حتى ايامه الاخيرة ظل القائد العسكري البريطاني اللنبي يصر على اعتبار يوم 27 آذار مارس 1918 يوماً اسود في حياته، لانه كان اليوم الذي ادت فيه أوامر القيادة العسكرية لقوات الحلفاء الى منعه من تحقيق نصر كبير كان يسعى اليه، ويتوخى منه ان يختصر مسار الحرب في المنطقة العربية محققاً على القوات التركية تفوقاً ما بعده تفوق. بالنسبة اليه كان كل شيء يجري على ما يرام، حتى وصلته في ذلك اليوم "المشؤوم" حسب تعبيره، اوامر القيادة العليا التي تطلب منه ان يتحول من الهجوم الى الدفاع، هو الذي كان يخوض في تلك اللحظة بالذات معركة "السلط"، وهي واحدة من المعارك الاستراتيجية في رأيه. ولكن لماذا قضت اوامر القيادة العليا بذلك التحول؟ بكل بساطة لان تلك القيادة كانت مضطرة لسحب العديد من الوحدات العسكرية من الجبهة الشرقية لارسالها الى الجبهة الغربية في اوروبا حيث كانت القوات الالمانية قد شنت هجوماً كبيراً وساحقاً، لا سيما في فرنسا حيث تمكنت قوات لودندورف من اختراق دفاعات الحلفاء، في الوقت الذي راحت فيه الطائرات الالمانية تقصف باريس. صحيح ان لويد جورج رئيس الحكومة البريطانية كان، رغم ذلك، يريد ان يتابع الجهود للاستيلاء على فلسطين وطرد الاتراك من المنطقة، لكن الجنرال الفرنسي فوش كان يريد من ناحيته، ان تصمد قوات الحلفاء حتى وصول الاميركيين و"إلا لحلت كارثة بأوروبا كلها" حسب تعبيره. وفي النهاية خضع الانكليز للمنطق الفرنسي وطلبوا من اللنبي ان يرضخ في ذلك اليوم، واعدينه في الوقت نفسه بان قوات مقاتلة جديدة ستنضم قريباً الى قواته بعد وصولها من الهند. غير ان ذلك الوعد لم يطمئن لا الجنرال اللنبي ولا الامير فيصل الذي بات يخشى عودة الاتراك للتقدم. وهذا ما حدث بالفعل خلال الايام التالية، اذ في اليوم الذي اوقف فيه اللنبي هجومه، اي يوم 27 من ذلك الشهر، إطاعةً لاوامر القيادة العليا، شنت القوات التركية هجوماً مضاداً كبيراً طال اعمال التحصين التي كان من شأنها ان تتيح للانكليز الصمود لفترة طويلة في مدينة السلط. ولقد تمكنت القوات التركية من وقف تلك الاعمال خاصة اثر ارغام مجموعات انكليزية على التراجع بعد ان كانت هذه المجموعات مكلفة بنسف جسر ونفق، وساعد على ذلك سوء الاحوال الجوية والبرد والمطر. وكانت أوامر وزارة الحربية البريطانية واضحة لا يمكن التمرد عليها: يجب الاكتفاء بالدفاع ولا يمكن بأي حال من الاحوال الانتقال الى الهجوم. وراح غيظ اللنبي يزداد يوماً بعد يوم، فيما كان الاتراك يتقدمون ويشتد الحصار عليه. وفي الوقت نفسه بدأ يشعر ان سكان المدينة لم يعودوا مطمئنين للايام المقبلة، وان مشاعرهم الاسلامية عادت للظهور واخذ الكثير منهم يستعدون لاستقبال القوات التركية. في ظل هذا المناخ كان لا بد لأللنبي من ان يتخذ قراراً خطيراً، قراراً مؤقتاً على اي حال، حسب ما قال هو، على ان "ننفذه ريثما تصل القوات الآتية من الهند". وهكذا اتخذ قراره باخلاء مدينة السلط وكان عليه في الوقت نفسه ان يتطلع صوب الجبهات المحلية الاخرى. فهو كان يعرف ان لورانس الذي كان يتقدم مع القوات العربية الى الشرق، سوف يوقف هجومه إن هو لم يتلقَ انباء مشجعة من لدن اللنبي. لكنه ايضا كان يعرف ان ثمة مشكلة تكمن في جبهة مدينة معان، حيث تستعد القوات الانكليزية والعربية للهجوم على تلك المدينة، فان هجمت في وقت عجز خلاله اللنبي عن مساندتها فسوف تحل كارثة حقيقية. ومن هنا كان همّه، في الوقت الذي راحت قواته تخلي السلط، ان يخبر القوات الاخرى بحقيقة الوضع وان يحول دون تتالي الكوارث، وبالتالي دون السماح للقوات التركية باستعادة المبادرة، مستفيدة مما يحدث في مدينة السلط في الصورة قوات اندربات التركية تقصف السلط. هكذا توقفت الحملة على فلسطين وشرقي الاردن خلال الايام التالية، في وقت كانت القوات التركية، مدعومة هي الاخرى بقوات عربية، تستعيد مدينة السلط. وكان ذلك ايذاناً بهزيمة كبيرة للحلفاء، خاصة وان القوات التي كانت، هي الاخرى، تتقدم في العراق، اضطرت بدورها الى وقف هجومها والتحول الى الدفاع في انتظار انباء جديدة تصلها من اللنبي. لكن كل ما كان يصل من هذا الاخير بدا سلبياً لا يبشر بأي خير. ناهيك عن ان عرب تلك المناطق بدأوا ييأسون ويفقدون ثقتهم بحلفائهم الانكليز. وزاد الطين بلة ان الحلفاء والعرب طالتهم خسائر كبيرة طوال الايام التالية بالقرب من مدينة معان. وتراءى لوهلة ان حرب الحلفاء هناك خاسرة، لكن الموقف سرعان ما تبدل، الا ان تلك حكاية اخرى بالطبع...