على رغم ان القوات التركية كانت قد باتت تحت الحصار في "المدينة"، فإنه كان بإمكان جمال باشا، القائد التركي في منطقة الشرق الادنى، ان يعيش ازهى ساعات انتصاره في ذلك اليوم، الرابع من أيار مايو 1918. اذ انه، في تلك الآونة بالذات، بدأ يرى أن الخطر الانكليزي - العربي قد بدأ يضمحل بعض الشيء، ليحل محله، قلق لدى القيادة الانكليزية ومقرها في القاهرة، تصحبه بداية تردد لدى العرب المتحالفين مع الانكليز، وعلى رأسهم بالطبع الامير فيصل، و"مستشاره" لورانس. ومن جهة ثانية ظهرت بداية تحرك سياسي يقوم به العرب في سورية، ويبدو اقل خضوعاً لمشيئة الانكليز، وأكثر حذراً ازاء المخططات الحليفة، مما عنى بالنسبة الى جمال باشا ان طريق الحلفاء في حربهم لم تعد مزينة بالورود. وهكذا، في ذلك اليوم بالذات، انتهز جمال باشا فرصة الانتصار الثاني الكبير الذي حققه في مدينة السلط شرقي الاردن لكي يرسل الى الامير فيصل موفداً ينقل اليه رسالة خطية. في تلك الرسالة اهدى جمال باشا، انتصاره الى النبي محمد، وألح على ان الانتصار الذي حققه انما كان انتصاراً على اكبر عدو للمسلمين. وبعد ذلك دعا الامير فيصل، في الرسالة، الى مشاركته النضال ضد الكفار، مؤكداً له انه هو - جمال باشا - الوحيد القادر على ان يضمن للعرب استقلالهم الحقيقي. ويبدو ان لورانس علم عن طريق "عيونه" في محيط الامير فيصل، بأن هذا الاخير قد بدأ يقتنع بما في رسالة جمال باشا، خصوصاً ان حلفاءه الانكليز كانوا في تردد وتراجع. ولذلك اسرع لورانس الى عند فيصل آملاً في ان يفهم احواله النفسية، ولكن من دون ان يأتي على ذكر الرسالة. وبعد ذلك توجه لورانس الى القاهرة حيث اجتمع بالقيادة الانكليزية فيها الصورة محاولاً ان يشرح انه في حال عدم الاقدام على خطوة حاسمة وتحقيق انتصار سريع، فإن ثمة خطراً حقيقياً بأن تنقلب التحالفات، ذاكراً للقيادة حالة الامير فيصل وافتتانه المفترض برسالة جمال باشا. والحقيقة ان وضع القوات الانكليزية في تلك اللحظة كان اسوأ ما يكون. اذ من جديد رأت القيادة الحليفة ان الخطر الحقيقي هناك في الفلاندر بأوروبا الغربية. ومن اجل التصدي للهجوم الالماني الكبير هناك لا بد من سحب المزيد من القوات الحليفة الانكليزية من منطقة الشرق الادنى. وهكذا بعد ان سحبت تسع فرق في شهر آذار مارس المنصرم، ها هي القوات الحليفة تضطر لسحب 60 ألف جندي الآن من جبهة الشرق الادنى لإرسالهم الى أوروبا. وأحس اللنبي، القائد الانكليزي في القاهرة بأن عليه الآن ان يعيد النظر في استراتيجيته كلها. ومعنى هذا انه لم يعد قادراً على شن اي هجوم مضاد على قوات جمال باشا الذي ارتفعت معنوياته فجأة كما ارتفعت معنويات جنوده، في الوقت الذي لاحظت فيه قوى سياسية عربية عدة - كانت متحالفة بشكل او بآخر مع الانكليز - ما يحدث، ورأت ان بإمكانها الآن ان تتحرك للمطالبة بالمزيد. وعلى هذا النحو ففي الوقت الذي كان لورانس في القاهرة يبدي امام القيادة العسكرية الانكليزية هناك قلقه من احتمال ان تنقلب التحالفات العربية، وأن تغوي رسالة جمال باشا فيصل، تحرك الى القاهرة سبعة من الزعماء السوريي مقدمين انفسهم بوصفهم مبعوثي "لجان سرية في دمشق" ليبلغوا القيادة الانكليزية نصاً في منتهى الاهمية، يحتجون فيه ضد كل المشاريع التي ترمي الى تقسيم الاراضي العربية الى كيانات مصطنعة توضع تحت الحماية الادارية الفرنسية والانكليزية. وفي النص نفسه وقف الزعماء، على الرغم من انهم اعلنوا عن انفسهم مناصرين للشريف حسين، ضد انشاء دولة شريفية، مقترحين بدلاً من ذلك اقامة حكومات اقليمية على النمط الاتحادي الاميركي. وفور اطلاع القيادة الانكليزية على ذلك النص وبعد اجتماعها بالزعماء الذين اكدوا انهم انما يمثلون "اربعة اخماس السوريين"، كان لا بد لها ان تأخذ الامر كله على محمل الجدية. وهكذا، على الفور، نقلت المذكرة الى لندن مع ملحوظة من وينغيت تحث لندن على تقديم اجابة سريعة وجادة، وان تفكر ملياً بهذه المطالب السورية، فإذا لم تفعل هذا، كما قال وينغيت، "فاننا نخشى ان يتخلى هؤلاء الزعماء عن تحالفهم معنا، ويتجهوا الى التفاوض مع اعدائنا. لذلك فإنني ارى انه سيكون من السيء جداً اهمال هذه المطالب". ووينغيت، بهذا، نبه السلطات في لندن، الى أن كل ما يصله من سورية ينبهه الى ان المسلمين والمسيحيين هناك انما يتطلعون الى الحصول على الاستقلال التام، ولا تغريهم ابداً فكرة خروجهم من تحت "دلف" الاتراك، ليدخلوا تحت "مزراب" الانكليز والفرنسيين. وكان من الواضح ان وينغيت يضم صوته، في هذا، بشكل جدي الى صوت لورانس الذي كان من دعاة ذلك التصرف.