أنا من جيل رضع قضية فلسطين ولم يفطم عنها بعد، لكأنها طائرنا المعلق فوق رؤوسنا من المهد إلى اللحد، جيل أرادوا أن يقنعوه بإشتهاء الموت من أجل تراب فلسطين، وقضى العمر يقرأ ويستوعب ويبخر أحلى سنوات العمر في الخنادق، ويعطي آلاف الشهداء وآلافاً غيرهم ممن عادوا من جبهات القتال أحياءً ولكن مشوهين. وبعدما قرأت كتاب "مكان تحت الشمس" لنتانياهو وبعض الكتب الأخرى المفيدة، عرفت أنه أتى اليوم لمن يقول لهذا الجيل: لقد عشت عمرك كله تقرأ كتباً كاذبة وأفكاراً غير صحيحة، وتابعتَ ساسة خدعوك وفلاسفة ضحكوا على ذقنك وعقلك، وأفنيت عمرك في هراء، وها أنتذا على مشارف الشيخوخة تكتشف "الحقيقة"، وعليك أن تدرك أن تلك القضية لم تكن سوى نوع من المخدرات ولا بد أن تعالج نفسك من الإدمان. فالمشكلة ليست اغتصاب أرض ولا ترشيد الملايين، ولا هي عنصرية الباغي ولا هي منطق القوة ولا هي "من النيل للفرات أرضك يا اسرائىل"، المشلكة هي مرض الإدمان ! إذن، فالصهيونية ليست فكرة عنصرية توسعية، والعرب كل العرب لم يكونوا يدافعون عن قضية وإنما - كما قيل - عن سفاكي دماء وإرهابيين متخلفين. لم تكن أسلحة فاسدة إذن في أيدي جنود مصر العام 1948، وإنما كانت قضية فاسدة. وهكذا مات أحمد عبدالعزيز ورفاقه وكل من أتى بعدهم في كل "الحروب العدوانية" التي شنها العرب بلا سبب أو مبرر، سوى أنهم لم ينصتوا لصوت العقل والحكمة، لم يفهموا نداء السلام الذي أرسله هرتزل وحمله من بعده حاييم وايزمان وبن غوريون. وهكذا، باختصار، فإن العرب دخلاء على أرض الميعاد، حاولوا بحماقة أن يتحدوا الكتب المقدسة فحاقت بهم اللعنة وتاهوا في الأرض أربعين عاماً حتى ثابوا إلى رشدهم تائبين، واعتذروا عن خطاياهم وأبدوا الندم، فشملهم غفران بطول غزة/ أريحا!... ما هو موقع ذلك الجيل - جيلي - الذي ولد على مشارف نكبة 1948، واشتد عوده على إنتفاضة 1956، حتى انكسر بنكسة 1967 وبعدها قبع في الخنادق كي يحرز أول انتصار على الهزيمة في حرب الاستنزاف يعقبها بقفزة هائلة عبر بها حواجز كثيرة العام 1973. ثم يأتي العام 1998 ويوشك ربع قرن أن يمضي على تلك الوثبة الخاطفة الظافرة، ليتبين الجيل عبثية كل التواريخ السابقة، وبعدما شهد أربع حروب مع عدو، يكتشف - فجأة - أنه كان يستطيع منذ البداية أن يكتفي بالاعتراف بالأمر الواقع وكفى الله المؤمنين شر القتال؟ هل كانت فلسطين على الخريطة يوماً؟ هل هناك شعب فلسطيني؟ هل كانت المأساة تستحق فعلاً هذا العناء؟ وكل هذا الغناء؟ وكل هذا الفناء؟ أتذكر الآن آلاف الخطب الحماسية والأبواق النحاسية ووثائق ممهورة بالدماء، ورقيب فصيلتي رضوان في لحظة الاستشهاد ينظر نحوي بعينيه العسليتين قريراً راضياً، كأنه يؤكد لي قبل رحلته النهائية أنه أوفى بالقسم الذي أقسمناه بأن نحرر كامل التراب الوطني ونستعيد فلسطين... تُرى هل ستتذكر الأجيال المقبلة شيئاً من ذلك؟ قد يذكرون فقط أن جيلاً كاملاً، بسبب مصادفات تاريخية عجيبة، عاش غبياً ومات أكثر غباءً! إن فلسطين، وفقاً لمنطق "نتن ياهو"، لم تكن ضائعة أبداً، لأنها وفقاً للمنطق نفسه لم تكن موجودة أبداً، إذ انها مجرد خيال رومانتيكي لجيل أدمن المراهقة السياسية، لم يتحلَّ يوماً بواقعية الحكماء والجهابذة، فلسطين مثل امرأة طاغية الجمال والفتنة لم توجد إلا في خيالاتنا، فخبلتنا كما خبلت ليلى قيسها، وعندما أفقنا - متأخرين - اكتشفنا أن من ترقد في فراشنا سيدة قبيحة واقعية باركت زواجنا بها الكتب المقدسة، وتم زفافنا إليها في البيت الأبيض المعمور. ولكن جيلنا الأحمق كان قد غادر عمر الخصوبة ولم يبقَ لديه سوى الإغراق في أحلام اليقظة محلقاً خلف فتنة صباه التي أسماها "فلسطين". هل من سبيل الى توبة نصوح؟! ما أصعب أن يقف المرء على شفا شيخوخته كي يعتذر عما مضى من سنوات عمره، ويملأه الخجل ويعتريه الأسى والندم كلما تذكر حماقاته وزلاته، لا يبقى لهذا الإنسان سوى أن يتوارى، يقطع لسانه، يفقأ عينيه، يسكب على ذاكرته حامض الكبريتيك... ولكن كيف يمكن إخفاء كتلة زمنية بحجم جيل كامل؟ حتى مع افتراض تمزيق صفحات كتب التاريخ والأناشيد والصحف والمجلات وبرامج الحكومات المتتالية ومستندات المنظمات الدولية... ألن يتبقى ولو مجنون واحد يواصل تلك الترهات القديمة ويحكي عن ذلك الزمن المفقود؟ كيف يمكن إخفاء مئات الآلاف من جثث الشهداء، أو إقناع اليتامى بأن آباءهم مجرد حفنة من السذج البلهاء؟ المأساة ليست الصلح من اسرائيل، وإنما أن نتصالح من انفسنا، ولن يتحقق ذلك إلا بأن نقوم بعملية اعتراف جماعي يشبه الانتحار الجماعي، نقر فيه بأننا لا نستحق الشفقة ولا الرثاء، لأننا لم نخدع سوى أنفسنا، وأتعبنا معنا العالم بسبب تحجرنا وتخلفنا، وما كان أجدر بنا أن نترك الأمور تجري في أعنتها، فكل شيء يا أسياد يجري بمقدار، وهذا ما يقوله العقلاء لنا الآن، ويؤكده "نتن ياهو". يقولون ألم نقل لكم؟ لو قبلتم تقسيم 1948 لما عانيتم من 1956، ولو قبلتم واقعية 1967 لما ملأتم السهل والجبل بجثثكم في 1973، ولو قبلتم سلام 1979 لكان لكم ما هو أكثر من غزة وأريحا، فكان من الممكن ان يضاف اليها شارع أو شارعان! لكنكم أصحاب الفرص الضائعة، تفضلون الموت من أجل شعارات وكلام لا يغني ولا يسمن، رحم الله موشي دايان، قالها لكم عشية نكسة 67 حين جلس قرب الهاتف قائلاً إن العرب يعرفون رقمه، لكنكم قطعتم السلك الممدود وتزاحمتم كالقطيع حول سيارة ناصر في الخرطوم تهتفون له وتفرحون بما قالته وكالات الانباء عن أول قائد منهزم تحمله الجماهير على الأعناق! لقد خطب بن غوريون ودّكم، وغازلتكم غولدا، إلا أنكم فضلتم تلك الفاتنة المجهولة التي اسمها فلسطين ولم تفهموا إشارة نزار قباني حين قال في قصيدته: "ما أصعب أن تهوى امرأة، يا ولدي، ليس لها عنوان"... خيبكم الله من جيل ستضحك على خيبته الأجيال. طبقاً لكتاب "نتن ياهو" هناك مصطلحات جديدة: فهو يريد منا أولاً وقبل كل شيء أن نسمي الأشياء بمسمياتها، فمثلاً منظمة التحرير الفلسطينية يجب أن يصبح أسمها "منظمة التحريات الفلسطينية" كي يتناسب مع دورها الجديد في المحافظة على الأمن في غزة وأريحا، أما "العدو" الإسرائيلي فيجب أن نعيد كتابة تاريخه بما يستدعي بعض التعديلات الطفيفة في الكتب المقدسة ولا بأس من تعديلات أخرى في بعض الرؤوس المتحجرة، أما تعريف "السلام" فلا يزيد على أنه "ما باليد حيلة"، وبالنسبة الى الحرب فهي اختراع لغير جنس العرب، وفلسطين تدخل على الفور في بعض قوائم المواد المخدرة الممنوع منعاً باتاً الاتجار بها أو مجرد حملها أو تعاطيها. أما النشيد الوطني لجيلنا السعيد فهو: "أنا من ضيع في الأوهام عمره"، ويبقى لمفهوم الأمن العربي معناه الجديد الذي يتلخص في أنه "قضي الأمر، ولله الأمر من قبل ومن بعد". وعلى من يتهم "نتن ياهو" أن يأتي ببرهانه، والحمد الله الذي وهبنا نعمة الإدراك قبل فوات الأوان، وإلا فليقل أحد أين هم الهنود الحمر؟ أو كيف سيكون مصير أهل البوسنة والهرسك؟ أو حتى أولئك البلهاء في "ناغورنو قره باخ"... ها هو النظام الدولي الجديد يفرك عينيه، فلا يرى على خرائطه بقعة تُدعى فلسطين، أو ما يسمى وطناً عربياً، كل ما هنالك - طبقا للنتن ياهو - هو مجموعة من آبار النفط وقطعان من الأبل والأغنام والحمير، وقبائل منقسمة مثل "الهوتو" و"التوتسي"، وبعض المجانين على شاكلة "أبو المعارك" و"أم المعارك" وأولئك الذين يجمعون نوى التمر كي يدخلوا العصر "النووي"، ومن يقرأون في حلقات الدرس بجد واجتهاد "عذاب القبر" كي يعرفوا عذاب أعداءهم بعد عمر طويل... وبلل الله تربة من قال: تعبٌ كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد..