تقتضي "البلاغة" الديبلوماسية الأميركية أن يكون لكل مقام مقال ولكل مرحلة وسياسة سفير في لبنان . أميل خوري يحلل هذه "البلاغة". يبدو ان الولاياتالمتحدة الاميركية تعيّن لكل مرحلة سفيراً لها في لبنان يكون مؤهلاً للمرحلة التي ستواجه البلد وقادراً على ادارة كل التطورات المحتملة فيها بالتنسيق مع نظرائه السفراء الآخرين في المنطقة باعتبار ان ما يحصل في لبنان، لا يمكن عزله عن المنطقة وما يحصل في المنطقة لا يمكن عزله عن لبنان. وعندما تشعر الادارة الاميركية بان تطورات المرحلة تجاوزت قدرة سفيرها، وبات عاجزاً وحده، عن مواجهتها، فانها تسعفه بارسال موفد خاص يتولى عنه، أو معه، مهمة ادارة حلقات المرحلة الصعبة وتطوراتها. وقد حصل ذلك مرتين، مرة عندما كان ماكلنتوك، سفيراً للولايات المتحدة الاميركية في لبنان، وحان موعد الاستحقاق الرئاسي بعد حوادث 1958، وكان للسفير نظرة مختلفة عن نظرة الادارة الاميركية حيال هذا الاستحقاق وحيال المرشحين المحتملين للرئاسة الاولى، وكانت الادارة الاميركية تتحرّك لمواجهة هذا الاستحقاق بمعزل عن سفيرها في لبنان، وعندما اكتمل تحرّكها، وتبلورت صورة المرشح المناسب لتلك المرحلة، وكان الناخبان الرئيسيان، إن لم يكونا الوحيدين هما: الولاياتالمتحدة الاميركية ومصر جمال عبدالناصر، وصل الى بيروت الموفد الاميركي روبرت مورفي وأجرى اتصالات بالمرجعيات السياسية والدينية الرئيسية في لبنان. وأبلغ اليها، بعدما استمع الى آرائها، ان الاختيار وقع على اللواء فؤاد شهاب ليكون رئيساً للجمهورية خلفاً للرئيس كميل شمعون. وعندما كان لبنان غارقاً في أتون حرب السنتين اللبنانية - الفلسطينية، وكانت المساعي الاقليمية والدولية منصبة على انهاء تلك الحرب، ارتأى اصحاب هذه المساعي اجراء انتخابات رئاسية مبكرة من اجل ايصال رئيس للجمهورية خلفاً للرئيس فرنجية بحيث تنتهي الحرب مع الرئيس الراحل وتبدأ مرحلة السلم مع الرئيس القادم، لم تعتمد الادارة الاميركية يومئذ على سفيرها وحده في بيروت لمواجهة متطلبات الاستحقاق الرئاسي واختيار الرجل المناسب لتلك المرحلة، وكان يومها السفير ريتشارد باركر الذي كان يتوقع ان تستمر الحرب الى ان يتعب كل الاطراف المتقاتلين، وكتب مقالاً في احدى الصحف تحت عنوان: "حلّ التعب". جاء الموفد الأميركي دين براون الى بيروت للاطلاع عن كثب على تطورات الوضع في لبنان، في ضوء المعارك العسكرية الدائرة على كل الجبهات، والتي كان لا بد من الحصول على موافقة محلية واقليمية ودولية على دخول القوات السورية الى لبنان لوقف تلك المعارك، والبحث في الوقت نفسه عن الرجل المناسب الذي يخلف الرئيس فرنجية في سدة الرئاسة الاولى. فزار بعض المرشحين للوقوف على آرائهم في تطورات الوضع، واخضاعهم بالتالي لامتحان شفهي. وكان العميد ريمون اده ابرز المرشحين الذين واجهوا اسئلة دين براون بصراحته المعهودة فأجابه عندما سأله عما اذا كان يقبل بان تتولّى القوات السورية الموجودة في لبنان مسؤولية حفظ الامن، بأنه لا يوافق على ذلك، وانه يستطيع ان يوحّد الجيش اللبناني المشرذم جراء الحرب خلال شهر واحد، واذا تعذّر عليه ذلك، فإنه يطلب ارسال قوات دولية لكي تتولى حفظ الأمن، او قوات اميركية، ريثما يكون قد تمّ التوصل الى توحيد الجيش اللبناني وصار تعزيز قوى الأمن الداخلي واعادة تنظيمها لكي تحمل قوى السلطة الشرعية مسؤولية حفظ الأمن وفرض حكم القانون. هذا الجواب لم يعجب الموفد الاميركي دين براون الذي يريد رئيساً للجمهورية يوافق على ان تتولى القوات السورية حفظ الأمن في البلاد، لانه لا يرى مجالاً لان تتولى أي قوة اخرى ذلك، واذا بالشخص الذي يبحث عنه هو حاكم مصرف لبنان السيد الياس سركيس الذي وافق على طلبه، وكان من رأيه ان ليس في استطاعة أي قوة عسكرية في تلك الظروف الدقيقة والصعبة ان تحفظ الامن وتمنع الاقتتال سوى القوات السورية أقله خلال مدة سنة، و بعدها تكون قد توقفت الحرب في لبنان، وصار في الامكان اعادة تنظيم قوات السلطة المسلحة وتعزيزها لتصبح قادرة على ان تحلّ محل القوات السورية والقيام بالمهمات الامنية المنوطة بها. وتولت الولاياتالمتحدة الاميركية تسويق الرئاسة لالياس سركيس لدى المراجع السياسية والدينية الفاعلة في لبنان، ولدى الحكم في سورية، وصار التعاون بين كل هذه الاطراف على تأمين النصاب لجلسة الانتخاب التي عقدت تحت قصف المدافع والصواريخ التي استهدفت محيط قصر منصور، المقر الموقت لمجلس النواب، واحياناً مبنى القصر نفسه. لكن الحرب التي كان يؤمل ان تتوقف مع عهد الرئيس سركيس استمرت، وظلت مستمرة مع العهود التي توالت، ولم تتوقف الا في عهد الرئيس الياس الهراوي وبعد اطاحة حكم العماد ميشال عون بالضربة العسكرية السورية. ولأن لكل مرحلة في لبنان سفيراً أميركياً يستطيع مواكبة تطوراتها، أو يهيء لها، فان التحضير لحرب لبنان بدأ مع وصول السفير وليام غودلي الذي كان في لباسه، بعيداً من الاناقة، وكأنه في لباس الميدان... وبعدما اشتعلت "حرب السنتين" على عهده، خلفه السفير فرنسيس ميلوي الذي كان ضحية تلك الحرب عندما تعرّض للاغتيال. فخلفه السفير ريتشارد باركر الذي كان يدعو الى توطين قسم من الفلسطينيين في لبنان بدعوى انه سيكون في حاجة الى الايدي العاملة عند انتهاء الحرب ومباشرة اعادة البناء والاعمار... وعُيّن بعده السفير جون غنتردين الذي كان يعمل جاهداً من اجل ان تستعيد سلطة الدولة اللبنانية وجودها وان تتخلّى الميليشيات لها عن المناطق التي تسيطر عليها، وعندما لم تتجاوب "القوات اللبنانية" وكانت بقيادة الشيخ بشير الجميل مع مساعيه، امتنع عن التعاطي معها وعن عقد لقاءات مع قائدها وساءت العلاقات بينهما، الى حد ان مؤخرة سيارته تعرّضت لصاروخ وكان راكباً فيها، فيما كان في طريقه الى السفارة. والسفير جون غنتردين توقع في عشاء ضمّ عدداً من رجال الاعمال والاقتصاد ان تستمر الحرب في لبنان اكثر من عشر سنين في وقت كانوا يتوقعون ان تنتهي في غضون سنتين، وقد دهشوا لكلامه ولم يصدقوه. ولم يسجّل السفير روبير ديلون حضوراً مميزاً مدة وجوده في بيروت، خلافاً لأسلافه، في حين كان للسفير رجينال برثولوميو الذي خلفه، موقفاً معارضاً لمشروع الاتفاق الثلاثي وقد أبلغ هذا الموقف الاميركي مع غيره من السفراء المعنيين الى الرئيس امين الجميل. وكان هذا المشروع سبباً لانتفاضة قام بها الدكتور سمير جعجع ضد الياس حبيقة الذي كان يومها قائداً ل"القوات اللبنانية". وساهم السفير الاميركي جون كيلي في عهد الرئيس امين الجميل في الاتصالات التي كانت جارية من اجل وضع صيغة جديدة للدستور اللبناني تساعد على وقف الحرب وتحقيق الوفاق الوطني، وكان للديبلوماسية الاميركية ابريل غلاسبي دور مهم في هذه الاتصالات وفي اقتراح التعديلات اللازمة التي لم يكن السفير كيلي موافقاً على بعضها، وذلك حرصاً منه على ابقاء بعض الصلاحيات لرئيس الجمهورية وعدم المساس بها. وقد تكون الادارة الاميركية شعرت بميول سفيرها في بيروت التي لا تتلاءم وسياستها، فعمدت الى ارسال موفد لها الى بيروت هو السفير ريتشارد مورفي، صاحب العبارة الشهيرة التي أطلقها في صرح بكركي: "مخايل الضاهر أو الفوضى" وذلك بعد ان عارض البطريرك الكاردينال صفير تحويل انتخابات الرئاسة الى تعيين، نتيجة اتفاق اميركي - سوري يقضي بان يكون النائب ضاهر هو المرشح الوحيد للرئاسة الاولى ولا مرشح سواه، لتأمين فوزه بالتزكية... وكان للسفير الاميركي جون مكارثي الموقف المثير للدهشة والاستغراب عندما دعا من اهدن الدكتور سمير جعجع قائد القوات اللبنانية الى مواجهة العماد ميشال عون وقال في تصريح علني موجه الى جعجع: "ماذا تنتظر لتبدأ المعركة؟! وقد بدأت فعلاً، وكان ما سمي "حرب الالغاء" لان السفير الاميركي كان على خلاف شديد مع العماد عون بعد ان طرده من مكتبه، في آخر مقابلة بينهما. واستطاع بعده السفير ريان كروكر المحافظة على شيء من التوازن في العلاقات بين مختلف الاطراف خلافاً للسفير مارك هامبلي الذي خلفه اذ انه كان في أحاديثه صريحاً في قوله انه قبل ان يكون سفيراً في لبنان من اجل العمل على اخراج كل القوات غير اللبنانية من أرضه لكي يستعيد سيادته الكاملة وقراره الوطني الحر. ويبدو ان الوضع في لبنان والعلاقات الاميركية - السورية لم تكن تتحمّل مثل هذا الكلام حتى في المجالس الخاصة والمناسبات الاجتماعية، فاستدعته وزارة الخارجية الاميركية على عجل بحجة انه يشكو من مرض عضال... ثم تبيّن انه لا يشكو من اي مرض سوى مرض الكلام الممنوع. ونجح السفير ريتشارد جونز مدة وجوده سفيراً في بيروت في ترجمة موقف الادارة الاميركية بدقة مكتفياً بالتشديد في تصريحاته على رؤية لبنان وقد استعاد سيادته الكاملة وقد خلت أرضه من وجود اية قوات غريبة. وعلّق اكثر من مرة على أهمية اجراء انتخابات بلدية واختيارية. ودعا الى مشاركة الجيل الجديد فيها من اجل احداث التغيير المطلوب، مع تعليقه الاهمية ذاتها على الانتخابات الرئاسية من اجل تأكيد التأكيد على الديموقراطية وتعزيز دورها في لبنان. وكان للسفير جونز آخر حديث تلفزيوني بعد انتهاء مهمته في لبنان تطرق فيه، لأول مرة، الى مسائل حيوية ذات علاقة باعادة العافية الاقتصادية الى لبنان بعد سنوات المحنة، واعطى شهادة بالسياسة المالية، فوصفها بانها محكمة جداً وان هذه السياسة من وجهة نظره، اساسية للعافية الاقتصادية في اي بلد، وانه اذا لم يتم اتباع سياسة محكمة، فإن الاقتصاد يتجه حتماً الى التضخم المالي والى تدهور قيمة العملة النقدية الذي يقود جميع من في البلد الى الفقر. وقبل ان يصل السفير الجديد ديفيد ساترفيلد الى بيروت في ايلول المقبل ليتسلّم مهمته خلفاً لجونز، وهو الذي كان له دوره في التوصل الى اتفاق الطائف بصفته كان قائماً بالاعمال في السفارة الاميركية في بيروت، أعلن في شهادة أدلى بها في جلسة استماع عقدتها لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، ان هدفه الاول لدى استلامه منصبه في بيروت، سيكون السعي "لاستئناف المفاوضات اللبنانية - الاسرائىلية، والسورية الاسرائىلية والمساهمة في انهاء العنف في جنوبي لبنان، ودعم العملية الديموقراطية في لبنان بما في ذلك الانتخابات الرئاسية في الخريف المقبل. وان واشنطن ما تزال ملتزمة بهدف استعادة لبنان "لسيادته الكاملة واستقلاله، وتحرره من جميع القوات الاجنبية كي يستعيد مرة اخرى مكانه الذي يستحقه بين أمم العالم وان تحقيق السلام الاقليمي الشامل سيساهم في تحقيق هذا الهدف". فهل يكون الحكي للسفراء والفعل لغيرهم..