لفت فيلم بهيج حجيج "مخطوفون" انتباهنا الى مسألتين. أولهما ان قضية المخطوفين لا تزال تشكل - أسوة بقضية المهجّرين والمبعدين والمعتقلين - القضية الإنسانية الأساسية والمحورية لمرحلة ما بعد الحرب، والثانية انها الوحيدة أي قضية المخطوفين من بين قضايا الحرب المختلفة ومشاهدها وحالاتها، التي تمكنت، ولا تزال، من جذب اهتمام الفنانين على اختلاف ميادينهم، والسينمائيين منهم على الأخص. أما المفارقة، فهي ان اكثر القضايا افتقاداً الى حضور مادي وملموس، بل أكثرها تعبيراً عن الغياب، قد أصبحت موضوع أكثر الفنون حضوراً مادياً، السينما. فالمخطوف، موضوع الأفلام ومحورها، لا يظهر على الشاشة المتحركة إلا كصورة جامدة أو عبر كلام من تركهم ينتظرون عودته بلا أمل، يتذكرونه ويرددون بلا كلل ما نسب اليه من أقوال وأفكار ومشاعر. صار المخطوف حالة غيبية بامتياز، لا يُرى بالعين المجردة ولا تلتقطها عدسات الكاميرا... ورغم غيابه هذا، فهو يضغط بشدة على ضمير الحاضرين العاجزين عن فعل أي شيء. هذه هي ربما تركة "حرب لبنانية" لا تزال تبحث عن معناها المتواري: مخطوفون غائبون - حاضرون، وأهال يعيشون حالة انتظار عبثي وأمل وهمي. أفلام عدة - وثائقية وغيرها - أُخرجت حول قضية المخطوفين. إلاّ ان فيلم بهيج حجيج يتميز عن الآخرين بوتيرة درامية داخلية مبتعداً بذلك عن الشريط الوثائقي التقليدي. فمن خلال شهادات بعض أهالي المخطوفين يتم سرد لا قصة المخطوف فقط بل أيضاً قصة من اختُطف منهم الفرح والأمل ومعنى الحياة، قصة من صار وجودهم رهن غياب قريب أو حبيب، قصة حرب من أكثر زواياها ظلمة وقساوة ولاإنسانية ... ورغم ان الفيلم يبدأ بمشهد محض "وثائقي" حين تقوم وداد بعرض الملفات التي في حوزتها، وهي ملفات تخبر قصتها اليائسة وغير المجدية بغية كشف سر غياب يزداد ثقله مع ازدياد الأيام والسنوات التي تفصله عن لحظة الحدث - الا ان الوثائق هذه والعودة المتكررة الى المشهد الذي يتناولها هي بمنزلة فواصل لقصة تدور رحاها في أعماق مشاعر الناس وليس في تفاصيل ملفات اصفرت صفحاتها. فنلاحظ ان الانتقال من مشهد الى آخر لا يخضع لمنطق موضوعي خارجي مثل تغيير أو تبديل زاوية النظر في اغناء الموضوع عبر مده بعناصر جديدة، بل وكأني بالمشهد الذي يفرج عن الوثائق المتناثرة يريد ان يقول ان طريق الملفات معقدة وفوضوية ولا توصلنا الى شيء، الى حقيقة. فالقضية التي تصير رهن الوثائق تنام في الأوراق وتموت في الدروج. وإذا أرادت ان تعيش فما عليها الا أن تسكن قلوب الناس وذاكرتهم. أصاب المخرج في حفاظه على مكان واحد وثابت للكاميرا وأيضاً للشخصيات وهي تحكي القصة نفسها في تنوعها. إذ في فيلم وثائقي من هذا النوع ليس مطلوباً من الكاميرا أن تتحرك وتبحث عن عناصر وتفاصيل جديدة، بل عليها أن تسجل "ثبات" الناس، بل "جمودهم" و"صمودهم"، في قولهم - وفي صمتهم - معاناتهم التي شلّت فيهم الحركة. فالتطور الدرامي يحصل داخل هذه الشخصيات أهالي المخطوفين عبر تصديهم العاطفي والحسي المتوتر بالمسألة التي تشغلهم، عبر كلامهم على الموضوع وحديثهم عنه، ليصل بهم التوتر الى الانفجار فالبكاء ... وتمكّن المخرج من مراعاة خصوصية كل حالة ووحدة المأساة المشتركة. وقد يعتبر البعض ان مشاهد البكاء المتكررة في آخر الفيلم أوقعته في الميلودراما السهلة، وانه كان من الأفضل التوقف عند حدود البكاء من دون العبور اليه. إلا ان للبكاء هنا تبريراً من داخل الدراما التي يعيشونها، فهو يعني انتهاء الكلام وبداية الصراخ، انه تحوّل التعبير من الجملة المفيدة الى البكاء الأكثر تعبيراً وان الأقل افادة، انه يعني وصول الأزمة الداخلية الى مستوياتها القصوى وانعدام القدرة على ضبطها بحيث يتلازم الكلام والأحاسيس والجسد في حركة واحدة. بهذا المعنى يصح القول ان فيلم بهيج حجيج ليس فيلماً عن "المخطوفين" بل فيلم "المخطوفين". والمخطوفون هم على حدّ سواء الذين غابوا والذين بقوا وارتبط بقاؤهم بالذين رحلوا. انهم هنا ليقولوا غياب الغائب، انهم ضمير المخطوف اذا ما اعتبرنا ان المخطوف هو الجسد الذي غاب. فيلم جدي بمعنى أنه يترك الناس يعبّرون عن مشاعرهم وينظمون ايقاع السرد السينمائي ووتيرته. فبين جمود الكاميرا وثباتها وجمود الشخصيات المثبتين في المكان نفسه تتجلّى الحركة في الفيلم كصفة من صفات الشخصيات التي لا تتكلم - أما وداد، فبعد أن تتحرر من الملفات والوثائق، تعود وتسكن الثبات عندما تبدأ بالحديث عن "قصتها"، وهكذا تتكوّن الدراما شيئاً فشيئاً امام أعيننا لتصل الى أقصى درجاتها التعبيرية. فيلم بهيج حجيج، الوثائقي من دون "وثائق"، يستحق صفة "الكلاسيكية". * تمّ عرض الفيلم في حفلة خاصة في صالة مسرح مونو. شارك في الاعداد: وداد حلواني، موسيقى: زاد ملتقى، تصوير: مروان طرّاف، مساعدة مخرج: ألين سلامة مشنتف، صوت: سليم الصالح، مونتاج: كارول منصور، اخراج: بهيج حجيج.