بدأت معارك "كسر العظم" في صحافة "التابلويد" البريطانية بعد تزايد انخفاض مبيعاتها للمرة الأولى منذ اكثر من عقد من الزمان. وكان اول الخارجين من حلبة التنافس الرئيسية صحيفة "الاكسبرس"، تاركة الصحيفتين المتناطحتين "الصن و"الميرور"، امام منافسة "الديلي ميل" التي استطاعت تجاوز "الصنداي ميرور" في السنة الماضية، وبدأت تتطلع لتجاوزها بقية ايام الاسبوع، املاً في الجولة النهائية مع "الصن". وتعالج الصحيفتان اللتان تخوضان معارك المنافسة نقص المبيع بزيادة الانفاق ودعم جهاز التحرير بهدف رفع مستوى الصحيفة وزيادة انتشارها، وإعلاناتها. وعلى العكس من ذلك تتابع "الاكسبرس" و"الميرور" معالجة معضلة اعراض القراء ونقص الأرباح، بعصر النفقات على حساب التحرير. وكانت "الاكسبرس" سرّحت نيكولاس لويد بعد عشر سنوات من الخدمة وحملته مسؤولية الفشل، وأسندت رئاسة تحرير "الديلي اكسبرس" و"الديلي ستار" الى ريتشارد أديس توفيراً للنفقات، وكلفت سو دوغلاس التي كانت نائبة رئيس تحرير "الصنداي تايمز" برئاسة تحرير "الصنداي اكسبرس"، فهبطت المبيعات 9 في المئة. ولتعويض نقص الدخل عمدت الادارة الى تسريح 220 من العاملين من اصل 19 الفاً، فزاد انخفاض المبيعات من مليوني نسخة الى 1.2 مليون، وبدأ الحديث عن بيع المجموعة، وازداد ضغط مجلس الادارة على اللورد ستيفنس لدراسة العروض المقدمة بقيمة 300 مليون جنيه. ولكن عرض اللورد هوليكس صاحب الاستثمارات التلفزيونية بالاندماج مع "الاكسبرس" لتنويع النشاط الاعلامي للمؤسستين انقذ "الاكسبرس" من البيع بسعر بخس سنة 1995. ورفضت خطة الانفاق التي اقترحتها سو دوغلاس لدعم التحرير للحفاظ على قراء الصحيفة القدامى، وجذب جيل جديد من القراء، وإجراء تحول في الخط السياسي، وإحياء "الصنداي اكسبرس" ايام ذروتها حين كانت تبيع اربعة ملايين نسخة في اليوم، بزيادة المراسلين الخارجيين وتقديم تغطية رياضية مركّزة، وجذب مواهب وخبرات صحافية. وفي الفترة التي كانت "الديلي ميرور" تخوض المعاناة نفسها، لكن من سوء حظها ان ديفيد مونتغمري الذي اعد خطة الانقاذ بعد موت روبرت ماكسويل هو من مدرسة معالجة انخفاض عدد القراء وزيادة الارباح بتقليص النفقات والضغط على التحرير، فاستقدم صديقه ونظيره في ضغط الانفاق كالفن ماكينزي الذي عمل في "الصن" 13 سنة، خمس منها رئيس تحرير "الصن"، ثم حوله مردوخ الى تلفزيون السكاي، مما سهل جذبه الى "الميرور" سنة 1994، في نطاق عمليات تبديل الاحصنة الجارية في صحافة التابلويد. لكن بسبب صراحته وجرأته ابقي مسؤولاً في الدرجة الأولى عن "لايف تي في"، خصوصاً مع رئاسة تلميذه بيرز مورغان لتحرير "الديلي ميرور" وروزي بويكوت، وهي من المدرسة ذاتها لرئاسة تحرير "الصنداي ميرور". ولكن تجاوز صحيفة الصنداي ميل للصنداي ميرور للمرة الأولى في تاريخها، واستمرار انحدار صحيفة "الاندبندنت" التي تملك مجموعة الميرور فيها 43 في المئة وانتشار الاشاعات عن العزم على بيعها، دفع مومنتغمري لتعيين ماكينزي نائباً للمدير التنفيذي، والمدير العام لمجموعة الميرور في منتصف الشهر الجاري. والمفارقة في المنافسة بين صحيفتي التابلويد الرئيسيتين، هي ان المسؤولين في "الديلي ميرور" يدركون انه اذا تشابهت كثيراً مع "الصن"، فان الاخيرة ستكون الرابحة. ومع ذلك ما تزال السياسة التحريرية للديلي ميرور، ملتصقة بالمقولة التقليدية، بأن الصفحة الأولى هي التي تحقق نجاح الصحيفة، مهما كان تحرير الصفحات الداخلية عظيماً، لذلك ما تزال قصص اليانصيب "اللوتري" وفضائح العائلة الملكية تحتل الصفحة الأولى. ولكن ذلك كله، لم يبعد سياسة التحرير في "الصن" عن الابجديات الصحافية، وأهمها ان ضربات الاثارة الصحافية الاخبارية لا تخلق ولا تبلور شخصية متميزة للصحيفة، بل الرأي وأعمدة المعلقين المحترفين هي التي تميز صحيفة عن اخرى. حشدت "الديلي ميرور" مجموعة من المعلقين، وكتّاب الاعمدة المتمكنين مثل توني بارسون، وفيكتور لوس سمث، وكومدين جو براند. واستضافت بعض اساطين شارع الصحافة الذين كانوا من المحررين الكبار في "الديلي ميرور" مثل كيث ووتر هاوس كاساندرا الذي اختفى اسمه تماماً الآن. يقول رئيس تحرير الميرور الصحافي الصاعد بيرز مورغان: اذا لم أنجح، سأهبط دون سائر رؤساء التحرير، وإذا سقط التوزيع شاقولياً، سأسقط معه. لكن مجيء استاذه ماكينزي الآن الى قمة المسؤولية التنفيذية قد تسنده قبل ان يسقط. وقد يسقطان معاً ما دام راهب التقشف مونتغمري يملك المفاتيح، وهو الذي لم يحرك ساكناً في "الاندبندنت" وهي تخبو وتزداد حولها شائعات بيعها المحتملة جداً لولا ضغط الدكتور توني اوريلي صاحب مجموعة "آيرش اندبندنت" التي تملك 43 في المئة من "الاندبندنت" الذي يحب الصحافة الجادة، وهي السمة المميزة لرئيس تحريرها السابق اندرو مار الذي رفض تنفيذ تخفيض الموازنة اكثر من 4 ملايين جنيه لأن ذلك يؤثر جذرياً على التغطيات الخارجية ويدني المستوى الفكري والثقافي للصحيفة، وهذا شديد التأثير على عملية تطوير الصحيفة التي فشلت في زيادة المبيعات. ويذكر ان الصحيفة تستمر في موت بطيء بسبب تخفيض النفقات بحجم لا يمكن قبوله، لكن اذا جرى التمويل بشكل جيد، فهناك قناعة بأن للصحيفة سوقها. ويعكس وجهة النظر هذه ايان هارغريفز، رئيس التحرير السابق للصحيفة الذي يرأس تحرير "النيوستسمان" الآن. وأجبر على ترك الصحيفة في تشرين الثاني نوفمبر 95 بعد رفضه قبول تخفيض موازنة الصحيفة، يقول: "كل ما يجري هو فشل مريع، وتبقى الصحيفة في رأيي قوية ومرغوبة وقابلة للاستمرار، لكن لا يمكن ان تستعيد صحتها من دون توظيف مالي معتبر، ودعمها لفترة طويلة". ولو تخلى اندرو مار عن صمته لقال الشيء نفسه. واعترف بيرز مورغان رئيس تحرير "الميرور" بمشكلة الوصول الى نهاية الطرق في السوق، ورحب بتعيين ماكينزي، وقال اذا كان بامكان احد حلها فهو ماكينزي، فهو اهم ممثل لفن التابلويد. وليس لديّ شك بأن كالفن سيكون متطلباً، فإذا لم يقدم الناس مردوداً، فلن يتردد في ايجاد من يفعل، هناك مزيج من الاثارة والتوجّس في غرف الاخبار. يقول رئيس تحرير "سانت لويس ديسباتش" في مؤتمر رؤساء تحرير الصحف العالمي المنعقد في واشنطن سنة 96: السعي لتوفير حرية انتقال الاخبار والمعلومات والآراء هو دور اساسي للصحافة والمحررين، ولكن هذه الحقيقة الجوهرية، غير واضحة لدى الناشرين الذين يتركز ايمانهم على السوق، ويحددون انفسهم بعصر الموازنات في اقسام التحرير، ليس هناك اكثر تركيزاً في العمل لاقتناص السوق من تغطية متقنة للأخبار المحلية. ويقول رئيس مؤسسة الاستشارات الادارية الدولية "ماك كينزي آند كومباني" في المؤتمر نفسه: في الصراع ضد الاعلام الالكتروني، على الصحف، التوجه بشكل أساسي الى اكبر عدد من القرّاء، واستخدام العدد الاقصى من الصحافيين تحت قيادة رئيس تحرير يجب ان يكون ايضاً خبيراً بالاسواق، والصحافي الذي لا يستطيع المضي في هذا العالم الجديد بشجاعة سيقذف خارجاً. ووفقاً لتأكيدات ماكينزي، "عمل التحرير هو الدفاع عن القاعدة الأساسية وهي الزبون، عبر ابحاث التسويق، ثم العمل على تنفيذ ما تتوصل اليه". وأيده جورة ايبول رئيس التحرير وصاحب صحيفة "مورجينافيزن جيلاندز برستن" الدانمركية بقوله ان صحيفته كانت تخسر وتتجه نحو الافلاس، فعمل لبعث الحياة فيها بالانفاق السخي على التحرير، وزاد عدد الجهاز من 225 الى 365 محرراً. وأضاف: لم تكن النتيجة فورية، يجب علينا ان نكون صبورين، لكن الصحيفة تطورت وأصبحت صحيفة الدانمرك ذات المستوى الرفيع الأولى. يعود ماكينزي الى الميدان وقد نسيه الكثيرون، لكن تزكية المحاربين القدامى له مثل روي غرينسليد، تذكرنا بأنهما كانا فرسان الرهان سنة 1990، الأول لدى مردوخ رئيساً لتحرير "الصن"، والثاني لدى ماكسويل رئيساً لتحرير "الميرور" قبل ان ينتقل الى "الغارديان". وعموماً هما من مدرسة واحدة، وهي مدرسة مردوخ وصحيفة الصن. اشترى مردوخ "الصن" سنة 1969 بنصف مليون جنيه من اللورد نوثكليف ابو صحافة التابلويد الذي باع شقيقتيها الميرور اول صحيفة تابلويد في بريطانيا صدرت سنة 1903 وصارت اكثرها مبيعاً في الستينات والسبعينات لروبرت ماكسويل سنة 1984. استطاع مردوخ في اقل من عشر سنوات ان يزيد مبيعات الصن بمعدل 870 الف نسخة عن "الميرور" سنة 1978، وبدأ معركة الترويج بالمسابقات بدءاً ببطاقات لعبة كرة القدم البطاقة 25 بنساً اضافة لسعر الصحيفة لقاء جائزة خمسة ملايين جنيه. وردت "الميرور" بمسابقة مشابهة مجانية لقاء جائزة مليون جنيه، واستعادت مكانتها. لم تكن حرب المسابقات من ابتكار مردوخ او ماكسويل، اذ بدأها مؤسس الميرور والصن اللورد نورثكليف قبل قرن من الزمان، مخصصاً جائزة مليون جنيه للفائز في تحديد عدد النقود الذهبية الموجودة في مصرف انكلترا في 4/12/1989، وزاد المبيعات بذلك 33 الف نسخة في اليوم. وبعد تسعين سنة بدأت "الصن" لعبة البنغو سنة 1980، وزادت مبيعاتها 600 الف نسخة في اول اسبوع من اعلان المسابقة، ثم كررها ماكينزي في "الصن" سنة 1990 وزاد المبيعات في اول اسبوع 100 الف نسخة، وكان زميله وخصمه في "الميرور" يكافح على جبهة التحرير لتلافي نتائج لعبة المسابقات. سنة بعد سنة تتناقص مبيعات التابلويد، ولا احد من رؤساء تحريرها يعرف السبب. هل ملّ القراء من خبطات الصفحة الأولى عن فضائح العائلة الملكية والمسلسلات التلفزيونية؟ هل السبب التلاعب اللفظي في العناوين الرئيسية؟ وهل القرّاء - وخصوصاً النساء - اكثر ذكاء مما يظن رؤساء التحرير اذا ادّعى احدهم انه يعرف جواب هذه الاسئلة فهو مشعوذ؟ بهذه الاسئلة لخص المحرر الاعلامي لصحيفة "التايمز" برايان ماك آرثر ازمة صحافة التابلويد استناداً الى ارقام مبيعات سنة 1997 المقلقة للناشرين ورؤساء التحرير. وهي تشير الى انخفاض مبيعات "الصن" و"الميرور" و"الديلي ستار" سنة بعد سنة بحوالى 348 الف نسخة، اي بمعدل 5 في المئة، وبالنسبة نفسها لصحف الاحد، "نيوز اوف ذي وورلد"، و"ذي بيبول"، و"الصنداي ميرور" بحوالى 460 الف نسخة. وزاد انحدار صحيفة "الاكسبرس" بانخفاض عدد مبيعات الاحد من 2.7 مليون نسخة قبل عشر سنوات، الى مليون و54 الف نسخة الآن، في حين اصبح مبيع "ميل اون صنداي" ضعف ذلك، 2.151 مليون نسخة، وتجاوزت بذلك "الصنداي ميرور" التي انخفضت مبيعاتها بمعدل 24 في المئة. وشرب اللورد روذرمير صاحب "الديلي ميل" نخب النجاح متطلعاً الى تجاوزها بقية أيام الاسبوع، وتفيد المؤشرات الى ذلك، ومن اهمها اعتماده استراتيجية النوع ومستوى التحرير التي ورثها عن جده مؤسس "الميرور" وكانت سلاحه في الانتصار على "الاكسبرس" التي تعتمد استراتيجية مناقضة، بتوفير النفقات، وعصر موازنة التحرير. بعيداً عن ذلك، تابع مردوخ ارباك المنافسين وإجبارهم على تغيير خططهم على الجبهتين الرئيسيتين: النوع ومستوى التحرير، والكمّ وعدد الملاحق. وخاض جولة جديدة في منتصف الشهر الماضي بخفض سعر صحيفة "التايمز" يوم السبت ذات الملاحق الست والمجلة الملونة، من خمسين الى عشرين بنساً، مع ان كلفة العدد تزيد عن جنيه، اي انه يخسر 80 بنساً في العدد الواحد بغية دحر المنافسين وكسب الاعلان. بعد ان صبر سنة كاملة على "الديلي تلغراف" وهي تعلن انها الصحيفة الفائزة كأفضل صحيفة لسنة 97، والتباهي بزيادة ملاحق عدد يوم السبت، فاجأها بضربته الجديدة في حرب الاسعار التي تشير الى رؤية بعيدة لتغيرات الدخل ومستوى المعيشة في بريطانيا، واعتماد سياسة تسعير شعبية.