نشرت في بريطانيا أخيرا طبعة جديدة فاخرة من الاعمال الكاملة للكاتب الانكليزي جورج اورويل، صاحب رواية 1984 الشهيرة، التي حاول فيها ان يتنبأ بمصير العالم، ورواية مزرعة الحيوانات التي انتقد فيها النظام الشيوعي نقداً شديداً، وغير ذلك من الروايات الأقل شهرة، فضلاً عن عدد كبير من المقالات الادبية والاجتماعية. كتبت الصحف والمجلات البريطانية تشيد بهذا العمل الادبي، وبجمال الطبيعة وأناقتها، ولكن كتب البعض ايضا يتعجب من استمرار إقبال الناس على قراءة جورج اورويل، الذي مضى نحو نصف قرن على وفاته، ومن استمرار حضوره في اذهان الناس وزيادة عدد المعجبين به مع مرور الوقت بدلا من نقصانهم، حتى ليعتبر الناشرون ان من الممكن ان يجدوا العدد الكافي من القراء الذين على استعداد لدفع 750 جنيهاً استرلينياً لشراء هذه الطبعة الجديدة التي لا تحتوي على جديد في الحقيقة الا بضع مئات من الخطابات التي كتبها اورويل او زوجته، ولم يسبق نشرها. كتب البعض يتعجب من استمرار تمتع اوروبل بهذا الانتشار رغم ان رواياته في رأيهم، ورأي الكثيرين، تعاني من عيوب لا يمكن غض البصر عنها، انها لم تكن بأية حال، من حيث الاتقان والتماسك الفني، على مستوى الاعمال الروائية الخالدة، لا في الادب الانكليزي او غيره. وهي تعاني من المبالغة احيانا والعاطفية المفرطة في احيان اخرى، وبساطة الفكرة والتركيب في معظم الأحيان، وهو ليس بالكاتب الذي غاص في اعماق النفس البشرية او وصف الطبيعة وصفاً نادر المثال، او وصل بخياله الى اجواء غير مسبوقة. فما هو سر اورويل إذن؟. اشار البعض الى صدقه الشديد وبساطته، حتى استحق ذلك الوصف الذي اطلق على احد الكتب الصادرة عنه "الروح البلورية". كما اشار آخرون الى حسه الأخلاقي البالغ القوة، حتى قال عنه كاتب معاصر له متندراً "ان اورويل لا يمكن ان يعطس ويخرج منديله من جيبه من دون ان يصدر بعض الاحكام الاخلاقية على القائمين على صناعة المناديل". ومع ذلك فلا اظن ان هذا السبب او ذاك، على رغم صحة كل منهما، كافياً لتفسير هذه الظاهرة: استمرار حضور جورج اورويل في اذهان المثقفين بهذه الدرجة، اني اميل الى التفسير الآتي: إن الظاهرة التي كانت تشغل بال اورويل اكثر من اية ظاهرة اخرى، ازدادت اهميتها منذ بدأ يكتب عنها، ولا تزال اهميتها في ازدياد كلما مر الوقت، وهي تأثير المجتمع التكنولوجي الحديث على حياة الانسان، لقد ظل اورويل مصمماً على ان يكتب رواية يتنبأ فيها بأقصى ما يمكن ان يصل اليه التقدم التكنولوجي من تأثير على سعادة البشر وحريتهم، وظل موضوع رواية "1984" يلح على ذهنه سنوات طويلة قبل ان كتبها فعلا، بل وحتى قبل ان يكتبها كتب رواية اصغر منها وأقل شهرة بكثير اسمها "الصعود لاستنشاق الهواء" تمس بعض جوانب الظاهرة نفسها. وكثير جدا من مقالاته وخطاباته يدل على ذلك، كما يدل عليه مسار حياته نفسها، وهروبه بنفسه الى جزيرة صغيرة في شمال بريطانيا عاش فيها بمفرده تماما، يكتب تارة ويتأمل الطيور تارة اخرى. وقد استغرب اورويل بشدة من غضب الاشتراكيين عليه عندما فهموا رواية "1984" على انها مجرد نقد للاتحاد السوفياتي، اذ انه كان يقصد شيئا اكثر عمومية بل ومختلفاً تماما، ولعله لو عاش ليرى العالم الرأسمالي المتقدم اليوم لقال ان هذا أقرب الى ما كان يكتب عنه من اي شيء وصل اليه النظام الاشتراكي في روسيا، من حيث استخدام التكولوجيا الحديثة لتشكيل عقول الناس وميولهم. كان جورج اورويل في هذا الصدد رجلاً "سعيد الحظ" على رغم انه كان سيئ الحظ في معظم ماعدا ذلك- لقد وضع يده على مرض تبين مع مرور الوقت انه اشد الأمراض خطورة وقد يكون اشدها فتكاً: لم يكن اورويل بأية حال اكثر الكتاب براعة، قد يكون فعلا من اكثرهم صدقاً، ولكنه بكل تأكيد قد توجه بنظره واشار بإصبعه الى المكان الذي قد يأتي منه اكبر خطر يهدد سعادة البشر وحريتهم، وهو التطور التكنولوجي. * كاتب وجامعي مصري.