الآن، بعد نصف قرن على قيام اسرائيل، وبعد قرن على نشوء الحركة الصهيونية، ثمة سؤالان يطرحان نفسيهما: الأول هو حول مدى أهمية كل من العاملين الذاتي والموضوعي في نجاح المشروع الصهيوني. والثاني هو حول مدى نجاح هذا المشروع في حل المسألة اليهودية واقامة "وطن قومي لليهود" في فلسطين. بالنسبة إلى السؤال الأول، لا يمكننا الا ان نعترف بأهمية العامل الذاتي لنجاح المشروع الصهيوني والمتمثل بوجود نخبة يهودية تمتلك الإرادة والتصميم لتحقيق أهدافها، أنشأت حركة صهيونية منظمة ومترامية الأطراف، امتلكت إمكانات هائلة مالية وإعلامية ونفوذاً سياسياً واقتصادياً واسعاً، خصوصاً في بلدان أوروبا والولاياتالمتحدة الأميركية. وهذه بدورها عملت على توظيف الدين اليهودي واستغلال مشاعر اليهود وعقدة الاضطهاد للترويج بينهم للمشروع الصهيوني. ولكن ما يجب اثارته أيضاً أنه على رغم كل ذلك فإنه من المشكوك فيه أن يكون هذا العامل هو الأساس في نجاح الحركة الصهيونية، وعلى الأرجح فإن العوامل الموضوعية المتمثلة بتوافر الظروف الدولية والإقليمية المناسبة والملائمة هي التي شكلت مرتكزاً لنجاح المشروع الصهيوني. وهذا يعني أن الحركة الصهيونية لم تنجح بفضل امكاناتها الخاصة، ولا بفضل عبقرية قادتها، ولا بسبب أحلام اليهود في العودة الى "أرض الميعاد" وإنما نجحت لأسباب موضوعية خارجة عنها. منذ نشوئها، ترعرعت الحركة الصهيونية في أحضان الدول الاستعمارية، وتحديداً في بريطانيا التي كانت تهيمن آنذاك على العلاقات الدولية. وتحولت هذه الحركة من طابعها الروحي - الثقافي الى طابعها السياسي، أساساً، بدفع من القوى الاستعمارية وفي إطار صعود الرأسمالية الاستعمارية، وبتحفيز من النخب الغربية التي عرفت، في ما بعد، بمصطلح "الصهيونية اللايهودية" والتي برزت واضحة مع دعوة نابليون لليهود للاستيطان في فلسطين في اطار مشروعه للسيطرة على مصر وبلاد الشام، ثم ترعرعت في بريطانيا والمانيا والولاياتالمتحدة الأميركية. وقد جاء وعد بلفور، في ما بعد، ليضع أسس قيام اسرائيل برعاية خاصة من حاضنته "الأم" بريطانيا لدى انتدابها على فلسطين حيث نشأت المؤسسات التي مهدت لقيام الدولة العبرية، ومنحت "الوكالة اليهودية" الأراضي. وأصبحت بمثابة دولة داخل دولة فأنشأت المشاريع الاقتصادية، وأقامت أجهزتها الثقافية والعسكرية، ونظمت عملية الاستيطان. وبفضل وجود جيش الاحتلال البريطاني استطاعت هذه الحركة امتصاص واجهاض المقاومة الفلسطينية آنذاك في ظروف غير متكافئة أصلاً. وبعد انتهاء الانتداب البريطاني، كانت كل الأوضاع مهيأة لمجيء هذا المولود "غير الشرعي" والمصطنع. وقد قامت اسرائيل في حينه، بفضل دعم الدول الكبرى لها، وبوسائل القوة والإرهاب وليس بنتيجة التطور الطبيعي السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للتجمع الاستيطاني - اليهودي في فلسطين، هذا فضلاً عن أنها من الأساس قامت على حساب أهل الأرض الأصليين. وهذه حقيقة مهمة وأساسية ينبغي باستمرار التأكيد عليها، بخاصة في هذه الأيام، في مواجهة الادعاءات الإسرائيلية التي تحاول تصوير قيام اسرائيل على أنه نتيجة جهود حركة تحرر وطني للتجمع الاستيطاني الصهيوني في فلسطين، أثمر عملية الاستقلال عن الدولة الاستعمارية المنتدبة بريطانيا! ومن الناحية الثانية، كانت الظروف في المنطقة العربية مواتية لنجاح هذا المشروع. فالأقطار العربية كانت تقبع تحت السيطرة الاستعمارية التي ما كانت وحالها كذلك قادرة على مواجهة المشروع الصهيوني، خصوصاً بسبب أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الهشة، ولفقدانها الإرادة المستقلة والموحدة. وكان ثمة فارق كبير بين القدرات العربية الظاهرة وبين القدرة الصهيونية، لصالح هذه الأخيرة. فقد كانت ثمة فجوة "حضارية" بين الطرفين بسبب انتماء المشروع الصهيوني للغرب بكل جبروته وتقدمه السياسي والاقتصادي والعلمي والعسكري، لا سيما بعد خمسة قرون من الهيمنة العثمانية على المنطقة العربية. أما بالنسبة إلى السؤال الثاني وهو المتعلق بالمستقبل أو بمدى نجاح هذا المشروع بعد مرور نصف قرن على قيام اسرائيل بتحقيق المهمات المنوطة به لجهة قيام "وطن قومي لليهود في فلسطين". فإنه يمكن القول إن جزءاً مهماً من يهود العالم هاجر الى فلسطين. ولكن ما يسترعي الانتباه هو ان هذه الهجرة لم تأت بسبب جاذبية هذا المشروع، إذ لم يهاجر الى فلسطين قبل العام 1948 سوى بضع مئات الآلاف من يهود أوروبا، معظمهم هاجر اليها بسبب ظروف الحربين العالميتين الأولى والثانية وبسبب تقييد أعداد المهاجرين الذين فضلوا على الأغلب الهجرة الى الولاياتالمتحدة الأميركية، على الهجرة الى "أرض الميعاد". وجاءت موجات الهجرة التالية بعد قيام اسرائيل من الأقطار العربية، كما جاءت موجات الهجرة من الاتحاد السوفياتي السابق ودول أوروبا الشرقية. ومع ذلك فإن اسرائيل، حتى الآن، لم تستطع طوال هذه المرحلة الطويلة ان تجمع سوى 35 في المئة من يهود العالم 5،4 مليون من أصل 13 مليون يهودي بينما تضم الولاياتالمتحدة أكبر تجمع يهودي في العالم، معظمهم يتمركزون في ولاية نيويورك. وعليه يمكن القول إن إسرائيل لم تنجح تماماً في جلب يهود العالم إليها، كما أنها لم تنجح في تكريس ذاتها وطناً "قومياً" لهم، حتى أن الهوة باتت تتسع بين هذه الدولة ويهود الشتات، وظهر على خلفية ذلك التناقض الذي نشأ مع قيام اسرائيل بين "الهوية الإسرائيلية" أو "الأمة الإسرائيلية" وبين "الأمة اليهودية". وبدأت على خلفية ذلك تبرز مجموعة من الأسئلة التي تعكس التناقضات من نوع: هل أن اسرائيل مركز ليهود العالم أم أنها أحد مراكزهم؟ وكذلك السؤال حول الأمة الدينية اليهودية والأمة العلمانية الإسرائيلية وصولاً الى تعريف "من هو اليهودي"؟ وفي اسرائيل ذاتها ظهرت تناقضات عدة بين الإسرائيليين نتيجة اصولهم المتعددة والمتباينة، إذ أن عملية الانصهار المجتمعي والثقافي لهم باعتبارها عملية مصطنعة وفوقية لم تصل حتى الآن الى مستواها المطلوب لانتاج هوية واحدة، وبخاصة بسبب محاولة تغليب ثقافة اليهود "الأشكناز" المتحدرين من الدول الغربية على مختلف نواحي الحياة في اسرائيل، الأمر الذي استدعى النفور والمقاومة من قبل الطوائف اليهودية "السفاردية" الشرقية الأخرى، والتي كرست ذلك في أحزاب وتكتلات سياسية. وفي إسرائيل ذاتها، يبرز أيضاً على أشد ما يكون التناقض بين الطابع الديني للدولة والطابع العلماني لها. وهذا يقود الى سؤال الهوية والى تحديد علاقة اسرائيل التي يسيطر فيها التيار الديني "الأرثوذكسي" بيهود الشتات، الذين يميلون الى العلمانية والى التيارات الدينية الإصلاحية والمحافظة والتي لا يعترف التيار الأرثوذكسي بها، وهذه النقطة تشكل إحدى علامات التوتر بين يهود العالم وإسرائيل. ومن الناحية الاقتصادية، ظلت اسرائيل تعتمد على الدعم الخارجي لها من مختلف النواحي: المالية والاقتصادية والتكنولوجية، من المنظمات الصهيونية المنتشرة في أوساط التجمعات اليهودية في العالم أو من الدول الكبرى، وبخاصة المساعدات الأميركية، وهذه المساعدات المباشرة وغير المباشرة هي التي تمنح الاقتصاد الإسرائيلي قيمة مضافة، وهي التي تفسر التطور الاقتصادي الكبير في اسرائيل على رغم ان حجم الاستهلاك يفوق حجم الانتاج، وعلى رغم ان الموارد أقل بكثير من الانفاق، وقد بلغت حصة الفرد الاسرائيلي حوالى 1600-2000 دولار سنوياً من المساعدات الأميركية المباشرة وحدها. وهذا الدعم هو الذي يمكّن اسرائيل من تمويل العجز في ميزانها التجاري وفي موازنتها، وهو الذي يمول ارتفاع مستوى معيشة مواطنيها ويؤمن خدمات ممتازة لهم لترغيبهم في البقاء فيها، والتشجيع على الهجرة اليها. ومن الناحية الأمنية أخفقت اسرائيل الى حد ما في تقديم نفسها باعتبارها ملاذاً آمناً ليهود العالم، سواء بسبب الأوضاع الأمنية غير المستقرة فيها، أو بسبب صراعها مع محيطها، كذلك بسبب استقرار أوضاع التجمعات اليهودية في العالم. ومن ناحية أخرى لم تنجح اسرائيل تماماً باعتبار نفسها حارساً للمصالح الغربية وبخاصة الأميركية في المنطقة، وبدأت علامات الشك تحوم حول مدى قدرتها على القيام بهذه الوظيفة. وفي كلا الأمرين تكاد اسرائيل ان تصبح عبئاً على يهود العالم وعلى الدول الغربية، ومن هنا تنبع أهمية عملية التسوية لهذه الأطراف وهذا ما يفسر حماسها لها. أما التناقض الآخر الذي نشأ وبعد نصف قرن على قيام اسرائيل، فهو حول الانتماء الحضاري لإسرائيل بين انتمائها للغرب أو انتمائها للمنطقة، وكذلك حول مدى ارتباطها بالغرب بتحولها من دولة لذاتها أي لمواطنيها، ومدى امكان أن تحدد الدولة حدودها بعد أن استقرت أوضاعها السياسية والمجتمعية والاقتصادية. وهذا يعني ان تحسم اسرائيل خياراتها بين أن تبقى في إطار "غيتو" على شكل دولة "إسبارطية" في المنطقة، تتغذى على الهبات من الخارج وتحاول فرض نفسها وهيمنتها بواسطة القوة والإرهاب، وبين أن تتحول الى دولة عادية. والطريقان بالطبع يختلفان في نتائجهما على طبيعة اسرائيل وعلى علاقاتها الإقليمية والدولية، وعلى تعريفها لذاتها ولحدودها. أما التناقض الأخير الذي يمكننا الحديث عنه، فيتعلق بعدم قدرة الدولة العبرية على تهويد فلسطين باعتبارها "أرضاً بلا شعب". ففي هذا الركن المركزي من مرتكزات المشروع الصهيوني فشلت اسرائيل، فلا هي أصبحت دولة يهودية خالصة بفضل وجود مليون عربي فيها، ولا هي استطاعت تهويد باقي فلسطين الضفة وقطاع غزة بفضل وجود أكثر من مليوني فلسطيني، فضلاً عن صمودهم ومقاومتهم المستمرة للاحتلال ومحاولات التهويد. وعليه فإن اسرائيل تجد نفسها اليوم في اطار التساؤل حول حقيقة نظامها "الديموقراطي" الذي تقع عليه علامات الشك بالنظر لمقاومتها التحول لدولة "ثنائية القومية" أي دولة لكل مواطنيها بما يعنيه ذلك من استمرار نظام التمييز العنصري فيها ضد العرب. كذلك فإن استمرار احتلالها للأراضي المحتلة وعدم قدرتها على "هضم" هذه الأراضي ولا على التخلي عنها بسبب صمود الفلسطينيين ومقاومتهم لها، قد عمق من أزمة المشروع الصهيوني وخلق انقساماً واضحاً فيه على خلفية الموقف من استمرار الاحتلال وحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني. لذلك وجدت النخب السياسية الإسرائيلية نفسها حائرة بين عدم قدرتها على دوام الاحتلال من النواحي الأخلاقية والمادية والسياسية وبين التخلي عن المنطلقات التقليدية للصهيونية، وهذا ما يشكل الانقسام العمودي بين القوى السياسية في إسرائيل اليوم. تلك هي بالإجمال لوحة موجزة عن النجاحات والاخفاقات بعد قرن على تأسيس الحركة الصهيونية ونصف قرن على قيام اسرائيل ذاتها. ويمكن القول إن هذا المشروع سيظل، على رغم النجاحات التي حققها، يعيش اخفاقاته وتناقضاته. وهذه الاخفاقات والتناقضات، على رغم كل النجاحات الكبيرة الظاهرة، ستظل تطبع هذا المشروع بطابعها الى حين توافر الظروف الذاتية والموضوعية التي تسمح بإيجاد حلول لها من خلال حسم اسرائيل لخياراتها بتحولها لدولة عادية، ومن خلال نشوء الظروف الذاتية والموضوعية التي ترغمها على تحديد حدودها السياسية والجغرافية والاقتصادية والثقافية، أو من خلال نشوء ظروف اخرى تؤدي الى حل مجمل هذه التناقضات من خلال تقويض أسس الصهيونية الغيبية والعنصرية والعدوانية وقيام مسار من التطور يسمح بقيام دولة ديموقراطية علمانية في فلسطين في إطار النسيج العام للمنطقة وفي سياق تطورها ذاته. * كاتب سياسي فلسطيني