شغل المماليك كرسي الحكم في مصر العاصمة القاهرة وبلاد الشام وأجزاء من آسيا الصغرى، قرنين ونصف القرن ويزيد" وقد كانت لهم مواقف دافعوا فيها عن المنطقة دفاعاً مجيداً ضد التتار أولاً وفي اخرجهم الصليبيين من آخر معاقلهم في بلاد الشام ثانياً. فضلاً عن ذلك فقد ظلوا عيناً على العدو الأوروبي ردحاً من الزمن. ولأن المماليك أحيوا الخلافة العباسية في القاهرة فقد ظلت الخلافة، ولو أنها أصبحت اسمية في السلطة، في ديار المشرق العربي، موطنها الأصلي. وانتهى حكم المماليك سنة 923ه/1517م. وقد عني عدد من قدامى المؤرخين بتدوين أعمال المماليك، ولما كان أكثر هؤلاء قد عاشوا في كنف المماليك فإنهم يمكن أن يعتبروا مؤرخي بلاط، على نحو ما كان عدد لا يستهان به من أسلافهم. ومن هنا فقد كان المديح هو الغالب لأعمال هؤلاء السلاطين وتجنب، في كثير من الأحيان، ذم شرورهم ولم تكن قليلة. والكتاب الذي نعرض له اليوم "دول الإسلام الشريفة البهية" وضعه أبو حامد محب الدين بن خليل القدسي الشافعي المتوفى سنة 888ه/1483م. وهو ليس كتاباً في التاريخ ولكنه يدور حول التاريخ مع كثير من وسائل الاعلام الحديثة وطرقه التي نعرفها في ديارنا في البيانات الرسمية. ولد القدسي ويسمى المقدسي أيضاً في الرملة بفلسطين في 817/1414 أو 819/1416 في أسرة مصرية الأصل لذلك يطلق عليه اسم البلبيسي. وقد شغل أبوه منصب مفتي وموقت ومن ثم فإنه يشار اليه بإسم ابن الموقت. بعد وفاة والده انتقل الى القدس، لكن يبدو أن السنة التي تم فيها انتقاله ليست واضحة أو حتى معروفة. الا انه في سنة 844/1440 انتقل الى القاهرة صحبة القاضي ناصر الدين بن هبة الله البارزي P.60* ونزل في خانقاه سعيد السعداء حيث أخذ بتلقي العلم على شمس الدين القاياتي وسواه من العاملين هناك، فنال حظاً من الفقه الشافعي والبلاغة. وقد شغل فيما بعد بالتعليم، لكن نجاحه كان محدوداً. ويبدو انه لم يتمكن من الحصول على عمل مدرسي رفيع الشأن. الا انه كان، في القليل الذي عرفه وعلمه، ناجحاً في عمله. وقد تزوج متأخراً وحج سنة 853/1450 وتوفي سنة 880/1483، وقد خلف بنين وتلاميذ كثيرين PP.60-61. وقد خلف أبو حامد القدسي، فيما نعرف، أربعة كتب هي: 1 "بذل النصائح الشرعية فيما على السلطان وولاة الأمور وسائر الرعية" 868/1463 وهو الى كتب الحسبة أقرب، وفيه الكثير من كتاب تاج الدين السبكي المسمى "معيد النعم ومبيد النقم". والكتاب لا يزال مخطوطاً P.54. 2 "الفضائل الباهرة في أخبار مصر والقاهرة" وضعه سنة 871/1466. وبين هذا الكتاب وكتاب "حسن المحاضرة" شبه كبير مما يؤكد استفادة المؤلف منه. وقد نشر هذا الكتاب في القاهرة سنة 1969 مصطفى السقا وكامل المهندس P.55. 3 "الدرة المضيّة" المضيئة في خبر الدولة الأشرفية الذي ألفه سنة 877/1472. وفيه ذكر فضائل السلاطين والجيوش. لا يزال مخطوطاً PP.57-59. 4 "دول الإسلام الشريفة البهية" الذي وضعه سنة 881/1477. وهو الذي نتحدث عنه هنا. ولأبي حامد القدسي كتب أخرى المعروف منها اثنان وهما "بشرى بحصول الأجر المتين والنصر المبين في تسلية الحزين" و"الجواب المرهف عن سؤال الملك الأشرف" P.59. والكتاب الذي2 ننوي الحديث عنه هو "دول الإسلام الشريفة البهية". وقد بدأ بالاهتمام به صبحي لبيب فأعده من نسخة متأخرة، ولما توفي تولى أولريش هارمان، العالم الألماني الكبير أمر الكتاب، فعاد الى نسخة قديمة وقابل بعض أجزاء الكتاب على مخطوطة ثالثة، وخرج بهذا السفر الجليل. وقد تناول النسخ التي اعتمد عليها في التحقيق بدراسة دقيقة يمكن لمن يقرأ الكتاب أن يعود اليها ص 1-4م وPP.21-29. وباختصار تم لصبحي لبيب وأولريش هارمان وللأخير القسط الأكبر من العمل درس ثلاث مخطوطات واحدة في المكتبة التيمورية تاريخ 2111 وأخرى أشير اليها بمخطوطة القاهرة تاريخ 1033 ونسخة دار الكتب القاهرة لسنة 1852. والكتاب في شكله الحاضر يتكون من مقدمة بالعربية لهارمان ص 1-4م ومقدمة بالألمانية مقتضبة لصبحي لبيب PP.13-19 ومقدمة عن الكتاب ونسخه والمؤلف وحياته PP.21-63 وتدخل في هذه المقدمة ترجمة لجزء صغير من الكتاب الى الألمانية سنشير اليها عندما نقف عندها. أما نص كتاب دول الإسلام الشريفة البهية فيشغل ص 1-131، ويلي ذلك ص 133-178 ثبت المصادر والمراجع والفهارس. ونحن نجد أن المؤلف قسّم كتابه، دون أن يشير الى ذلك، الى جزأين. الأول هو تاريخ للدول الإسلامية من الخلافة الراشدة الى الدولة التركية المملوكية. ويعطي المؤلف الدول جميعها حتى نهاية دولة بني أيوب الأكراد، الصفحات 1-25، أما "الدولة التركية" أي دولة المماليك الأولى البحرية فينالها من ص 26 الى 80 وتكون حصة "دولة الجراكسة" حتى أيام وضع المؤلَّف سنة 881/1476 من ص 81 الى 100. اما الجزء الثاني من الكتاب فهو الذي يستخرج منه وفيه العبر واسمه "حكم الله وألطافه الخفية في جلب طائفة الأتراك الى الديار المصرية". وهو مقسوم، بحسب تصميم المؤلف، الى قسمين: الأول في تعداد نِعم الله على طائفة الأتراك في أنفسهم ص 106-168، والثاني "في تعداد نِعم الله عليهم وعلى عامة المسلمين بالنسبة اليهم أي بسبب وجودهم الآن بهذه المملكة في الظاهر للناس". ص 119-131. يبدأ أبو حامد كتابه بالبسملة ومقدمة تقليدية فيها حمد لله وإشارة الى بعثة النبي ص "الى كافة الخلق من أحمر وأسود وأنسي وجني"، ثم ينتقل لاخبارنا بسبب وضع الكتاب، فيقول "وبعد، فإنني في ليلة ثلاث وعشرين من شهر شوال المبارك سنة ثمانين وثمانمائة، وأنا مستلق على فراشي، تفكرت في حكم الله تعالى وألطافه الخفية في جلب طائفة الأتراك الى الديار المصرية، فألهمني الله من ذلك اشياء فيها مواعظ واعتبار لأولي البصائر والأبصار. فخطر لي جمعها وتسطيرها لأني لم أرَ أحداً قبلي سبقني اليها، ولا حوّم طائر فكره عليها، لأن اتحف بها الحضرة الكريمة العالمية العادلية الملكية الأشرفية عالية الشرف والمقدار هدية لصاحبها مولانا المقر الأشرف العالي السيفي يَشْبَك الدوادار. ورأيت ان اقدم على ذلك الكلام على دول الإسلام الكائنة من بعد نبينا، عليه أفضل الصلاة والسلام" ص2. يُذكر ان يشبك الدوادار توفي سنة 885/1480. ليس في الجزء الأول من الكتاب جديد. فهو في أصله وفصله نتف عن الذهبي تاريخ الإسلام والمقريزي السلوك والخطط وابن تغري بردي النجوم الزاهرة وسواهم. ويمر بالدول الإسلامية حتى الدولة الأيوبية، مر الكرام، ويفصل بعض الشيء في دولتي المماليك، ويمدح كل سلطان منهم بمنتهى الكرم، حتى لكأنك تسمع إذاعة مملوكية تخيلا في سنة 1998. بعد هذا العرض ينتقل الى ما ظهر في حكم الله وألطافه في جلب الأتراك الى مصر. 1- انه يرى ان الأتراك يمتازون عن كثير من العباد بنعم زائدة وصفات جليلة "وأكثرهم - بل كلهم - عنها غافلون"، ويتابع المؤلف قوله "...ولعل سببه... فساد العرب الخلص الذين بعث فيهم نبينا ص... وكانوا ببركته على أكمل حال... فلما خالفوا ما جاءهم به رسولهم ص وكفروا نِعم الله أحلهم الرزايا" فكان ان انتقل احسان الله تعالى الى الأتراك ص 102-103، فهم يدخلون مكرهين من بلاد الحجج الى بلاد الشرائع ويتهذبون بأخلاق الإسلام ثم يترقّون ويبلغون درجات مختلفة من الرقيّ والكمال فيكون منهم السلاطين وأهل المعرفة وتدبير الأمور ورجال الحروب وآلاتها والعارفون بأنواع العلوم الشرعية والمجيدون لقراءة المصحف الشريف والذين يرزقون حسن الصوت لاجادة قراءة القرآن الكريم ومن يحسنون الخط والكتابة ونسخ المصاحف ومن يتقن الحِرَف والصناعات ص 102-107. ومن صفاتهم الحسنة بالنسبة للعلاقة مع الآخرين انهم يمتازون بصفاء البواطن والأمانة وعدم الخيانة، والانقياد لفعل الخير وقلّة الحسد وشدة رعايتهم لحق الصحبة لأبناء جنسهم وقبولهم للنصيحة" ص 107-113. ويعتبر أبو حامد القدسي الأمور التالية من نِعم الله على الطائفة التركية: حسن اشكالهم الزاهرة وحسن اللباس والزي وحسن المراكيب المختارة "ونعيم الدنيا في بيوتهم ومساكنهم - من الزوجات الحسان والأولاد صباح الوجوه وكثرة الجواري والمماليك والطواشية والحشم والخدم". ومن نِعم الله على الأتراك، في رأي أبي حامل القدسي، المساكن الحسنة الواسعة "حتى ترى أقلّ جندي منهم له البيت الحسن والاصطبل المليح..." وينهي المؤلف القسم الأول بقوله "ولو كان حالة هذا ]أي البيت الواسع وما اليه[ لأكبر فقيه بالقاهرة لأخذته الألسن ورمقته الأعين من كل جانب. فسبحان المعطي المانح بحكمته وارادته. ص 116-118. أما القسم الثاني من آراء المؤلف في النعم التركية على مصر فيمكن تلخيصه فيما يلي: ان الأتراك هم القائمون الآن عن عامة المسلمين، فالناس لا يحملون أي نوع من السلاح مهما قلّ شأنه، وقد ألقى رعبهم في قلوب المفسدين. وأصبح أهل الإسلام مطمئنين على أهلهم وأرضهم. والناس يقبلون قول الأتراك ص 119-124. "وهناك تسليط الله سبحانه وتعالى في بعض الأوقات مناحيس... على كثير من عوام المسلمين بالأذى والضر". وقد فكر أبو حامد في ذلك فظهر له فيه من الحكمة، فرأى أنهم يُسلَّطون غالباً على من يستحق ذلك ص 125. يختم المؤلف كتابه بحكاية تفسر فساد حال المماليك في الطباق في دولة الأشرف برسباي 825-841/1422-1437. ص 131. والحكاية فيها معنى ودلالة لذلك فقد آثرنا أن نلخصها هنا. الراوية "رجل كبير من العلماء الموجودين الآن"، وقد حكاها بمجلس بعض الأمراء ثم كتبها في ورقة بخط يده لأبيحامد ص 128. حكى الشيخ شمس الدين فقيه الأسياد أنه كان يقرىء المماليك السلطانية بقلعة الجبل. وقد تقاتل مملوكان فضرب احدهما الآخر فقتله. فبلغ السلطان الخبر، فطلب الفقيه المؤدِّب، فأُرسِل اليه، فجاء بين يدي السلطان، فقال له هذا "أنت فقيه الطبقة؟"، فقال "نعم ولي جامكية ]أي مرتب[ ولحم وعليق". فقال السلطان "كم جاميتك؟"، فأجاب "ألف درهم وخمسة أرطال لحم وثلاثة علائق". فقال السلطان: "يا قسم تأكل جامكية السلطان واللحم والعليق وتعلّم المماليك بقتل بعضهم بعضاً؟"، فقال له: "يا مولانا السلطان أنا ما علمتهم الا الإسلام والقرآن والصلاة والأدب. والذي علمهم يقتل بعضهم بعضاً غيري وأنا أعرفه". فقال: "من هو؟"، فأجاب الفقيه "لا أقدر على تسميته، فإني أخشى حرمته". ولكن السلطان منحه الأمان وعندئذ قال له ان السلطان مسؤول عن ذلك. ولما أراد السلطان أن يعرف جلية الأمر أوضح له الفقيه انه ما رأى سلطاناً يُخرج خَرْجاً من اجلابه قط، بل من أجلاب السلطان الذي قَبْلَه أو من السلطان الذي قبل قَبْلِه. وأوضح للسلطان ان المملوك الجلب كان يجتاز أربع طبقات ويقضي في كل طبقة خمس سنوات. في الطبقة الأولى كان يقدِّم النعال ويملأ أباريق الوضوء ويكنس الطبقة" فإذا نجح في ذلك نقل الى طبقة ثانية يخرج يصلي الجمعة في الجامع. وعندما يستحق أن يرقى يخرج الى باب القصر يمسك نشابة آغا عند دخول الخدمة. فإذا تم الخمسة الثالثة نقل الى الرابعة ويخرج له إكديش. وفي الطبقة أو الخمسة الرابعة يطلع وينزل مع آغاته. وهكذا "يمكث هذا عشرين سنة يتعلّم من الفقيه ومن الاغوات ومن الخشداشيين الآداب ومن الضَنْك والحصر الذي هو فيه، فيبقى مع الناس صفة الحرير، ليس عنده تشويش على أحد. فيتهذّب ويتربى على ذلك". أما الآن فيسمع مولانا "بأن فلاناً وصل من بلاد جركس، فيرسل له الى حلب لملاقاته فرس بسرج ذهب وكنبوش وكاملية صرف. ويقف النائب بخدمته... فلا ينسب الذنب يا مولانا السلطان الى غير فاعله". ص 128-130. أين نضع هذا الكتاب. ليس هو كتاب تاريخ، ولو أن فيه خلاصة تاريخية لدول الإسلام، لكنها خلاصة لم يقصد منها التأريخ ولكن ضرب المثل على أهمية طائفة الأتراك وأفضالها على مصر خاصة وعلى الإسلام والمسلمين عامة. وهو ليس كتاباً يقصد منه تعليم دروس علم السياسة والأخلاق السياسية. انه قصيدة نثرية طويلة في مدح ما سماه الأمة التركية. وفي سبيل ذلك جعل كل ما قامت به، سلاطين وأراء وأغوات، من استيلاء على السلطة وحكم فيه الكثير من السيطرة الغاشمة كأنه نعم من الله لهذه الأمة التركية وأفضال منه تعالى ان جلبها لتحمي مصر والإسلام والمسلمين. انها نظرة مقلوبة نوعاً ما للنظرة التاريخية الصحيحة. ولكن ألم تعرف العصور التاريخية، على مرِّ الدهور، جماعة من أهل القلم قبلاً، ومن أهل الآلات المختلفة الآن، يقلبون الحقائق التاريخية لتفسير الأمور حسب أهوائهم؟ وهم في ذلك يسعون لارضاء أولي الأمر. * أرقام الصفحات بالعربية للكتاب أصلاً والأرقام بالافرنجية تشير الى صفحات المقدمة الألمانية لاولريش هارمان. * مؤرخ وكاتب لبناني.