كان الصحافي الكبير مصطفى أمين نصحني يوماً بألا أرد على أي حملة صحافية. وهو قال انه إذا هاجمني صحافي أكبر مني شهرة وأوسع انتشاراً، فسأكسب من شهرته وانتشاره. أما إذا هاجمني صحافي دوني مكانة، فردي سيكسبه شهرة وانتشاراً. مصطفى أمين، رحمه الله، لم يعمل بنصيحته، ربما للتكافؤ بينه وبين الاستاذ محمد حسنين هيكل، فمساجلاتهما وفرت للقارئ العربي مادة خصبة عن واحدة من أهم الحقب السياسية العربية، وعنهما شخصياً. وهما لو بقيا متفقين باستمرار لما ألفا الكتب عن موضوع خلافهما، وخفايا السياسة المصرية في الخمسينات والستينات. اليوم لم يبق من تلك المعارك القديمة شيء، وحتى معارك الزميل عادل حمودة أجدها تختلف عن معارك ارتبطت بأسماء محمد التابعي، أو كامل الشناوي، أو موسى صبري، أو بتلك المعارك المشهورة في لبنان بين الراحلين سعيد فريحة وسليم اللوزي. وهكذا، ومع أفول شمس المعارك الصحافية العربية، فإنني أتابع معارك "الخواجات"، ولفتني أخيراً خلاف كبير بين "الديلي ميل" و"الديلي ميرور" و"الديلي اكسبريس"، وكلها صحف بريطانية "تابلويد" واسعة الانتشار جداً، لأن الخلاف كان على موضوع عربي هو محاكمة الممرضتين ديبرا بيري ولوسيل ماكلوكلان في المملكة العربية السعودية، بتهمة قتل زميلتهما الاسترالية الممرضة ايفون غيلفورد. وكانت "الديلي ميرور" دفعت مبلغاً كبيراً لماكلوكلان مقابل رواية قصتها، ودفعت "الديلي اكسبريس" مبلغاً مماثلاً لبيري وطلعت "الديلي ميل" من المولد بلا حمّص، فكان أن أخذت جانب القضاء السعودي، وهاجمت الجريدتين والممرضتين، وكسبت المملكة العربية بالمجان، وبشكل استثنائي. وبما ان الممرضتين اللتين أفرج عنهما بعفو ملكي زعمتا أنهما ضربتا وهددتا لانتزاع الاعترافات منهما، فقد أرسلت "الديلي ميل" فريقاً صحافياً كبيراً ضم النائب العمالي جورج غالاواي الى المملكة العربية السعودية، وعاد الفريق بأخبار وتحقيقات تؤكد براءة القضاء السعودي، وذنب الممرضتين. واستفاد رجل أمن سعودي نشرت "الديلي ميل" صورته ملونة في صدر صفحتها الأولى مع نفي تعذيب الممرضتين. وبما ان الصحف البريطانية لا تنام على ضيم، فقد ردت "الديلي ميل" على سبق "الديلي ميرور" و"الديلي اكسبرس"، بالفوز بقصة المربية البريطانية لويز وودوارد التي دينت بقتل طفل اميركي كان في رعايتها. وردت الصحيفتان المنافستان فوراً بانتقاد هذا السبق، فالمربية قاتلة ثبتت المحكمة العليا في مساتشوستس الحكم عليها، وهي استفادت بالتالي من جريمتها لأن "الديلي ميل" دفعت لوالديها 40 ألف جنيه مقابل رواية قصة ابنتهما لها وحدها. وظهرت وودوارد في مقابلة مع التلفزيون البريطاني قبل يومين ولمحت الى ان والدي الطفل الذي اتهمت بقتله ربما كانا مسؤولين، فهاجمتها صحف بريطانية مع الصحف الاميركية لأنها لم تخص هذه الصحف بحديثها. وقد أصبحت قضية "الديلي ميل" أمام لجنة الشكاوى القضائية، مع مطالبة الصحف المنافسة بأن يكون للجنة حق فرض غرامات مرتفعة على مخالفي آداب المهنة، كأنهما لا تخالفان. طبعاً هذا حصرم في حلب، ولو ان صحيفة منهما حصلت على حق نشر قصة وودوارد لدافعت عن هذا الحق بأسنانها وأظافرها، فالمهم ان يزيد البيع، على حساب الناس أو حساب الحقيقة. وان كان من حساب في الأمر، فهو ان الجاني المستفيد لا ينجو من غضب الصحف المنافسة، ففي موضوع بيري وماكلوكلان تبادلت الممرضتان التهم خلال رواية كل منهما قصتها، كما هاجمت "الديلي ميل" الممرضتين معاً. وفي قضية وودوارد كشفت الصحف المنافسة ان والدها غاري على علاقة محرمة مع جارة له، وان مظاهر "الأسرة السعيدة" خلال المحاكمة عندما كان غاري يمسك بيد زوجته سو باستمرار، مجرد غطاء كاذب لخداع المحكمة. ولم تكتف "الديلي ميرور" بخبر لعب الأب "بذيله"، فكلهم يلعب، لذلك فهي نشرت يوماً في صدر صفحتها الأولى خبراً عن محاكمة لويز وودوارد كان عنوانه ثلاث كلمات فقط هي "لويز وحشة كاذبة". لويز وحشة كاذبة وفي حساب والديها 40 ألف جنيه. أما معاركنا الصحافية فكانت مجانية، وربما هذا سبب ان زمانها ولّى، وجاء زمان الصحافة المدّجنة، فلا معارك في موسم الحل السلمي... في الحب والحرب والصحافة