مرّ مئة يوم على تحمل عبدالرحمن اليوسفي مسؤولية رئاسة الحكومة المغربية التي تشكلت يوم 14 آذار مارس الماضي. واعتبر المراقبون والسياسيون ما حصل تجربة تستحق المتابعة والفهم، وكتب عنها الكثير في المغرب والعالم العربي وفي الخارج بحكم الابعاد السياسية والرمزية التي اكتسبها اللقاء بين المؤسسة الملكية وأحد زعماء الحركة الوطنية بعد عقود من الخلافات على طبيعة الدولة واختياراتها الكبرى، وبسبب الاوضاع الداخلية والاقليمية والدولية التي حصل فيها هذا الاتفاق. واعتبر اكث رالمعقلين، سواء من صفق للتجربة من دون فهم حقيقي لظروف تكوينها، او عرف الخلفيات العميقة التي تتحكم في الحقل السياسي المغربي، او من انتقد هذا التحول السياسي لأن التناوب في المغرب، كما تم الاعلان عنه، لا يتوفر على الشروط السياسية الحقيقية لكي يكون تناوباً يستجيب لمنطق سياسي مؤسسي عصري. كيف يمكن الحديث عن هذه التجربة بعد مرور مئة يوم على الشروع فيها؟ هل شهدت هذه الأيام قرارات واجراءات وتحركات تفيد ان الحكومة الجديدة قطعت مع اساليب التدبير المعتادة، وأرسلت اشارات يفهم من خلالها ان عهدا سياسياً جديدا دخله المغرب؟ ام ان مئة يوم ما زالت غير كافية لتقويم اداة هذه الحكومة التي جعلت من شعار "التغيير" عنواناً لسياستها؟ يفترض الجواب عن الاسئلة الاشارة الى مجموعة اعتبارات لها دور محدد في الحياة السياسية المغربية، اولها ان الحديث عن تقديم حصيلة المئة يوم الأولى من التجربة يستدعي التساؤل عن اهمية عامل الزمن في الاستثمار السياسي، ذلك ان الطبقة السياسية اضاعت ست سنين في المفاوضات والمشاورات والأخذ والرد لكي تقبل احزاب المعارضة السابقة بشروط للمشاركة اقل بكثير من تلك التي توافرت لها سنة 1993، لذلك يبدو الحكم على الفترة الأولى من عمر حكومة اليوسفي غير مهم قياساً الى الشهور والسنوات التي ضاعت في المساومات. قد يقال بأن هذا الاعتبار يعود الى الماضي في حين ان التجربة قائمة وعلينا التعامل معها في حاضرها وفي ما تحمله من آفاق مستقبلية. يبدو اعتراض من هذا القبيل وارداً شريطة الاهتمام بمسألة اساسية تنقلنا مباشرة الى الاعتبار الثاني المحدد للشأن السياسي المغربي، والمتمثل في آليات اتخاذ القرار. اذ كان عبدالرحمن اليوسفي قبل بتحمل المسؤولية التنفيذية، فذلك يفترض قبوله المبدئي الدخول في نوع من "الشراكة السياسية" مع قوى اخرى لها نفوذ وازن في عملية صنع القرار، وأحزاب الكتلة، المشاركة في الحكومة الحالية تعرف بالتجربة ان المسألة الديموقراطية في المغرب، فضلاً عن المشاكل المرتبطة بظروف اجراء الانتخابات، يتحدد مضمونها وصدقيتها في الجهة التي عليها اتخاذ القرارات الفعلية، لذلك طالبت بصلاحيات واسعة لمؤسسة الوزير الأول، وبفصل عملي للسلطات، بناء على برنامج تتقدم به الحكومة الى البرلمان وتحاسب عليه امام الرأي العام، هذا من الناحية المبدئية، اما على صعيد التطبيق، فان قبول اليوسفي التعايش مع احزاب كان، في الأمس القريب، يطعن في شرعيتها ويعتبرها ادوات في يد اجهزة ذات مصالح كبرى في البلد، معناه الانخراط في معمعة التفاوض الدائم كلما تعلق الامر بقرار مهم. فحكومته مشكلة من سبعة احزاب، اضافة الى اربعة وزراء ورثهم من الحكومة السابقة، وفي طليعتهم وزير الدولة للشؤون الداخلية. وبينت اشارات عدة طوال المئة يوم، كيف يولي اليوسفي اهمية خاصة للجوانب الرمزية في معالجته لبعض الملفات والقضايا، سيما وانه يراهن على مسألة الثقة بين احزاب الكتلة والعاهل المغربي في انجاح هذه التجربة السياسية والتحضير لأطر مؤسسية مستقبلية تدمج فيها نخب جديدة قادرة على المسؤولية والتدبير لانقاذ المغرب من وضعيته الاجتماعية المزرية. يضاف الى ذلك اعتبار آخر من طبيعة موضوعية يتمثل في كون حكومة اليوسفي تحملت مسؤولياتها التنفيذية اعتماداً على برامج ومعطيات قررتها الحكومة السابقة عليها من خلال قانون المالية الذي ينتهي العمل به نهاية الشهر الجاري. فحتى لو اتخذت قرارات لتطبيق بعض ما جاء في مشروعها الحكومي طوال هذه المدة، فانها تفتقر الى الوسائل الكفيلة بتحقيقها، بل ان اعضاء الحكومة استثمروا جهداً كبيراً، نظراً لعددهم الكبير 41 وزيراً، بينهم 12 وزير منتدب وكاتب دولة جديد لتنظيم وزاراتهم وانتزاع صلاحياتهم ووضع موازنات وزاراتهم ومواجهة العادات القديمة للأطر المتنفذة في الوزارات... الخ. لذلك يبدو الحكم على حصيلة الفترة الأولى من عمر هذه الحكومة سابق لأوانه الى حد ما، اللهم الا اذا ما استند المرء في ذلك الى "اعلان المبادئ" الذي جاء في "التصريح الحكومي" يوم 17 نيسان ابريل امام البرلمان، او الى العرض التمهيدي الذي قدمه وزير التنمية الاجتماعية والشغل والتكوين المهني لندوته الصحافية في مناسبة أول أيار مايو، او الاشارات التي وردت على لسان وزير المالية في اجتماعاته مع ارباب العمل وأرباب المصارف، او الى الخطب التي القاها وزراء في مناسبة مؤتمرات وندوات وفي اجوبتهم عن الاسئلة الشفوية في البرلمان. ثمة اشارات متعددة تبين حسن النية، منها ما يتعلق بتصريح الوزراء والمسؤولين الكبار بممتلكاتهم، وهو قرار ينتظر الناس تطبيقه، نظراً لما هو معروف في التجارب السابقة من الاثراء غير المشروع والاستفادة من الصفقات العمومية واستغلال النفوذ... الخ. كما اصدر الوزير الأول قراراً بمنع الوزراء من مراكمة المسؤوليات العمومية والتعاون مع مؤسسات القطاع الخاص، وتم الاعلان عن انشاء "صندوق التنمية الاجتماعية" لتدبير العمل الاجتماعي بطريقة مختلفة، والتأكيد على مبدأ "التأمين للجميع" وهو شعار كانت الحكومة رفعته في السابق، و"صندوق الزكاة" لتحسين الاوضاع الاجتماعية للأسر المتضررة من التفاوت الاجتماعي الصارخ، و"صندوق للبحث العلمي"... الخ وتطلعات عدة جاءت في الخطاب الحكومي امام البرلمان. والسؤال كيف يمكن الجمع بين المحافظة على ما يسمى بالتوازنات المالية وبين تدبير الخصائص الاجتماعية والثقافية الذي تعرفه البلاد؟ لا شك في ان الحكومة الائتلافية الحالية ورثت تركة ثقيلة من المشاكل والمصاعب التي تراكمت طوال عقود، ويمثل اعضاءها في واقع الأمر، مصالح متضاربة. وعلى رغم المظاهر يعاني الائتلاف الحكومي الذي يرأسه اليوسفي من مشكلة هوية سياسية. من الاحزاب المشاركة في الحكومة، وعلى رأسها حزب الاستقلال، من يرى صعوبة نعت هذا الائتلاف بأنه يكون حكومة تناوب، لأن نتائج الانتخابات لم تمنح لأحزاب الكتلة سوى الثلث، وأظهرت طريقة تشكيل الحكومة ان الشروط السياسية للتناوب غير متوافرة، فكيف اذن بالوسع اعطاء مضمون لهذه التجربة السياسية في الوقت الذي تتميز فيه كل المؤسسات الوطنية بهشاشة مثيرة. فالنسيج الاقتصادي مفكك، والتفاوت الاجتماعي يتفاقم، ونظام التعليم في مأزق حقيقي، والفساد يعم المؤسسات، والشرائح المتوسطة يزداد تفقيرها، ونسبة الأمية لا تشرف احداً، والموارد في نقصان مستمر... الخ. وهذه حقائق لا احد يجادل فيها، الا ان ارادة الاصلاح او التغيير التي تتطلع اليها حكومة اليوسفي تبدو وكأنها تواجه صعوبات مرتبطة بضغوط منبثقة من داخلها، اذ تجد مؤسسة الوزير الأول نفسها ملزمة على التفاوض، في كل مرة، حول اعلان المبادئ الطموحة التي جاءت في الخطاب امام البرلمان، وذلك قصد تدبير الهشاشة المؤسسية للبلد في الاقتصاد والاجتماع والثقافة وحتى في السياسة. لذلك يبدو من المشروع السؤال عن قدرة الحكومة على اقتراح نمط تنموي يناسب حجم المشاكل الكبرى التي يعرفها المغرب. لا يتعلق الأمر بأن يكون المرء متشائماً او متفائلاً، وإنما بطرح الاسئلة الحقيقية ولو كانت تتضمن نسبة من الانزعاج. وما يشير الانتباه طوال الفترة الأولى من عمر الحكومة هو ان كل شيء بقي على ما هو عليه، تتحرك الطبقة السياسية هنا وهناك، وتظهر من خلال وسائل الاعلام، لكن لا شيء جديداً على صعيد اتباع نهج الشفافية ومصارحة الرأي العام. والكل ينتظر قانون المالية، لأنه سيمثل المرجع الفعلي لقياس صدقية النوايا المعلنة في التصريح الحكومي امام البرلمان. حتى وان نعت هذا القانون بكونه "انتقالياً" فان الناس التي عقدت آمالاً كبيرة على الحكومة في حاجة الى افق والى معرفة الطرق التي سيتبعها المسؤولون الجدد لتطبيق مبادئ "ميثاق التغيير" و"حسن التدبير". تنتمي الى هذه الحكومة نخبة محسوبة على عالم البحث والثقافة والتواصل، اي ان الامكانات الفكرية والعلمية متوافرة في هذه التجربة، الا ان المئة يوم الأولى - التي يصعب تقييمها للأسباب التي ذكرناها - شهدت تحركات ومواقف لوزراء لا تظهر انها مشجعة، بل يذهب بعضها في الاتجاه المعاكس تماماً لميثاق التغيير او للارادة التي عبر عنها اليوسفي لارساء ثقافة سياسية جديدة، تعتمد الشفافية والحرية والمواطنة والكفاءة والابداع. فالحزبية تظهر وكأنها تمثل تحدياً فعلياً يكشف عن التناقض بين الخطب المنمقة ورهانات اتخاذ القرار