في مطلع هذا العام تقدمت الادارة الاميركية بأفكار الى الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي بشأن "النبضة الثانية" من اعادة الانتشار في الضفة الغربية، وتحولت هذه الافكار في وسائل الاعلام وفي الاتصالات الرسمية التي كانت هذه الادارة تجريها مع الاطراف المعنية في المنطقة الى مبادرة احتلت اخبارها العناوين الرئيسية في وسائل الاعلام. الكل يسمي هذه الافكار "مبادرة" باستثناء اصحابها، اي الادارة الاميركية، والكل يتداول بما هو معروف منها من دون الاشارة الى ما هو غير معروف، الذي جاء تحت عنوان "خارج اطار الصفقة". اما المعروف فهو ما تناقلته وسائل الاعلام بشأن نسب اعادة انتشار قوات الاحتلال بين المناطق ج - أ، ج - ب وب - أ. وهذا المعروف مثقل بالكثير من الاشتراطات والالتزامات المفروضة على الجانب الفلسطيني، التي تستهدف إثارة المزيد من التوتر في العلاقات بين السلطة الفلسطينية وقوى المعارضة أو بعض اطرافها في الحد الأدنى. يضاف الى ذلك ان آليات تطبيق إعادة الانتشار هذه تعطي حكومة اسرائيل مزايا التحكم بالتنفيذ وتمكنها من جرجرة الامور حتى ايار مايو المقبل، وربما الى ما بعد ذلك في محاولة لشطب النبضة الثالثة من إعادة الانتشار بعدما جرى شطب الاولى منها. الحكومة الاسرائيلية لا ترتجل المواقف في كل ما يتصل بإعادة نشر قواتها في الضفة الغربية، وهي لا تبحث في امور كهذه بمعزل عن خرائطها للتسوية الدائمة، خارطة المناطق الاستراتيجية، خارطة المصالح الاسرائيلية كما اعدها الجيش، خارطة المياه الجوفية، وخرائط المخططات الهيكلية للمستوطنات والكتل الاستيطانية العشر، التي تمزق الضفة الغربية وتحول مناطق الكثافة السكانية الفلسطينية الى معازل - بانتوستانات تحت السيطرة الاسرائيلية الكاملة. وفق سياسة هذه الحكومة فان اعادة الانتشار من 9 - 10 في المئة من مساحة الضفة الغربية تعني ان يصبح 86 في المئة من السكان الفلسطينيين في مناطق أ"ب، واذا اضفنا قطاع غزة تصبح النسبة 93 في المئة من السكان. اما الوضع بالنسبة الى المستوطنات والمستوطنين، فان اعادة الانتشار هذه ستترك 1700 مستوطن يعيشون في 10 مستوطنات في المنطقة المسماة ب. أما إعادة الانتشار من 13 في المئة من مساحة الضفة الغربية فتعني ان يصبح 89 في المئة من السكان الفلسطينيين في مناطق أ"ب، واذا اضفنا قطاع غزة تصبح النسبة 5.94 في المئة من السكان. وبالنسبة الى المستوطنات والمستوطنين فان هذه النسبة من اعادة الانتشار ستؤثر على 9 آلاف مستوطن يعيشون في 18 مستوطنة من اصل 155. وفي حساب السيطرة على المياه الجوفية فان اعادة انتشار بنسبة 9 - 10 في المئة ستنقل 15 في المئة منها الى مناطق أ"ب، بينما ترتفع النسبة الى 25 في المئة اذا ما اعادت الانتشار بنسبة 13 في المئة من مساحة الضفة الغربية. وهكذا فان كل شيء بحسابه في مخطط حكومة اسرائيل لاعادة الانتشار، ولا يغفل هذا الحساب وضع محطة الانذار في "عال حبشور" شمال شرقي عوفرة في محافظة رام الله، ومحطة عيبال في محافظة نابلس، وهما موقعان عسكريان تتمسك بهما قوات الاحتلال في الضفة الغربية. الحسابات الاسرائيلية هنا دقيقة وتحت السيطرة، وهي حسابات تستثني القدس بمساحتها التي تعادل 15 - 20 في المئة من مساحة الضفة الغربية، وحسابات للمستقبل بحيث ترسو صيغة التسوية الدائمة على نقل ما تتمخض عنه المفاوضات بشأن "المبادرة الاميركية" ومناطقها أ - ب الى السيطرة الفلسطينية فيما تحتفظ اسرائيل بالسيطرة على ما تبقى من الارض وفق معايير اسرائيلية خمسة هي: الحدود الامنية، القدس، الامن العام، المستوطنات والمياه. هل هذه الصورة واضحة للمفاوض الفلسطيني؟ نأمل ان تكون واضحة وهل هي واضحة للادارة الاميركية؟ يخطئ من يعتقد انها غير واضحة، فقد سبق ان عرض البريغادير جنرال شلومو بروم احد كبار الضباط في قسم التخطيط في وزارة الدفاع الاسرائيلية الامر في لقاء في واشنطن في شباط فبراير 1997 ضم كلاً من الرئيس بيل كلينتون ورئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو ومارك فاريس رئيس قسم الشرق الاوسط في مجلس الامن القومي الاميركي ودوري غولد المستشار السياسي لرئيس الحكومة الاسرائيلية. ما الذي عرضه الجنرال شلومو بالتحديد؟ لقد عرض التالي مرفقاً بخارطة المصالح الاسرائيلية، كما اعدها الجيش الاسرائيلي: - نهر الاردن يجب ان يبقى الحدود الاستراتيجية لاسرائيل من الناحية الشرقية. - منطقة القدس الكبرى ستكون تحت السيطرة الاسرائيلية وتتوسع في عدة اتجاهات لتشمل مستوطنات غوش عتصيون ومعاليه ادوميم. - مناطق الاستيطان ذات الكثافة الاستيطانية في الضفة الغربية وقطاع غزة ستكون تحت سيطرة اسرائيل. - الطرق الحيوية في الضفة الغربية وقطاع غزة ستبقى تحت السيطرة الاسرائيلية وكذلك هو الحال بالنسبة الى المناطق القريبة من "الخط الاخضر" ومناطق مصادر المياه الجوفية في الضفة الغربية. وهذا يعني بوضوح لا لبس فيه ان اسرائيل تخطط لضم 55 في المئة من اراضي الضفة الغربية وتحويل ما تبقى الى السلطة الفلسطينية على شكل معازل اربعة في الشمال والوسط والجنوب وأريحا. وقد استمع الرئيس كلينتون الى العرض ولم يؤيد ولم يعارض. ومن هذا العرض - المخطط - ولدت الافكار او المبادرة الاميركية بشأن اعادة الانتشار في الضفة الغربية. الخطير في هذه الافكار الاميركية انها تربط اعادة الانتشار بمراحلها الثلاث التي تمتد على ثلاثة اشهر نظرياً وقد تطول في التطبيق العملي الى ما بعد أيار المقبل بسلسلة من الالتزامات القاسية على السلطة الفلسطينية مثل ضرب البنية التحتية لما يسمى "منظمات ارهابية" واصدار امر رئاسي يمنع التحريض بكل انواعه، وتقديم قائمة جديدة بأسماء عناصر الشرطة والاجهزة الامنية، والموافقة على دمج المرحلة الثالثة من اعادة الانتشار في مفاوضات الوضع الدائم، هذا الى جانب العودة لموضوع الميثاق الوطني الفلسطيني وتعديل بنوده. ولا يخفى على احد ان لحكومة اسرائيل مفهومها الخاص بشأن ضرب البنية التحتية لما يسمى "منظمات ارهابية"، حيث يغطي هذا المفهوم وفقاً لوثيقة سلمها نتانياهو لوزيرة الخارجية الايمركية مادلين اولبرايت في آب اغسطس 1997 "اجراءات ادارية وقانونية وبوليسية ضد البنية التحتية الاقتصادية والدينية والمدنية والعسكرية، ربما يشمل الجمعيات الخيرية والمساجد والمؤسسات التعليمية والمراكز الطبية والبنوك والشركات الاستثمارية وغيرها من المؤسسات التي تدعم الارهاب". على حد تعبير الوثيقة. والى جانب هذا كله تنطوي الافكار - المبادرة الاميركية على اخطار اضافية تعكسها نصوص لم تتعرض لها وسائل الاعلام وجاءت اشبه بملحق تحت عنوان "خارج الصفقة" تقول هذه النصوص: سيكون ثمة تفاهم اميركي - اسرائيلي وتفاهم اميركي - فلسطيني حول الاجراءات احادية الجانب: 1- الجانب الفلسطيني يتعهد بما يلي: أ - عدم الاقدام على اجراءات احادية الجانب تغير مكانة الضفة الغربية وقطاع غزة حتى الرابع من ايار 1999. ب - عدم قيام منظمة التحرير الفلسطينية بالطعن بأوراق اعتماد اسرائيل في الاممالمتحدة. ج - عدم قيام السلطة الفلسطينية بمنح رخص بناء في مناطق ج خارج اطار اللجنة المشتركة. 2- الجانب الاسرائيلي يتعهد بما يلي: أ - عدم بناء مستوطنات جديدة. ب - عدم الاقدام على توسيع مهم في المستوطنات القائمة، ولا يتم التوسيع في مناطق تتجاوز المحيط المباشر للمستوطنة. ج - عدم القيام بمصادرة اراضٍ. واذا صودرت اراضٍ لاغراض شق الطرق الالتفافية فان الجانب الاسرائيلي سيقدم المخطط المحدد والمبررات المحددة لكل طريق. د - تمتنع اسرائيل عن هدم منازل بنيت من دون ترخيص 1800 منزل. الاخطار التي تعكسها هذه النصوص واضحة تماماً، فهي اولاً خارج سياق نص المبادرة، وتمثل، ثانياً، صيغة تفاهم ليس لها قوة الزام، وتقر، ثالثاً، بحق اسرائيل في توسيع المستوطنات، على الاقل في المحيط المباشر والذي يتحول مع الوقت الى محيط حيوي يتوسع من تلقاء نفسه، كما تقر كذلك بحق اسرائيل في مصادرة الارض الفلسطينية لاغراض الطرق الالتفافية لفائدة المستوطنات والمستوطنين. والآن، وبعدما اعطى الجانب الفلسطيني المفاوض الوقت الكافي والفرص الكافية للادارة الاميركية كي تحمل حكومة اسرائيل على الموافقة على مبادرتها، وبعدما اعلنت هذه الادارة انها غير راغبة في ممارسة اي ضغط على حكومة اسرائيل لحملها على الموافقة على هذه المبادرة "اللعينة"، فان المواطن الفلسطيني يتساءل حول جدوى الموافقة على مبادرة تنطوي على التزامات وشروط قاسية وظالمة، وتقدم، من ناحية ثانية، تغطية سياسية واضحة لحكومة اسرائيل تمكنها ليس فقط من التهرب من استحقاقات السلام بل وتمكنها كذلك من مواصلة نشاطاتها الاستيطانية غير الشرعية ومواصلة فرض وقائع جديدة واجراءات احادية الجانب تغير كل يوم في طبيعة الضفة الغربية بما فيها القدس وقطاع غزة. حان الوقت فعلاً كي تسحب السلطة الفلسطينية موافقتها على هذه المبادرة اللعينة، وحمان الوقت لاعداد القوى من اجل خوض معركة الاستقلال الوطني، معركة بسط سيادة دولة فلسطين على كل الاراضي الفلسطينيةالمحتلة في عدوان 1967، واعادة بناء المفاوضات بين دولة الاحتلال وبين دولة فلسطين على اساس قرارات الشرعية الدولية وعلى اساس الزام اسرائيل كدولة احتلال بالانسحاب من الاراضي التي احتلها في حزيران 1967، اي من اراضي دولة فلسطين. فهذا اجدى من مواصلة التفاوض على الوطن قطعة قطعة في الوقت الذي يزحف فيه الاستيطان تحت حماية جيش الاحتلال وفقاً لمخطط عدواني توسعي عبّر عنه برنامج الليكود لانتخابات الكنيست، وعبّرت عنه الخطوط الاساسية في برنامج حكومة الائتلاف اليميني، التي يقودها بنيامين نتانياهو. * عضو المكتب السياسي لپ"الجبهة الديموقراطية".