لم تكن السلطات التركية في اسطنبول تنظر بما يكفي من الجدية الى ما يحدث في المنطقة العربية، ولا سيما في منطقة الجزيرة العربية. فمنذ اوائل شهر حزيران يونيو 1916 كان الشريف حسين أعلن الثورة، وبدأ، بمساعدة ابنائه الذين سلم كل واحد منهم فرقاً من المقاتلين توجهت شرقاً وغرباً وجنوباً، بدأ يطرد الحاميات التركية من العديد من المدن. وصل الأمر الى ذروته خلال أقل من اسبوعين، حيث تمكنت القوات العربية من احتلال جدة ثم مكةالمكرمة والطائف ومدن أقل منها حجماً. كان من الواضح ان الخطر يكبر وأن الوجود التركي كله، في المنطقة مهدد. لكن الأخطر من هذا ان العرب لم يكونوا يتحركون وحدهم، وهو تحرك لو كان على ذلك النحو لما كان من شأنه أن يرعب الأتراك، لكنهم كانوا يتحركون بدعم كامل من الانكليز عن طريق لورانس العرب والمكتب البريطاني في القاهرة. كان الاتراك يعرفون هذا بالطبع، وكانوا يحسون بالغيظ، لكنهم - ويا للغرابة! - ما كانوا يشعرون بالخطر الحقيقي. كان الأمر يبدو بالنسبة اليهم موقتاً. أو ليس جديراً بأن يؤخذ بعين الاعتبار. ومن هنا أهمية التقرير الذي بعث به الى... برلين، وليس الى اسطنبول، يوم 11 تموز يوليو 1916، أي في خضم الانتصارات العربية - الانكليزية، ليمان فون ساندرز، القائد العسكري الألماني الذي كان في ذلك الحين يتولى قيادة الجيش التركي الخامس، ويرى فيه أنه يجب، أخيراً، أن ينظر الأتراك بعين الجدية الى اعلان الشريف حسين الثورة والجهاد ضد الأتراك، والتفاف العرب من حوله. ويرى فون ساندرز في تقريره أن وضع تركيا في طول المنطقة العربية وعرضها قد يصبح غير مستقر على الاطلاق. ويرى أيضاً ان ثورة الشريف حسين قد تزعزع الاستقرار التركي ليس في المنطقة العربية فقط، بل حتى في المناطق التركية أيضاً، ولربما يكون لها انعكاسات في غاية الخطورة على العالم الاسلامي كله. خصوصاً ان استيلا القوات العربية على مكةالمكرمة يأتي لينتزع من أيدي الأتراك موقعاً في منتهى الأهمية. ويخلص ليمان فون ساندرز في تقريره الى أنه يبدي خشيته من أن انتصارات الشريف حسين وابنائه سوف يكون من نتيجتها ان تستقل كافة المناطق العربية عن تركيا، وتتشكل في دولة عربية واحدة، وهذه الدولة ربما ستكون من القوة، ومن القدرة على اجتذاب العالم الاسلامي بحيث يمكنها في المدى البعيد أن تثير القلاقل في تركيا نفسها وينتهي بها الأمر الى احتلالها فيعود العرب سادة للعالم الاسلامي من جديد، متحالفين في ذلك مع الانكليز. هذا التقرير بعث به ليمان فون ساندرز كما أشرنا الى القيادة الألمانية، والقيادة الألمانية اتصلت على الفور بالقيادة التركية مبدية كل ما يمكنها أن تبديه من مخاوف. وهنا فقط أحست سلطات اسطنبول ان عليها أن تتحرك وبشكل جديّ هذه المرة. وبالفعل خلال الاسابيع، ثم الشهور التالية راح الأتراك يعززون من مواقعهم، وبدأ رسلهم يتصلون بقبائل عربية غير موالية للشريف حسين، مستخدمين وحدة الدين سلاحاً هذه المرة. ولبعض الوقت بدا وكأن الموجة غيرت اتجاهها، اذ عند نهاية العام، وبعد ان تمكن مقاتلو الشريف حسين من احتلال ينبع، راح الأتراك يتقدمون بقوة نحو المدينة محاولين استعادتها، وحين أصبحوا على بعد سبعة كيلومترات منها، وبدأ المقاتلون العرب يحسون ان ليس في وسعهم ان يصمدوا طويلاً أمام هذا الزحف التركي المنظم في الصورة مقاتلون عرب في ينبع طلبوا العون من الانكليز، فتدخل هؤلاء للمرة الأولى في المعركة بشكل سافر، حيث قامت طائراتهم بالتحرك، ما أرغم الأتراك على الانسحاب. غير أن أهمية ذلك لم تكن في المعركة أو في الانسحاب، بل في كون الأتراك ارغموا الانكليز على ان يتحركوا هذه المرة كحلفاء علنيين لعرب الشريف حسين. وهذا ما جعل الأتراك أكثر قدرة على تأليب العالم الاسلامي، أو بعضه على الأقل عبر قولهم ب "تواطؤ" الشريف حسين مع "الكفار أعداء الله والمسلمين". لكن ذلك لم يدم طويلاً، اذ تواصلت هزائم الأتراك وتواصل انتصار العرب والانكليز حتى كانت النهاية بعد سنوات.