بدا المشهد السياسي المغربي بعد انتخابات 14 تشرين الثاني نوفمبر 1997 وكأنه يعيش "دوخة" فعلية. اذ ارتبكت ارادة الفهم أمام عبثية الوقائع. وتساءلت أكثر من جهة: كيف يمكن لبلد ان يسمح لنفسه، في الوقت الراهن، بإضاعة فرصة أخرى، بعد ان راكم ما راكمه من تأخر تاريخي في الاقتصاد والاجتماع والوعي؟ هل السنوات الأربع التي تفصل النخب السياسية عن مداولات "التناوب التوافقي الممنوح" 1993 وأفضت الى طريق مسدود، لم تكن كافية لانجاز تصالح تاريخي مع الذات ومع العالم؟ كيف يعقل ان تقدم أحوال المغرب، بشكل دراماتيكي، من خلال تقرير للبنك الدولي، وتصر الآلة السياسية على اعادة انتاج الآليات المولدة لنفس الأسباب التي دعت معظم الأطراف الداخلية والخارجية الى تجاوزها؟ كان ثمة احساس قوي لدى المرء، امام ما جرى، باستحضار بعض الوقفات المضيئة التي عبر عنها السيد عبدالله ابراهيم في سياق قراءاته للتاريخ السياسي المغربي، لقد وجهت لهذا الرجل كل النعوت لما رفض الانخراط في المسلسلات الانتخابية منذ الستينات الى الآن، نعت بپ"السلبية" و"الانهزامية" و"الرومانسية" و"بتغليب النزعة الثقافية عن الواقعية السياسية"... الخ وهو الذي خبر شؤون السياسة ضد الاستعمار، وجرب تدبير الاحوال العامة كرئيس للوزراء 1958 - 1960، لاحظ الرجل في مقدمته لكتاب "نداء الحرية، بين المغرب العميق والمغرب الجديد" ان "المجتمع الذي لا يستطيع ان يرتفع، بمجموعه، الى مستوى القدرة الذاتية على ان يتمثل تجربته الوطنية المشتركة، فيتموضع فيها، وتنعكس أهدافها في حساسية أفراده وإدراكهم العام لا يستطيع بالتالي ان يستفيد من تلك التجربة في تقييماته ورؤاه". ثم يضيف متسائلاً، من ناحية اخرى، "أفيكون التعثر في شروطنا السياسية الراهنة، والتردي في أوضاعنا الاجتماعية، هو الغرامة التي نؤدي ثمنها الآن، في ظل الاستقلال لغياب عامل التزامن، فيما مضى، ومنذ البداية، بين وقع الصدمتين معاً، في الوعي الوطني العام؟" ويقصد بالصدمتين "صدمة الغرب" و"صدمة الاستعمار". ذلك ان الاستاذ عبدالله ابراهيم يميز في نصوصه، بقوة، بين الغرب والاستعمار، على اعتبار ان المغرب منع من الاحتكاك بالغرب كمرجعية ثقافية وحضارية وتم التشويش على التفاعل الخصب معه، في حين أصيب باستعمار نهج كل أساليب العنف لخلخلة الشخصية الوطنية واخضاعها لإرادة القوة الاستعمارية. هل ما حصل في 14 تشرين الثاني نوفمبر فصل من فصول التعثر الذي يتحدث عنه عبدالله ابراهيم أم انه تعبير عن سوء تفاهم سياسي شوش على العملية الانتخابية وأنتج ما تمخض عنه اقتراع هذا اليوم؟ أسئلة كثيرة فرضت ذاتها على المراقب لتطورات الاحوال السياسية في المغرب، سيما وان الحملات الدعائية، على تواضعها، لم يشهد التاريخ السياسي المغربي المعاصر نظيراً لها من حيث توظيف شعارات الاصلاح والتغيير والتطهير والتنظيم والعقلنة والتحديث والعدالة... الخ. ولأن محاولة التناوب لسنة 1993 لم تستوف شروط تحققها، رفع شعار الاصلاحات الدستورية والسياسية من طرف الجميع على قاعدة التوافق والتراضي والحوار، تم تدشينه بتوقيع بروتوكول اتفاق بين السلطات العمومية والمركزيات الثقافية وأرباب العمل، ثلته الموافقة شبه الاجماعية على الدستور الجديد ايلول/ سبتمبر 1996 وتم تتويج كل ذلك بالتوقيع على ما نعت ب "التصريح المشترك" شباط/ فبراير 1997 بين السلطات العمومية والاحزاب السياسية، بالالتزام بميثاق الشرف، واحترام قواعد التنافس الديموقراطي، اعتبر الجميع ان الأمور لا شك ستفضي الى إحداث نوع من التغيير في المشهد السياسي المغربي. غير ان الانتخابات البلدية والقروية يوم 13 حزيران يونيو 1997 عرفت تجاوزات كثيرة لمبادئ التصريح ونزلت قوى مختلفة، بنفوذها وأموالها، لتوجيه المسار الانتخابي لخدمة مخطط محدد، ما دفع بالعاهل المغربي يوم 20 آب اغسطس الى استنكار إرادة تشويه سمعة البلاد من طرف من يستغلون فقر الناس وشراء الذمم بالاموال. ومع ذلك بقيت الآمال معلقة على الانتخابات التشريعية التي ستنبثق من أغلبيتها الحكومة المقبلة من الناحية الدستورية. وتحركت الآلة الانتخابية للاحزاب السياسية الكبيرة والصغيرة، القديمة والحديثة، ضمن مناخ نفسي يطغى علىه الشعور بأن البلاد مقبلة على حدث سياسي جديد. ليس أقله منح ما يلزم من المقاعد لاحزاب المعارضة لتجريب برنامج الانقاذ الوطني الذي خاضت الحملة السياسية على اساسه. فكان ما كان يوم 14 تشرين الثاني من مفاجآت. وقبل الدخول في إبراز عناصر ما جرى لا بد من الاشارة الى عامل له أهمية خاصة في التاريخ المغربي الحديث. وهو ان المحطات السياسية الكبرى لا تنظمها بالضرورة، اعتبارات قانونية أو نصوص تشريعية. فهذه النصوص لا يعدمها المغرب، بل ما يمنح لهذه المحطات مضامينها السياسية هو الحوار والانصات المتبادل بين الفاعلين السياسيين. فالمغرب يحوز ترسانة كبيرة من القوانين والتشريعات، وهو متأثر في ذلك بالتقليد الفرنسي، لكن وضع النص شيء والالتزام به على أرض الواقع شيء آخر. لذلك فإن النظر الى ما جرى يصعب اختزاله في اعتبارات قانونية أو التعويل على القانون لحل بعض مضاعفاته. لأن الأمر بدا وكأنه يتعلق بإرادة لترتيب خريطة سياسية شوشت على كل التوقعات، والحكم على ما حدث يفترض الوقوف عند الحيثيات السياسية الدقيقة التي أثرت في عملية توزيع المقاعد وتحديد النسب. وعلى رغم حملات الدعاية لتحسيس الناس بأهمية اقتراع 14 تشرين الثاني وتشجيعهم على سحب بطائقهم والمشاركة في الإدلاء بأصواتهم، فإن نسبة المشاركة لم تصل الى 50 في المئة، فضلاً عما ينيف عن مليون صوت ملغى. وهو ما يمثل مؤشراً ذا دلالة في سياق تطور السلوك الانتخابي للمواطن المغربي وموقفه من التجربة الانتخابية. بل ان نمط تسيير الحملة الانتخابية، وطريقة استعمال المجال السمعي البصري من طرف الاحزاب المختلفة لتقديم برامجها ومشاريعها، والنتائج غير المتوقعة المحصل عليها يمكن ان تزج، بفئات جديدة في مواقف العزوف عن السياسة والعمل الانتخابي. واعتباراً لما تقدم يمكن القول: أولاً، ان الحركية الخاصة التي شهدها الحقل السياسي المغربي منذ بداية التسعينات، قصد توفير شروط شراكة سياسية بين الفاعلين السياسيين في مجال تدبير شؤون البلاد، تبدو - أي هذه الحركية - وكأنها اتكأت على قواعد هشة، وتظهر نتائج يوم 14 تشرين الثاني ان غلطاً ما وقع في طرق الحوار وخللاً اعتور آليات تسييره. واذا كانت بعض احزاب المعارضة طالبت، باستمرار، بوضع أطر مؤسسية واضحة للمساهمة في انجاز اصلاحات سياسية، فإن قبولها بالالتجاء الى مرجعيات غير مؤسسية زج بها في "متاهات" افقدت مطالبها ومواقفها كثيراً من الصدقية، بل وحتى النص المكتوب من قبيل "التصريح المشترك" لم يتم تقديره في المنافسة الانتخابية نظراً للالتباسات السياسية المؤسسة لنمط التحاور وللاختلافات، المعلنة والمستترة، في المقاصد والأهداف. وعلى رغم كل الهفوات التي التصقت، بدءاً بهذه الحركية السياسية، فإن النخب السياسية الحزبية انخرطت في معمعة المجهودات طمعاً في انجاز اصلاحات مؤسسية قادرة على اخراج المغرب من معضلاته الاقتصادية والاجتماعية، أو على الأقل، ان توفر بعض شروط التدبير الجديد لمشكلاته قصد استنهاضه من كبوته. ثانياً، اذا كانت نسبة المشاركة في الاقتراع لا تصل الى نصف السكان حسب الاحصاءات الرسمية، وكانت نسبة الأوراق الملغاة تتجاوز المليون، فإن المشاعر التي ولدتها نتائج يوم 14 تشرين الثاني ستولد لا محالة مواقف سلبية إزاء العمليات الانتخابية. بل ان ما حصل سيؤدي الى نوع من الكفر بالعمل السياسي. قد يقال بأن الاميركيين لا يصوتون على انتخابات رئيسهم بأكثر من 50 في المئة أو ان الانتخابات التشريعية الفرنسية لا تتجاوز 60 في المئة... الخ وبأن نسبة المشاركة ليست معياراً للحكم على الثقافة الديموقراطية لشعب من الشعوب، يمكن لهذا الاعتراض ان يحوز صدقيته الخاصة، لكن الحالة في المغرب تختلف كثيراً، لأن الإطار الديموقراطي ما زال في طور البناء، وكان من الواجب تفادي كل ما من شأنه ان يكرس ضياع فرصة جديدة للاصلاح. والإحباط الذي شعرت به فئات واسعة، على الأقل من الذين راهنوا على هذه التجربة، سيزيد، ولا شك، في الشرخ الحاصل بين المجتمع السياسي والمجتمع العام. ولا أحد معفى من المسؤولية على ما جرى، بما فيها أحزاب الكتلة الديموقراطية التي دخلت الى المعركة مشتتة، ممزقة، غير قادرة على اقناع قواعدها فضلاً عن اقناع الرأي العام. ثالثاً: اعطت قضية الشاب محمد حفيظ الفائز في احدى دوائر الدار البيضاء والنائب محمد أديب في الدار البيضاء كذلك لنتائج الانتخابات بعداً شبه درامي، لقد رفض هذان المرشحان فوزهما، وهو ما يشكل سابقة في تاريخ الانتخابات، بل وحالة فريدة حتى من المنظور القانوني. فضلا عن أنهما رفعا من شأن المعايير الاخلاقية في السياسة على حساب الذرائعية الجافة والانتهازية الانتخابية، بل وورطا أكثر من جهة في الاساءة لعملية الاقتراع. إذا كانت السياسة هي فن الممكن، فإن التشويش التاريخي على الحقل السياسي حول الممكن الى متاهات يصعب الخروج منها من دون اعادة ترتيب أوضاع المؤسسات السياسية جميعها، فالسيد عبدالله ابراهيم حين يعتبر ان المغرب الراهن يؤدي ثمن تعثراته التي تراكمت مع الزمن، يرى ان المشكلة الحقيقية تتمثل في كون المغربي فقد الثقة بذاته، والثقة المقصودة، هنا، تتعلق بالوعي الوطني في أبعاده التاريخية الذي شهد امتحاناً جديداً يوم 14 تشرين الثاني. ويبدو انه من دون "صدمات كهربائية" محسوبة القوة يصعب إعادة تنشيط الجسم السياسي واسترجاع توازنه من منظور وعي حقيقي بصعوبات المرحلة وبتحديات الزمن. والظاهر ان الوعي بهذا الشرط بدأت تظهر علاماته في انتخابات مكتب مجلس النواب يوم 6 كانون الثاني/ يناير 1998 الذي اختار رئيساً من حزب الاتحاد الاشتراكي المعارض، وهو الحزب الذي احتج على نتائج الانتخابات، كما هو الشأن بالنسبة لباقي أحزاب الكتلة المعارضة، وحصل على 57 صوتاً، لكن انتخاب رئيس اشتراكي كان من المستحيل تصوره دون تصويت ما ينعث بپ"أحزاب الوسط" خصوصاً التجمع الوطني للاحرار، والحركة الوطنية الشعبية، ما يعني ان صيغة ما للتفاهم بين بعض احزاب المعارضة والمؤسسة الملكية في طريقها الى التبلور، خصوصاً وان العاهل المغربي عبر في افتتاحه للبرلمان الجديد عن رغبته في العمل الجماعي ومشاركة بعض الاحزاب السياسية في المسؤولية التنفيذية. صحيح ان حزب الاستقلال أعلن عن موقف رافض لنتائج الانتخابات، بل وطالب مؤتمره الاستثنائي بانسحاب ممثيله من كل المؤسسات وعدم تزكية أي جهاز تنفيذي منبثق عنها، وهذا ما أحدث احراجاً سياسياً لأكثر من جهة، لكن تطور الامور في الاسابيع القليلة الأخيرة، أظهر تحاليل مخالفة للمواقف الحدية من نتائج الانتخابات، من قبيل ان المغرب في حاجة الى انقاذ، ويصعب التقوقع في مواقع اعتراضية باستمرار، فالاصلاح يقتضي الانخراط في معمعة المسؤولية وممارسة المراقبة الضرورية والتدبير المناسب لايقاف مسلسل التراجع والفساد، وهذا يفترض التعايش مع أحزاب رفضت المعارضة التعامل معها لحد الآن باستثناء تجربة حزب الاستقلال في حكومات سابقة، وبلورة برنامج اصلاحي على أرضية توافقية، لاستئناف الحيوية الضرورية في الجسم السياسي والاقتصادي والثقافي المغربي. مؤشرات عدة تفيد ان تفاهماً ما يلوح في الأفق لإعادة تشكيل الحقل السياسي وخلخلة مواقع قد تسهم في ادراك ابعاد التجارب السابقة وخوض مغامرة صياغة لغات جديدة تفترضها الضغوط المختلفة التي يشهدها البلد، ابتداء من الاستفتاء في الصحراء، والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، الى تحضير المغرب لمواجهة شروط الشراكة في الإطار المتوسطي.