الضروري في ظل هذا السيناريو ان تبقى آلية السلطة الوطنية الفلسطينية في العمل، وتحضيرها واتخاذها التدابير اللازمة للدفاع عن النفس، وعن الارض حال قيام اسرائيل بإعادة احتلال المناطق المحررة. * قمة عربية: وهنا، وفي هذه اللحظة بالضبط يصبح عقد مؤتمر قمة عربي لوضع - واتخاذ الاجراءات الضرورية لتطبيق - استراتيجية جديدة لتحرير الارض المحتلة امراً ضرورياً تماماً. والمسألة الجوهرية هنا ليست مجرد سحب كل مظاهر التطبيع، والعودة الى سياسة تطويق اسرائيل سياسياً وديبلوماسياً، إذ ان جوهر الاستراتيجية السياسية المطلوبة هو تشكيل تكتل دولي فاعل يلعب فيه العرب دور القلب المحرك لمناهضة الصهيونية والاحتلال الصهيوني - الاسرائيلي للارض العربية. ففي ظل مفهوم، العقوبات التصاعدية، وفي ظل عمل سياسي وديبلوماسي عربي خارق يمكن تشكيل تكتل دولي يلعب دوراً مشابهاً للدور الذي لعبه الاتحاد السوفياتي السابق في تاريخ الصراع العربي - الاسرائيلي منذ عام 1967. وقد يكون تشكيل هذا التكتل كافياً في حد ذاته كبديل لشن حرب تحرير على المستوى الرسمي، وقد يكون كافياً لدعم هذه الحرب عندما تشنها قوى رسمية أو غير رسمية لاستعادة أرض العرب التي ثبت أنها لا تسترد بغير القوة.