منذ بداية العام 1917 بات احتلال مدينة العقبة، على البحر الأحمر، والاستيلاء عليها يشكل بالنسبة الى لورانس والقيادة الانكليزية، هدفاً حاسماً وأساسياً لا يمكن من دونه تحقيق أي انتصار حقيقي على الأتراك في المنطقة العربية، وبالتالي لا يمكن ضمان قيام الثورة العربية الكبرى المتحالفة مع الانكليز ضد الأتراك. وكان كل من حول لورانس متفقاً معه على ذلك، لكن الاستراتيجيات التي يجب اتباعها كانت مختلفة ومتناقضة، فمثلاً كان الضباط الانكليز والأمير فيصل يرون ضرورة البدء بالاستيلاء على الميناء، أما لورانس فكان يرى أن من الأفضل القيام بعملية مفاجئة انطلاقاً من المنطقة الصحراوية. وعندما أعلن لورانس يوم التاسع من تموز من ذلك العام، في القاهرة تحديداً، أن عملية الاستيلاء على العقبة تمت تماماً في ذلك اليوم بالذات، بعد صراع دام أسابيع، كان لورانس يشعر بالكثير من الفخر، لأن خطته هي التي نفذت أخيراً، ومكنت الانكليز والعرب من احتلال المدينة، واحداث تغيير جذري، بالتالي، في مجرى الاحداث في المنطقة. والحقيقة أن معركة العقبة تواصلت منذ 28 حزيران يونيو حتى العاشر من تموز. ففي يوم 28 حزيران توجهت القوات الحليفة، بسرعة وبشيء من التكتم الى منطقة الجفر الواقعة شرقي معان. ومن هناك هاجمت المواقع الدفاعية التركية، وتمكنت مجموعة منها من الاستيلاء على ممر معان، وكذلك من تحرير الطريق المؤدي الى العقبة، في الوقت الذي كانت فيه مجموعات تزعج الدفاعات التركية شمالي معان نفسها. هنا أدرك الأتراك خطورة الوضع، فتحرك طابور من قواتهم انطلاقاً من مدينة معان نفسها، وتمكن من طرد المقاتلين العرب من الممر. بالنسبة الى الحلفاء، كان من الواضح أن هذه القوات التركية ستشكل خطراً حقيقياً، لذلك لا بد من ابادتها، وعلى هذا النحو ما أن حل فجر يوم الثاني من تموز، قامت قوات انكليزية وعربية بمحاصرة القوات التركية في "ابو لسان" وهناك، وسط لهيب جو حار خانق، راح الجنود الأتراك يتساقطون بفعل الرصاص الذي يطلقه عليهم القناصة العرب المتمترسون في اعالي التلال المجاورة. غير أن الوضع ظل على حاله طوال ذلك النهار، فلا الأتراك يستسلمون على رغم ما يصيبهم، ولا العرب يتقدمون على رغم تفوقهم. وهكذا راحت تمر الساعات حتى غلب السأم الجميع، وكاد لورانس يستسلم لليأس، حين فاجأه الشيخ عوده حليفه، قائلاً له: "يا لورانس إذا شئت أن ترى كيف يقاتل أبطال المويطات، امتط جملك واتبعني" وهذه العبارة ستصبح شهيرة جداً في تاريخ الثورة العربية ومعارك ذلك الزمان. وعلى الفور راح عودة يجمع خلف واحدة من التلال فرسانه وراكبي الجمال، ومن دون أي تردد، ما أن اكتمل استعداد المقاتلين حتى وجه اليهم الأمر بالتحرك. فتحركوا في منزلق هابط نحو الجنود الأتراك، الذين أخذهم ذلك الهجوم المباغت على حين غرة ولم يتمكنوا من التصدي له، ولا من ضبط أسلحتهم لاطلاق النار على المهاجمين، في وقت كان فيه الفرسان العرب يتقدمون بسرعة نحوهم صارخين بأصوات مرعبة. وراح الجنود الأتراك يتساقطون بفعل الرصاص المتساقط عليهم من كل مكان، وكذلك بفعل ضربات السيوف حيث يروي لورانس ان عودة نفسه كان ممتشقاً سيفه يضرب به ذات اليمين وذات اليسار. أما لورانس الذي راح يطلق الرصاص في كل اتجاه، فإنه أطلق الرصاص على حصانه، خطأ، مما اضطره لأن يواصل المعركة راجلاً، وتعرض للقتل أكثر من مرة. وكذلك كان حال الشيخ عودة الذي احتكت ست رصاصات بثيابه غير أنها لم تخترق الثياب وتقضي عليه. قبل حلول غسق ذلك اليوم كان أكثر من ثلاثمئة جندي تركي قتلوا، كما جرى أسر نحو مئة وستين جندياً. وعلى الفور تولى لورانس التحقيق مع بعض هؤلاء الأسرى فعرف أن مدينة معان ليست محمية كما كان يعتقد. ازاء هذه المعلومة أراد بعض المسؤولين التوجه فوراً الى المدينة لاحتلالها، لكن لورانس عارض ذلك... لأنه أراد أن يؤمن الحماية المطلقة لأبي لسان أولاً. وهو ما حققه بالفعل، حيث أبقى حامية قوية هناك حسبما يروي في مذكراته ثم توجه الى مدينة العقبة، قبل الاهتمام بمعان، بغية انجاز احتلالها. وهكذا عبر لورانس وعوده وقواتهما وادي إيتم حيث لم تجابههم اية مقاومة جدية، الا في حصن خفرا الذي استغرق الاستيلاء عليه ساعات لا أكثر، إذ ان دفاعاته كانت موجهة نحو البحر لا نحو الصحراء! وهكذا دخل العرب ولورانس مدينة العقبة ليكتشفوا انها تحوّلت الى ما يشبه الأطلال، وبرفقتهم 650 أسيراً تركياً. وكانت تلك خطوة أساسية في الحرب، خطوة جعلت، لورانس قادراً على أن يعلن في القاهرة يوم 9 تموز نبأ الانتصار الكبير، الذي سيكون له شأن. الصورة قوات عربية قرب العقبة.