يواصل المخرج اللبناني بهيج حجيج تنقله مع فيلمه «شتي يا دني» بين المهرجانات المختلفة. ليس في الأمر ما هو جديد، إذ نعرف منذ زمن ان هذا التجوال بات إجبارياً لكلّ الأفلام الجديدة وذات القيمة التي يحققها المبدعون العرب خلال الأعوام الأخيرة ويحصل المميّزون منهم على الجوائز والمنح وربما الشهرة ايضاً. وهكذا حال بهيج حجيج مع فيلمه الجديد هذا، حيث نال الفيلم ومخرجه وأحياناً ممثلوه الرئيسيون جوائز متفاوتة هنا وهناك. ولكن يظل تناوله موضوع المفقودين في لبنان، ولا سيما بعد العودة من الخطف يشكل علامة فارقة في هذه النوعية من الأفلام اللبنانية الجديدة التي لا تلبث تحاكي هذه الموضوعة بالذات. يقول حجيج إنه شاء أن يتكلم في فيلمه عن العودة وليس عن الاختفاء القسري، وبخاصة أن صورة القسوة تنشأ هنا عن حال المفقود بعد عودته، وليس عن الموت. فالصورة في الحالة الأولى تدفع بصاحبها للتأرجح في ذاكرة معارفه، وفي أحسن الأحوال في اللامكان، في ما قد يختتم في القبر نهاية مقبولة لرحلة مؤلمة حتى ولو كانت مأسوية كما في الحالة الثانية. هنا حوار مع بهيج حجيج حول الفيلم: أين يكمن الخط الفاصل بين مسرحية «عندما تمطر أكياساً» التي اقتبست عنها الحكاية، والفيلم كما عرض علينا؟ - أعتقد أن السيناريو الذي عملت عليه، وهو يستند أساساً إلى نص مسرحي قصير كتبه أسامة برودويل وإيمان حميدان، يجمع في خطوطه الأساسية الشخصيات الرئيسة. لكنّ ما فعلته هو اعادة تركيب هذه الشخصيات على حامل وسياق دراميين مختلفين، بمعنى أن السيناريو تولى الناحية البصرية، فيما كان النص المسرحي يعتمد على العناصر المسرحية الكلاسيكية المعروفة، وأنا قمت بحذف الكثير من المشاهد، وكتبت فصلاً جديداً، لأنني أعتقد جازماً بأن كتابة السيناريو السينمائي تختلف تماماً عن المسرحية، فهي تعتمد على بنيان درامي مختلف وعلى مشهدية خاصة بها. القاعدة او الاستثناء عودة رامز (حسان مراد)... هل هي عودة جميع المخطوفين، أم أنه الاستثناء، لأن ليس ثمة من يريد فتح ملف المفقودين على طريقتك؟ - سبق واشتغلت على موضوع المفقودين في الحرب اللبنانية عام 1989 في فيلم «مخطوفون». وفي هذا العمل الوثائقي تناولت قضية المخطوفين ليس من الوجهة القائلة بمن خطف وكيف تمت عملية الخطف، وإنما تناولته من زاوية الانتظار. انتظار أهالي المخطوفين لأولادهم وأقاربهم والأمل الكبير بعودتهم، أي أنهم يعيشون على وقع هذا الأمل. في فيلم «شتي يادني» تناولت القضية ذاتها ولكن مع اختلاف أساسي يكمن في شيئين اثنين: أولاً هذا فيلم روائي وليس وثائقياً، وثانياً تناولت موضوع الخطف من ناحية العودة وليس الانتظار. وطبعاً هذه فرضية وضعتها لنفسي تستند إلى حقائق، تشكلت مع عودة بعض المخطوفين في ظروف مختلفة. انهم حتى الآن قلة قليلة، إلا أنهم عادوا. والبطل في فيلمي (حسان مراد) يرمز الى فرضية عودة المخطوفين الذين لا يعرف لهم مصير أبداً، وهي فرضية يعيش عليها كثر من أهالي هؤلاء المفقودين، وليس أدلّ على ذلك من موقع الخيمة القريب من مبنى «الإسكوا» في بيروت حيث يجتمع فيها في شكل دائم الأهالي الذين لم يفقدوا الأمل أبداً بعودة أبنائهم. انجذاب رامز إلى جمع الأكياس في مختلف حجومها وألوانها، هل هو متأت فقط من عنوان المسرحية التي اقتبست منها فيلمك؟ - رامز شخصية مركبة تستند إلى مجموعة أشخاص واقعيين مروا بتجربة الاختفاء القسري لفترة طويلة. والبحث الذي قامت به ايمان حميدان حول المخطوفين الذين عادوا، كان هو المرجع الرئيس لتركيب شخصية رامز حول هذا المحور. ومن هنا، فإن جمعه للأكياس ليس بدعة، وإنما قصة حقيقية وموثقة وأردتها أن تحمل تفسيرات عدة، منها ما يتعلق بلملمة شتات الذاكرة، وارتباط الأكياس بمشاهد التعذيب، وعدم الاحساس بالطمأنينة والأمان، وهي حالة (هوسية) تقوم على جمع شيء معين يرتبط بذاكرة مشتتة ومعذبة تخضع لضغوط نفسية قد يصعب تحملها في حالة الانسان العادي. إضافة لماذا لم يتم توظيف هذا الرمز حتى النهاية؟ - لقد حذفت مشهداً خيالياً في نهاية الفيلم تتطاير فيه الأكياس مع المطر كلحظة تصعيد لهذه الحالة الهوسية التي يعيشها رامز، لأنني أحسست بأن النهاية يجب أن تكون واقعية تماماً، وليست من نسج الخيال. ما الذي تضيفه نايفة النجار (برناديت حديب) إلى الفيلم حين تعود إلى رسائلها وصورتها بالأسود والأبيض، والمفلترة بغموض ظاهر للعيان. هل هي رسالة خاصة جداً في الفيلم؟ - رسائل نايفة النجار هي ضمير الفيلم بالمعنى التوثيقي للكلمة، لأنها امرأة حقيقية كانت موجودة وضاعت في زحمة انتظار ابنها المخطوف. وهي برسائلها تعيد الفيلم إلى المنبع الأساسي، أي إلى القضية الأساسية الكامنة في الجرح المفتوح الذي لا يزال مفتوحاً ويكمن في اختفاء الآلاف من اللبنانيين والأبرياء الذين لم يعودوا حتى يومنا هذا. لقد ترددت طويلاً في إدراج حكايتها في الفيلم، ولكن حسمت أمري من خلال مشاهد شبه توثيقية تجيء ضمن سياق درامي مستمر، وبعد توليف الفيلم وتأمله من زوايا عدة وجدت أن فيلمي كان سيخسر الكثير من دون نايفة النجار. هل هي مفاجأة أن الفيلم يعتمد في شكل رئيس على الممثل؟ - «شتي يادني» يعتمد بالدرجة الأولى على الممثل فعلاً، لأن السيناريو مبني على ثلاث شخصيات رئيسة، هي: رامز وماري وزينب. وثمة بالطبع شخصيات ثانوية، ولكن لها حضورها القوي مثل البنت والابن والجارة، فضلاً عن شخصية نايفة النجار على رغم قصر مدة ظهورها في فيلمي. من هنا اعتمدت على ممثلين محترفين، وإن لم يكونوا نجوماً بالمعنى الدارج للكلمة، وقد تطلّب توزيع الأدوار مني الوقت الطويل، وبخاصة أنني وقعت في حيرة أمام حضور جوليا قصار وكارمن لبّس، ولكن ثقتي بهما دفعتني لأعطي السيناريو المكتوب لهما، وطلبت منهما أن يقوما باختيار دوريهما، وجاء توزيع الدورين مثالياً، فقد ظهرت كارمن بدور زينب، فيما لعبت جوليا دور ماريا. أما في خصوص الممثل الرئيس حسان مراد (رامز في الفيلم)، فقد اكتشفته في مرحلة ثانية متقدمة من العمل، وكان يعمل حينها في العاصمة الإماراتية أبو ظبي، وجاء إلى بيروت بغرض إجراء اختبار الشخصية، وتجددت الكرّة ثانية بعد مرور ستة شهور، وهكذا أيقنت أنه الممثل المناسب لفيلمي بسبب حرفيته العالية، والشحنة الانسانية التي امتلكها في وجهه حين عبّر من خلالها عن حال المخطوف الذي يعود فجأة من الغياب القسري، ليكشف عن قصص كثيرة ما زالت رهن العودة الجماعية إن حدثت أو ستحدث يوماً.