تعني "صحافة دفتر الشيكات" عندنا ان الصحافة تقبض، غير انها تعني في الغرب ان الصحافة تدفع. ولا أتصور أن نرى في عمرنا يوماً ترشو فيه صحيفة عربية سياسياً أو رجل أعمال، أو مواطناً عنده خبر يستحق النشر من فضيحة سياسية الى فضيحة جنسية وكل ما بينهما. غير أننا نقرأ كل يوم أخباراً عن أخبار الصحف الغربية، فهذه الصحف تدفع لتنشر، في حين ان بعض صحفنا يقبض لينشر. واستعر جدل حامٍ في الصحافة البريطانية في الأسابيع الأخيرة موضوعه دفع الصحف مالاً لمجرمين أو مجرمات مقابل رواية تفاصيل جريمتهم، ما يعني ان المجرم يستفيد مادياً من جريمته، وعلى حساب الضحية أو الضحايا. ومع ان الصحف اللندنية كافة تمارس سياسة دفتر الشيكات، إلا ان المنافسة بينها من نوع قطع الأعناق، لذلك تهاجم الجريدة الخاسرة في مزاد الدفع الجريدة الرابحة، وتتهمها بالإساءة الى أخلاقيات المهنة، وقد تبلغ بها الوقاحة ان تشكو منافستها الى لجنة الشكاوى الصحافية، وهي هيئة قراراتها غير ملزمة، ولكن تحمل وزناً معنوياً كبيراً شكت السفارة الاسرائيلية في لندن "الحياة" الى اللجنة هذه السنة بسبب نشرنا صورة لرأس جندي اسرائيلي قتل في هجوم قرب صيدا، ولكن اللجنة ردت الشكوى الاسرائيلية. الشهر الماضي أصدر اللورد ديكهام، رئيس اللجنة، قرارات ترفض شكاوى الصحف بعضها على بعض، وشكاوى الجمهور عليها، وقال ان لجنته موكلة بإصدار "أحكام موضوعية على أساس قوانين الصحافة، إلا انها لا تستطيع اصدار أحكام اخلاقية". وربما استطعنا رد الضجة الحالية الى نيسان ابريل الماضي عندما تبين ان "التايمز" ستنشر على حلقات مذكرات ماري بيل، التي دينت قبل 30 سنة بقتل طفلين وحكم عليها بالسجن المؤبد، وكانت "الديلي تلغراف" قادت الحملة ضد "التايمز" إلا أنها بدورها نشرت خلال شهر حلقات من مذكرات شون اوكالاهان، وهو قاتل من الجيش الجمهوري الايرلندي. ولم تكد تهدأ هذه الضجة حتى قام خلاف أكبر بين ثلاث صحف تابلويد واسعة الإنتشار، هي "الديلي ميرور" و"الديلي اكسبريس" و"الديلي ميل"، فالأولى والثانية نشرتا مذكرات الممرضتين ديبرا باري ولوسيل ماكلوكلان اللتين اتهمتا بقتل زميلة لهما في المملكة العربية السعودية، وشنت الثالثة حملة عليهما استفادت منها المملكة العربية السعودية، لأنه فيما كانت الممرضتان تدعيان البراءة، وتحاولان إدانة المحققين السعوديين والقضاء، كانت "الديلي ميل" تنتصر للجانب السعودي، وترسل فريقاً صحافياً نشر تحقيقات ضد الممرضتين وكشف الاخطاء في سردهما لما حدث. غير ان "الديلي ميل" مارست بسرعة ما نددت به في زميلتيها، فهي دفعت 40 ألف جنيه للمربية لويز وودوارد لرواية قصتها، بعد ان دانتها محكمة اميركية بقتل الطفل ماثيو ايبين الذي كان بعهدتها. وأصدرت لجنة الشكاوى الصحافية أحكاماً مختلفة في كل من القضايا السابقة، إلا ان تبرئة الصحف عموماً من تهمة الدفع لمجرمين، ارتكزت على المبدأ العام وهو ان ليس من حق اللجنة إصدار "أحكام أخلاقية". وبالنسبة الى الممرضتين، فقد زعم بيرز مورغان، رئيس تحرير "الميرور" وروزي بويكوت، رئيسة تحرير "الاكسبرس" ان محاكمتهما في المملكة العربية السعودية لم تكن عادلة، إلا ان اللجنة لم تؤيد هذا الزعم، وانما قالت ان من حق الجريدتين نشر مذكرات باري وماكلوكلان، لأن من حق هاتين عرض وجهة نظرهما، خصوصاً ان الصحف الأخرى نقلت وجهة نظر الطرف الآخر، أي الطرف السعودي. فيما كنت أقرأ كل ما سبق، وأرجح ان الجريمة تفيد، خصوصاً اذا كانت جريمة من نوع تهتم به الصحف البريطانية، قرأت تفاصيل قضية قدح وذم رفعها العداء لينفورد كريستي ضد كاتب، هو جون ماكفيكر، وكسبها بعد ان اتهمه هذا بتناول منشطات ممنوعة. وسبب اهتمامي بهذه القضية بالذات ان ماكفيكر مجرم تائب تحول الى الصحافة، وهو يكتب زاوية في مجلة "بانش". ووجدت مفارقة في ان مجرمين ومجرمات يكسبون من جرائمهم عشرات ألوف الجنيهات، وأحياناً مئات الألوف، وان مجرماً سابقاً يدفع ثمن توبته. أحياناً أشعر بأن النقلة من الجريمة الى الصحافة وبالعكس ليست واسعة، فالصحف الغربية مذنبة اذا دفعت لمجرمين، حتى لو لم ترَ ذلك لجنة الشكاوى الصحافية، والصحف العربية مذنبة إذا قبضت من مجرمين، حتى لو كانوا يمارسون السياسة تمويهاً. وأترك القارئ مع قصة من بيروت، فقد كنا مجتمعين في مقهى بعد انتهاء العمل في آخر الليل، عندما جاء زميل شاب وقال لزميل مخضرم انه سمع زملاء في جلسة عامة يتهمون الزميل المخضرم بأنه يقبض، فوبخهم وأصر على ان الزميل المتهم شريف. وثار الزميل المخضرم وقال للشاب غير المجرب ما معناه: من طلب منك الدفاع عني. أنا مضى عليّ 30 سنة أحاول أن أنشر سمعتي في القبض، وأنت تخربها لي في يوم واحد. افترض انه كان في الجلسة واحد يريد ان يدفع لي وصدقك. يجب ان تعود الآن من حيث أتيت وتصحح معلومات الجميع. يا أخي أنا أقبض، وأنت يصح فيك المثل عن صداقة الجاهل. ونحن جهلنا فوق جهل الجاهلينا، شعراً فارغاً وصحافة.