تكشف متابعة التحركات السياسية والتصريحات الدبلوماسية الخاصة بما يسمى مشاورات الإعداد لمؤتمر قمة عربية، عن سمة رئيسية من سمات الديبلوماسية العربية، وهي اللجوء الى التعبيرات العامة الفضفاضة، والتلميح من دون التصريح، بحيث يكون على المراقب دوماً أن "يقرأ بين السطور". وهي سمة لم تعد متمشية مع عصرنا الحالي، الذي يتسم بالوضوح والشفافية، ولا نجد لذلك مثيلاً في التصريحات الصادرة عن دول أكبر وأقوى، وفي موضوعات لا تقل خطورة. وكل التصريحات العربية، من مختلف الدول، سواء كانت على مستوى رؤساء الدول أو وزراء الخارجية، تظهر اتفاقاً عاماً على أمرين: الأول، هو ضرورة انعقاد مؤتمر القمة العربي للنظر في التحديات التي تواجه العرب في ضوء التوقف والجمود اللذين أصاباً عملية التسوية السلمية للصراع العربي - الاسرائيلي. والثاني، هو ضرورة الإعداد الجيد لهذا المؤتمر حتى لا تظهر الزعامات العربية في صورة غير مرضية. وعندما نتأمل ملياً في الأمرين نجد أنهما "تحصيل حاصل" ومن بديهيات الأمور. فالاجتماع بين رؤساء دول أي مجموعة اقليمية، أو تحالف عسكري، او تنظيم سياسي، هو امر طبيعي، فزعماء مجموعة الثمانية، ومجموعة الخمس العشرة، ودول الاتحاد الاوروبي والدول الافريقية، ودول حلف الاطلسي، يجتمعون دورياً. وعندما يحدث حادث جلل، فإنهم يلتقون على نحو استثنائي لمواجهة ذلك. أما الحديث عن ضرورة الاعداد الجيد للاجتماع، فهو أيضاً من "نافلة القول"، لأن أي اجتماع على مستوى الرؤساء، بل أي اجتماع بصفة عامة، ينبغي أن يتم الاعداد له بشكل جدي، وعلى نحو يضمن تحقيق الهدف الذي من أجله ينعقد. لذلك، فعندما تتم مشاورات واتصالات وزيارات عبر قرابة شهر من الزمان، ثم تنتهي بالاشارة الى ضرورة الاعداد الجيد، فإن ذلك لا يترك للمراقب الا نتيجة واحدة، هي أن هذه الاتصالات والمشاورات انتهت الى فشل، وأنه لم يحدث اتفاق حول اسس عقد هذا الاجتماع. فماذا حدث فعلاً؟ إن فكرة عقد مؤتمر قمة عربي مطروحة منذ شهور، لكنها تلقت دعماً اضافياً في الاسابيع الاخيرة من جانب القيادة الفلسطينية، التي طرحت ضرورة عقد مؤتمر للقمة، وهو ما دعمه الشيخ زايد بن سلطان بطرح فكرة مماثلة، ويبدو أن هذه الدعوة لاقت اصداء ايجابية، ودارت عجلة المشاورات، التي شملت عدداً كبيرآً من العواصم العربية، ولتبدأ الخلافات في الظهور! كان الخلاف الاول حول التوقيت، وعما اذا كانت القمة يجب أن تنعقد بشكل عاجل، أم ينتظر العرب الى حين اعلان الولاياتالمتحدة نتيجة جهودها الراهنة. فكان هناك من يرى ضرورة الانتظار حتى تُعطى واشنطن الفرصة كاملة، وكان هناك من يرى أن الادارة الاميركية اخذت وقتاً كافياً، وأنه لا يمكن الانتظار الى ما لا نهاية. وكان الخلاف الثاني، حول مكان الانعقاد، فكان هناك رأي بضرورة انعقادها في دمشق، وذلك طبقاً للاتفاق الذي تم في قمة القاهرة في 1996 بشأن مكان انعقاد القمة التالية، ويبدو أن ذلك لم يلق موافقة اردنية، إذ ان الاردن فضل عقد الاجتماع في مقر الجامعة العربية في القاهرة، أو في الرياض، وعكس الموقف الاردني هذا حال العلاقات بين عمانودمشق، وانتقادات سورية لاستمرار الاردن في اقامة علاقات طبيعية مع اسرائيل. وكان هناك خلاف ثالث حول ما اذا كان الافضل عقد قمة مصغرة أو موسعة. وتعددت الاجتهادات: فكان هناك رأي بأن تكون القمة محدودة على غرار قمة الاسكندرية التي شاركت فيها مصر وسورية والسعودية. وقد انتقدت المصادر الفلسطينية هذا الاتجاه بقوة، على أساس أنه يجب ألا تكون القمة مصغرة جداً، وأنه يجب أن تحضرها الاطراف المهتمة مباشرة بعملية السلام، كذلك اطراف من الخليج والمغرب العربي. وظهرت فكرة أن تكون قمة مصغرة تشمل الدول المرتبطة مباشرة بالقضية، وهي مصر وسورية والاردن ولبنان وفلسطين، اضافة الى السعودية والمغرب، ويبدو أيضاًَ إن ذلك كان موضع خلاف. أذ لم تتحمس الدول المغاربية لحصر التمثيل المغاربي في المغرب. وكانت هناك فكرة أن تتم دعوة جميع الدول الاعضاء في الجامعة. وقد اثار ذلك بدوره خشية أن يترتب على ذلك "تمييع" جدول الاعمال بحيث يشمل قضايا عديدة سيحرص بعض الدول على ادراجها بشكل او بآخر. ثم كانت هناك المسألة المتعلقة بدعوة العراق أو عدم دعوته. ذلك أن دعوته للمشاركة في قمة عربية، بما يعنيه ذلك من "اعادة تأهيل" له في الأسرة العربية، ستكون له ردود فعل وتداعيات من جانب الولاياتالمتحدة. ومن المؤكد أن هناك أطرافاً عربية عديدة لا تريد أن تتحمل مسؤولية ذلك في هذه المرحلة. ويبدو أن الكويت أدركت ذلك فسارع وزير خارجيتها الى اعلان أن الكويت لا تضع "فيتو" على حضور العراق، وأنها لا تملك ذلك، إن كل ما تستطيعه هو "ألا نحضر اذا لم نرغب في الحضور"، وأنه "لا علاقة لنا بهذا الامر". وكان الخلاف العلني الوحيد الذي ظهر اثناء المشاورات، هو ذلك الذي افصح عنه الاردن وأعلن صراحة انه يتحمل مسؤوليات تعاقدية ودولية، وأنه ملتزم بها، وأنه يسعى الى حماية أمنه ومصالحه، كما يفعل الآخرون، ودعا الدكتور جواد العناني وزير الخارجية الاردني الى ضرورة ان تتجنب القمة لغة الاتهام المتبادل، وأن تبحث عن نقاط الاتفاق والوفاق بين الاطراف العربية، ولكن هل يصحّ الاستنتاج من ذلك بأن موقف الاردن هو الذي حال دون انعقاد مؤتمر القمة؟ سيكون من الصعب للغاية التوصل الى هذا الاستنتاج، وإلا نقع في خطأ مماثل لخطأ اعتبار الكويت المسؤولة عن عدم مشاركة العراق من قبل، ولا يمكن تصور أن يكون لدى الاردن من الثقل السياسي ما يمكنه من وضع "فيتو" يؤدي الى الحيلولة دون انعقاد مؤتمر القمة. ولا اعتقد أن مسؤولاً اردنياً يمكن ان يزعم لبلاده هذا الوزن وأقصى ما يستطيعه الاردن، أو أي بلد عربي آخر، هو الامتناع عن حضور المؤتمر. الحقيقة، أن عدم نجاح المشاورات الرامية الى عقد مؤتمر للقمة يرجع - في المقام الاول - الى تباين المواقف السياسية، والمواقع القانونية للدول العربية، ومن ثم، عدم امكان الاتفاق على قرارات محددة يقبلها الجميع. فهناك دول عربية وقعت معاهدات واتفاقات دولية مع اسرائيل، وهي مصر والسلطة الفلسطينية، والاردن، وترتب هذه المعاهدات التزامات قانونية معينة. ومن اغرب التعليقات، وأكثرها فحشاً، في هذه الظروف، ما ذكره ديفيد بار ايلان، المتحدث باسم رئيس الوزراء الاسرائيلي، من أن مشاركة السلطة الفلسطينية في الدعوة لعقد مؤتمر قمة عربي هو انتهاك لنص اتفاقيات اوسلو وروحها! وهناك دول اخرى لا تزال اراضيها محتلة، كسورية ولبنان، تشعر أن قضيتها مجمدة، وأن المسار التفاوضي معطل، وتدعو الى اتخاذ اجراءات ومواقف محددة تتصل بالعلاقات مع اسرائيل. وهناك دول ثالثة كالسعودية والامارات ومصر تشعر بخطورة الاثار المترتبة على جمود عملية البحث عن تسوية سلمية، وتسعى الى القيام بعمل عربي مشترك. وبين هذا وذاك، راوحت المواقف وتباينت، وادى ذلك الى اثارة اسئلة مثل: قمة من اجل ماذا؟ وماذا نريد تحديداً من القمة؟ وأنه من الضروري الاتفاق حول القرارات والالتزامات التي سترتبها القمة قبل الدعوة اليها. كما اثير السؤال حول مصير بيان قمة القاهرة، وعما اذا كانت كل الدول العربية التزمت ما اشار اليه من ربط العلاقات مع اسرائيل بالتقدم في عملية التسوية، فإذا كان ما اتفق عليه في قمة القاهرة لم يتحقق، ففيمَ يفيد اذن عقد قمة اخرى؟! الخلاصة، أنه لا يمكن ارجاع عدم اتخاذ القرار بشأن انعقاد قمة عربية لموقف دولة بعينها، وانما هذه محصلة مركزة لحال الوطن العربي الآن. * عميد كلية الاقتصاد والعلوم السياسية - جامعة القاهرة.