مع نشر هذا المقال، يبقى اقل من شهر على انتهاء المهلة الدستورية المحددة لانتخاب رئيس للجمهورية، ويبقى الشعب اللبناني جاهلاً بالذي سيتولى باسمه الرئاسة للسنوات الست المقبلة. انها المفارقة الاكثر غرابة في بلد يعتمد النظام الجمهوري البرلماني حيث لا يعرف الشعب، رسمياً وعلناً على الاقل، باسماء المرشحين للرئاسة الا بعد ان يقترع النواب، وقد لا يعرف معظم النواب لمن سيقترعون الا ساعة الانتخاب او قبلها بأيام قليلة وربما ساعات! في زمن الجمهورية الاولى التي سبقت الحرب ورافقتها كان اللبنانيون على بيّنة باسماء المرشحين الاوفر حظاً في اعتلاء سدة الرئاسة. كان هناك في الغالب مرشحان يتصدران قائمة المسترئسين، وحين تدق ساعة الاقتراع او في ربعها الاخير، يكون العامل الاقليمي والدولي قد نجح في تأمين الاكثرية النيابية لصالح المرشح الذي يكون قد رسا عليه الاختيار، فتقترع الى جانبه غالبية النواب ويفوز ولكن ليس باجماع او شبه اجماع الا في ما ندر. غير ان هذه الديموقراطية الانتخابية ولو انها نسبية، انتفت نهائياً منذ اندلاع الحرب في العام 1975، وظلت مغيبة حتى بعد انتهاء الحرب والاعلان عن ولادة الجمهورية الثانية من رحم اتفاقية الطائف اواخر العام 1989. الرئيس الراحل الياس سركيس انتخب رئيساً للجمهورية عام 1977 في شتورا بارك اوتيل، وبحراسة القوات السورية، وكان المرشح الوحيد للرئاسة. الرئيس الراحل بشير الجميل، انتخب في العام 1982 في ثكنة الفياضية وفي ظل الغزو الاسرائيلي المتمدد عسكرياً حتى مشارف العاصمة، وكان وقتها المرشح الوحيد للرئاسة وربما للموت اغتيالاً. الرئيس امين الجميل، خلف شقيقه بشير وكان المرشح الأوحد وتم انتخابه، في قصر منصور، الذي كان المقر الموقت لمجلس النواب طوال سنوات الحرب. الرئيس الراحل رينيه معوض، انتخب في قاعة مطار القليعات المجاور للحدود السورية في العام 1989 واغتيل في بيروت، ولم يكن قد مضى على انتخابه سوى ثلاثة اسابيع.. بدوره، كان المرشح الوحيد للرئاسة وايضاً للشهادة. الرئيس الحالي الياس الهراوي انتخب في العام 1989 في قصر منصور بعد ان فشل الديبلوماسي الاميركي ريتشارد مورفي، في فرض النائب السابق مخايل الضاهر، رغم استخدامه لهجة التهديد والوعيد، واطلاقه العبارة الشهيرة بأن "على اللبنانيين الاختيار بين مخايل الضاهر.. والفوضى". ويبدو ان اللبنانيين لم يأبهوا وقتها لتحذير مورفي فعمت الفوضى! اليوم يحل الاستحقاق الرئاسي والكل بانتظار من سيختاره "الناخب الاكبر" وهو دمشق التي تملك وحدها القرار الحسم، دون ان يعني ذلك عدم التشاور بشأن الرئيس العتيد مع عواصم الدول المعنية بالشأن اللبناني وقبل ان "تستأنس" برأي حلفائها اللبنانيين من رؤساء الكتل النيابية وقادة الاحزاب السياسية والقادة الروحيين. حتى الآن لا أحد يعرف ما اذا كان سيُمدّد للرئيس الياس الهراوي للمرة الثانية رغم كل ما يقال عن تعب الرئيس، وقرفه، وعزوفه. وحتى الآن لا يمكن الرهان على مرشح ما بالرغم من التسريبات التي يتعمدها بعض "الملهمين" والتي تكاد تجمع على القول بأن الامر قد حسم ولم يعد امام مجلس النواب سوى الاجتماع اولاً لتعديل المادة 49 من الدستور كي يصبح بامكان الموظفين ترشيح انفسهم، والموظفون المعنيون هنا، يختصرهم شخص العماد اميل لحود قائد الجيش اللبناني! اذا كانت الحروب المركبة التي عصفت بلبنان على امتداد 17 عاماً، قد شلّت كل مؤسسات الدولة وحالت دون اضطلاع مجلس النواب بدوره كاملاً في انتخاب رئيس للجمهورية من بين متنافسين اثنين او اكثر، فان الخارج حل محل الداخل في التصدي لهذه المسؤولية، حيث تولى هذا الخارج تزكية الاكثر ارتياحاً اليه، وحمله الى كرسي الرئاسة بعد ان يوافق عليه النواب في اقتراع شكلي.. اما وقد مضت الآن تسع سنوات على انتهاء الحرب، ونهضت مؤسسات الدولة من جديد، ونظمت انتخابات نيابية لمرتين، وانتخابات بلدية واختيارية للمرة الاولى منذ 35 عاماً، فما الذي يحول بعد دون استعادة مجلس النواب المنتخب حديثاً حقه كاملاً في انتخاب من يراه هو مناسباً للرئاسة الاولى وهذا حق يكفله له الدستور؟ ولماذا يجمع اللبنانيون - وقلما اجمعوا - على اعتبار ان دور مجلس النواب في الاستحقاق الرئاسي هو دور هامشي وشكلي لا يتعدى الاخراج. وان الاكثرية الساحقة من النواب على تنوعها الطائفي واختلافها السياسي ستقترع في النهاية لصالح المرشح الذي يكون قد اوصى به "الناخب الاكبر" وربما التمديد مرة ثانية للرئيس الهراوي بعد ان يصار الى تعديل جديد للمادة 49 من الدستور! رُب قائل ان من حق سورية الحريصة على الامساك بالاستحقاق الرئاسي، وضبط عقاربه وفقاً لمصالحها الاستراتيجية وهي في مصلحة لبنان.. ورب قائل بأن المعركة الشرسة التي تخوضها سورية ومعها لبنان في مواجهة سياسة التطرف والعدوان التي تنتهجها حكومة نتانياهو تفترض التأني في اختيار الشخص الذي سيتولى مقاليد الرئاسة في لبنان للسنوات الست المقبلة، وهي سنوات ستكون حافلة بالتحديات الوطنية والقومية، وبالتالي لن يكون مسموحاً على الاطلاق التغاضي عن انتخاب رئيس قد يسعى للفصل بين المسارين او يعيد النظر بكثير من الاتفاقات المعقودة بين البلدين ويعرض امن سورية، الذي هو من امن لبنان والعكس صحيح، الى الخطر.. ورب قائل ايضاً كلاماً كثيراً مشابهاً لتبرير امساك دمشق بالكرة الرئاسية في لبنان وتوجيهها الى المرمى الذي تختار.. ولكن ما لم يقله احد، او قاله البعض بحياء وحذر، هو ان جميع الاسماء التي يتم تداولها في بورصة المسترئسين، تقف في موقع يتراوح بين التحالف والصداقة مع سورية. فالكل متمسك بوحدة المسارين، والكل مؤمن بتعزيز اواصر الاخوة والتنسيق بين البلدين، فما الذي يمنع اذاً اللبنانيين من تقرير مصير رئاستهم بانفسهم طالما ان جميع المرشحين المحتملين يتحركون داخل الاطر المنظمة للعلاقة اللبنانية - السورية، وليس من واحد يحمل نوايا انقلابية على هذه العلاقة! الواقع هو ان المشكلة في الاساس هي لبنانية داخلية قبل ان تكون خارجية، وتنبع من التركيبة الطائفية لمجلس النواب التي تعكس واقع الحال في سائر مؤسسات الدولة، فهناك قناعة عامة لدى اللبنانيين مفادها ان معظم اعضاء المجلس النيابي تنتفي عنهم صفة التمثيل الحقيقي للمواطنين لجملة من الاسباب التي كانت وراء دخولهم الندوة النيابية، وهي اسباب تتراوح بين الولاء للطائفة اكثر من الولاء للوطن، واستخدام سلاح الضغوط والمال والسلطة في الوصول بمعزل عن ارادة الناخبين وخياراتهم. ومن الآن الى ان تنهض دولة المؤسسات في لبنان، وينتقل هذا البلد من نظام المحاصصة الطائفية الى نظام علماني ديموقراطي قائم على المواطنية والمساواة والعدل في الرعية، وهو هدف لا يزال بعيد المنال رغم ان السعي باتجاهه يشكل التحدي الحقيقي لكل الديموقراطيين اللبنانيين. من الآن والى ان يتم ذلك، أليس من سبيل لاصلاح بعض جوانب الخلل في نظامنا السياسي، وتحديداً، استئثار اللبنانيين انفسهم بالاستحقاق الرئاسي وتمكنهم من الاتيان برئيس للجمهورية بمعزل عن الخارج؟ قد يكون الحل - وهو مستطاع - باجراء تعديل دستوري يسمح بانتخاب رئيس للجمهورية بواسطة الاقتراع الشعبي المباشر، ومن دون إحداث انقلاب في التوازن الطائفي من شأنه تعريض الامن الوطني للخطر. واذا كان رئيس الجمهورية العتيد سيبقى من داخل الطائفة المارونية الى ان يتم الانتقال من نظام المحاصصة الطائفية، الى نظام اكثر انفتاحاً وديموقراطية، فان الاقتراع الشعبي المباشر سيسمح للمواطنين بالاقتراع للمرشح الذي يجسد بشكل افضل التطلعات الوطنية والحرص على العيش المشترك. ومن شأنه ايضاً ان يحرر المرشحين للرئاسة من قبضة رؤساء الكتل البرلمانية والزعامات الطائفية، والتخفيف الى حد كبير من حجم التدخل الخارجي، فهل من الممكن التحكم بارادة ثلاثة ملايين مواطن او الامساك بثلاثة ملايين ورقة اقتراع؟ يبقى القول، بأن هذا الاقتراح، ليس "هلوسة مثقفين يقفون على هامش الواقع" فقد صدر عن رئيس الجمهورية الياس الهراوي بالذات، الذي نحتفظ له "نحن المثقفين الهامشيين او المهمشين" كما يجمع على وصفنا اركان النظام، بأنه لم يتوان عن طرح مشروع الزواج المدني رغم اقتناعه بأنه سيثير بوجهه عواصف الطوائف والطائفيين وهذا ما حصل.. كما ان هذا الاقتراح تضمنه ايضاً البرنامج الذي عرضه النائب بطرس حرب وترشح على اساسه لانتخابات رئاسة الجمهورية، علماً بأننا "نحن المثقفين الهامشيين" نحتفظ للنائب بطرس حرب بفضيلة كسره حاجز التقليد والقفز فوق الممنوع ومحاولته اعادة القرار الى اصحابه… الى الشعب اللبناني! * صحافي لبناني مقيم في باريس.