بدت الأحداث الأخيرة في قبرص لكثير من المراقبين وكأنها حلقة جديدة من السلسلة المعتادة من الأزمات بين تركيا واليونان، "الحليفين اللدودين" في حلف شمال الأطلسي. وفاجأت اليونان الجميع أخيرا بإرسال أربع طائرات مقاتلة من طراز "اف - 16" وطائرة شحن عسكرية "سي - 130" الى قاعدة جوية انشئت حديثا قرب بافوس في الشطر اليوناني من الجزيرة المقسمة. وردت أنقره فوراً بإرسال ست طائرات "اف - 16" الى مطار في شمال قبرص الواقعة تحت سيطرة تركيا. وبعد ذلك، تبارى الطرفان في التصعيد الكلامي بتحذيرات شديدة اللهجة من أنقره ورسائل من أثينا الى الأممالمتحدة. وانتهت الأزمة كالعادة بعدما استنزف الطرفان غضبهما، وتدخلت الولاياتالمتحدة لوقف النزاع وأرسلت حاملة الطائرات "ايزنهاور" الى المنطقة. انه السيناريو المعهود في العلاقات بين البلدين، مع الفرق في التفاصيل طبعاً. والتوتر لا يقتصر على قبرص فقط بل يشمل أيضا المجال الجوي في بحر إيجه وعدد من الجزر هناك، حيث يبدو دوما ان التصعيد سيوصل الطرفين الى الحرب. ثم تنقشع الأزمة فجأة مثلما بدأت. لكن المواجهة الأخيرة تأتي في سياق مختلف يعطيها بعداً آخر، ما يدفع كثيرين من الأتراك، وبينهم عسكريون رفيعو المستوى، الى الاعتقاد بأن وصول الطائرات اليونانية في الوقت الذي يتصاعد فيه التوتر بسبب قرب تسلم قبرص بطاريات صواريخ "اس - 300" المضادة للجو، يأتي ضمن استراتيجية يونانية لإثارة الحرب في بحر إيجة. ويعتبر هؤلاء ان اليونان تفترض ان الحرب ستكون "محدودة" لأن حلف الأطلسي سيتدخل بقوة لوقفها وتضطر تركيا تحت ضغوط من الحلف والاتحاد الأوروبي الى تقديم تنازلات في ما يخص قبرص. الأهداف بتفصيل اكثر، هي تجريد تركيا من صفتها دولة ضامنة لوضع الجزيرة واجبارها على سحب قواتها المرابطة في الشمال منذ التدخل العسكري التركي هناك في 1974، والموافقة على نشر قوات لحفظ السلام من حلف الأطلسي بدل قوات الأممالمتحدة التي اثبتت عجزها. وتفترض اليونان، حسب وجهة النظر التركية هذه، ان عضويتها في الاتحاد الأوروبي وقرب قبول القبارصة اليونان في الاتحاد، سيضمنان لها تحقيق أهدافها، رغم الخسائر البشرية والمادية التي لا بد ان ترافق الحرب. افتراض وجود هذه الاستراتيجية اليونانية يقود الطرف التركي الى مراجعة سياسته تجاه قبرص. فالموقف التركي، رسميا على الأقل، هو ترك المشكلة القبرصية للحل على يد الطرفين المباشرين، أي القبارصة اليونانيين والأتراك. واذا كانت تركيا تدعم جمهورية شمال قبرص التركية فهي في الوقت نفسه، تلتزم جهود التسوية التي تبذلها الأممالمتحدة وأميركا، على رغم تعثر هذه الجهود حتى الآن. لكن تركيا تأمل من خلال ذلك بأن تعترف الأسرة الدولية بقبرص جزيرة مقسمة، وبأن لا تغيير في هذا الوضع إلا من خلال تنازل شامل من الطرف القبرصي اليوناني. التسوية التي تركز عليها تركيا و"جمهورية شمال قبرص" واقتنعت بها الأطراف الأخرى في النهاية، هي إقامة "جمهورية قبرص الفيديرالية ذات الكيانين"، حيث يتوافر الأمن لكل من الجاليتين في الشطر الخاص بها، مع مشاركة في السلطة على المستوى الفيديرالي. كما تصر تركيا على الاحتفاظ بپ"آلية الضمانات" التي نص عليها اتفاقا لندن وزوريخ في 1959، باعتبارها عنصراً أساسيا في التسوية السلمية. وتعطي الآلية تركيا واليونان وبريطانيا حق التدخل حفاظا على استقلال الجزيرة. واستندت تركيا على هذه الآلية عندما غزت قبرص في 1974 لمنع ضمها الى اليونان بعد الانقلاب الذي حرضت عليه اثينا في الجزيرة. وترى بريطانيا واليونان ان حقهما في التدخل لا يتجاوز ان يكون نظريا، مقارنة بقدرة تركيا الفعلية على ذلك بسبب قربها من الجزيرة نحو 60 كلم. وتطالب لندنوأثينا بتعديل في الآلية يلغي الميزة التي تتمتع بها تركيا. ومع اتضاح أطر التسوية فإن القضايا مدار النقاش هي مساحة القطاع القبرصي التركي وحجم القوات التركية في قبرص وحرية التنقل والسكن في الجزيرة. وتقاوم تركيا المطلب الأخير خوفا من عودة جماعية للقبارصة اليونانيين الى المناطق التي هجروها في 1974. ومما يضفي بعداً جديداً على الموقف، هو محادثات انضمام قبرص الى الاتحاد الأوروبي، وقدرة اليونان، بفضل حقها في الفيتو داخل الاتحاد، على الاستمرار في إبعاد تركيا عنه، والبروز المتسارع لاتحاد غرب أوروبا كذراع عسكرية للاتحاد الأوروبي مع تراجع دور حلف الأطلسي مع انتهاء الحرب الباردة وهو ما يقلل من أهمية تركيا الاستراتيجية بالنسبة لأوروبا. ويدفع كل هذا تركيا الى النظر الى قبرص من زاوية جديدة. ذلك ان دخول قبرص اليونانية الى السوق الأوروبية يحول القضية الى مواجهة بين تركيا والقبارصة الأتراك من جهة، والاتحاد الأوروبي من جهة ثانية. ورغم تأكيدات شفهية من مسؤولي الاتحاد أن قبرص لن تحصل على العضوية قبل تسوية المشكلة فلا يمكن لأنقره ان تعتبر هذا ضمانا كاملا، خصوصا أن سيناريو "الحرب المحدودة" يقوم على الاعتقاد بأن اليونان ستحاول جر تركيا الى مواجهة مع الاتحاد الأوروبي. وترى أنقره ان انضمام قبرص اليونانية الى الاتحاد الأوروبي يعني فعليا الانضمام الى اليونان، وأن تكديس السلاح وانشاء قواعد لسلاح الجو اليوناني في الجزيرة، يشكلان تهديداً يتجاوز القبارصة الأتراك ليطاول تركيا نفسها. وهو ما يكرر المسؤولون الأتراك تأكيده. وكان رد فعل أنقره توقيع اتفاق مع "جمهورية شمال قبرص" للمزيد من التقارب على الصعد الدفاعية والاقتصادية والسياسية. وحذرت تركيا من ان محادثات انضمام قبرص اليونانية الى الاتحاد الأوروبي، ستطلق التقدم نحو مستوىات أعلى من الدمج متوازية مع مستويات الدمج بين قبرص اليونانية والاتحاد. والتطور الآخر في موقف تركيا التفاوضي، هو الإصرار على الاعتراف بپ"جمهورية شمال قبرص" دولة مستقلة قبل ان توافق هذه على الانضمام الى الفيديرالية القبرصية المقترحة، الأمر الذي ترفضه اليونان في شكل قاطع، مشيرة الى انها رفضت الطلب الأول، وهو الاعتراف بپ"الوضع السياسي المتساوي" بين القبرصيين. ولرئيس جمهورية شمال قبرص رؤوف دنكطاش حجة قوية في ذلك تدعمها تركيا: "الحكومة القبرصية اليونانية ترى نفسها الممثل الوحيد للجزيرة وتعتبرنا مجرد أقلية. لكن الدول الفيديرالية تقوم على أساس المساواة في الحقوق بين الأطراف. اذاً كيف يمكن إقامة فيديرالية مع مجرد اقلية؟". وتسارع التطورات في القضية القبرصية والقلق من اندلاع مواجهة مسلحة، دفعا حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي والولاياتالمتحدة الى العمل على السيطرة على الموقف. واقنع الأمين العام للاطلسي خافيير سولانا تركيا واليونان الشهر الماضي بالاتفاق على عدد من اجراءات بناء الثقة في بحر إيجة. ولم تخف واشنطن انزعاجها من رفض الاتحاد الأوروبي ترشيح تركيا للعضوية، في الوقت الذي بدأت محادثات انضمام قبرص اليونانية. وأدى القلق من التصعيد الى ظهور العلامات الأولى للتراجع عن التسليم المطلق بحق حكومة قبرص اليونانية في تمثيل كل الجزيرة. وكان وزير خارجية ايطاليا البرتو ديني اعطى تصريحا بهذا الاتجاه السنة الماضية ثم تراجع عنه تحت ضغط من اليونان. الا ان الوسيط الأميركي في شأن قبرص ريتشارد هولبروك، الذي فشل الشهر الماضي في التوصل الى اتفاق مشابه للذي عقده في دايتون بين اطراف يوغوسلافيا السابقة، أشار الشهر الماضي الى ان حكومة قبرص اليونانية لا تملك حق الإدعاء بأنها تمثل القبارصة الأتراك. ورغم تحميل هولبروك لدنكطاش مسؤولية فشل المفاوضات، ارتاح الطرف التركي الى اختيار واشنطن عدم تصعيد الضغط على أنقره. وللولايات المتحدة دوافع استراتيجية قوية للتعامل بحذر مع تركيا، اذ انها تريد لها ارتباطا قويا بالغرب في وقت يشهد الشرق الأوسط ومنطقة البلقان وآسيا الوسطى توترا متصاعدا. ورغم ان هذا البعد الاستراتيجي لا يعني كثيرا للاتحاد الأوروبي فإن الأخير لا يريد الدخول في خلاف مع اميركا على القضية، كما انه يرى خطر تحول أي "حرب محدودة" بين الطرفين الى حرب شاملة. وهذا الخطر الذي قد يقود الى ابتعاد تركيا عن الغرب بسبب مغامرة تقرر اليونان خوضها، هو أخشى ما يخشاه صانعو القرار السياسي الأميركي، خصوصا في هذا الوقت الذي يجدون فيه صعوبة في إدامة سياسة "الاحتواء المزدوج" للعراق وايران