عندما يخلد "جزار بلغراد" الى النوم ويغتنم جنوده فرصة للراحة في ظل ظلام دامس يخيم على اقليم كوسوفو ليلاً، تكون أعداد بشرية هائلة من الألبان في حركة دائمة لا تكل بحثاً عن مأوى. خمسون ألفاً أو أكثر، بشيوخهم وأطفالهم ونسائهم، هائمون في العراء. كلما وصلوا الى قرية يجدون مدفعية الصرب سبقتهم اليها وسوتها بالأرض. يواصلون السير في المسالك الجبلية الوعرة يقتفون آثار مقاتلي "جيش تحرير كوسوفو" الذي قيل لهم ان بسببه هدمت القوات الصربية منازلهم وقراهم. لكنهم لا يجدون في رحلتهم الطويلة الشاقة سوى بضعة مزارعين ومربين للماشية يحملون بنادق صدئة أمكن تهريبها عبر الحدود من "الشقيقة" ألبانيا. المسلحون هؤلاء المنتشرون في مجموعات صغيرة هنا وهناك تخلفوا عن اللحاق بركاب عائلاتهم التي فرت الى أماكن "أكثر أماناً" لا يعرفون هم أيضاً أين جيش تحرير كوسوفو، هذا "البعبع" الكبير الذي تتحدث عنه التقارير المضخمة الواردة من بلغراد. هذا "الجيش" الذي يبدو سراباً يفلت من النازحين كما يفلت منهم رغيف الخبز وقطرة الماء. لا مراكز له. يبدو في كل مكان ولا مكان له. قليل يعرف عن طبيعته التنظيمية التي يقال ان الزعيم الألباني الراحل أنور خوجا أرسى دعائمها في الستينيات على أسس "شيوعية ماوية" ليحارب به نظام خصمه اليوغوسلافي الراحل جوزيف بروس تيتو. كثيرون يتساءلون عن مغزى الدعوة المستجدة التي تطلق في بيانات هنا وهناك الى "الكفاح المسلح من اجل استقلال الاقليم"، علما ان الغالبية الساحقة من البان كوسوفو اكتفت عبر التاريخ بالتمسك ب "حكم ذاتي" يحافظ على هويتها الثقافية التي دافعت عنها في وجه الجيوش المتعاقبة على الاقليم، من العثمانيين الى الصرب مرورا بالنمسويين والايطاليين والالمان والبلغار. ولم يسبق لهذه الغالبية ان طمعت في الاستقلال او حتى الانضمام الى البانيا المجاورة، بخلاف بعض الاصوات المتطرفة التي يدفع عادة المدنيون المسالمون ضريبة باهظة لمواقفها ويستفيد من هذه المواقف الذين يبيتون شرا لسكان الاقليم. قليل من الألبان الذين تمكنوا من عبور الحزام الأمني الصربي الى ألبانيا أو مقدونيا المجاورتين، ادركوا متأخرين ان وجودهم في موطنهم في الاقليم يشكل خطراً على بلغراد أكبر ما تشكله البندقية وحاملها وانهم بنزوحهم وقعوا في الفخ الذي رسمه لهم الرئيس اليوغوسلافي سلوبودان ميلوشيفيتش: تفريغ جزء مهم من الاقليم من سكانه بهدف اقامة "حزام امني" يعزل كوسوفو عن العالم الخارجي ويمكن الجيش الصربي من التحكم بكل منافذها الى الخارج. ومن أجل تحقيق هذا الهدف ، جازف ميلوشيفيتش بتفخيخ المحادثات التي حضته أميركا على اجرائها مع الزعماء المعتدلين للاقليم معرضاً نفسه للوم الغربي مراهناً على ضربات محدودة يتعرض لها جيشه هنا وهناك ليتخذ منها ذريعة لتنفيذ مآربه. كوسوفو و"صربيا الكبرى" في مؤتمر دايتون الذي أرسى دعائم سلام هش في البوسنة عام 1995، رفضت القوى الكبرى طلب الألبان البحث في قضية كوسوفو وهي تدرك ان ذلك سيكون من باب "طلب الكثير" من ميلوشيفيتش ما قد يهدد الجهود المضنية التي بذلت في اقناع بلغراد وخلفها موسكو في التوصل الى تسوية تشكل حداً أدنى في البوسنة. ولم يكن أمام زعيم التيار المعتدل في كوسوفو ابراهيم روغوفا سوى الرضوخ لهذا الأمر الواقع مبدياً ثقته بأن الغرب لا بد وأن يعترف يوماً بحق مواطنيه في تقرير المصير وهو الحق الذي حرمهم منه ميلوشيفيتش تنفيذاً لشعارات انتخابية اطلقها في بريشتينا ربيع 1987 وترددت اصداؤها في بلغراد حين دغدغت مشاعر القوميين المتطرفين وتمكن بفضلها من ازاحة منافسه ايفان ستامبوليتش مكرساً نفسه المدافع الأول بلا منازع عن أحلام "صربيا الكبرى". لم يكن ميلوشيفيتش وحده يحلم بل كذلك روغوفا الذي يحرص في مجالسه الخاصة على تأكيد انه تلقى "ضمانات أميركية" بدعم حقوق الألبان الذين يشكلون أكثر من 90 في المئة من سكان الاقليم فيما يستند 10 في المئة الباقون من الصرب الى "الوعد التاريخي" الذي قطعه لهم ميلوشيفيتش ب "ألا يتمكن أحد من قهرهم". هذه الأقلية التي يريد لها ميلوشيفيتش ان تتحكم باقتصاد الاقليم الذي تبلغ مساحته 10887 كلم مربع ويحتوي على نصف احتياطي يوغوسلافيا السابقة من المعادن والخامات، فضلاً عن سهول خصبة ومراع للماشية، أدت الى تطوره في ظل حكم ذاتي منحه اياه تيتو في 1974 الى مركز مهم لصناعة النسيج والمنتجات الغذائية. وغني عن القول ان "التطهير العرقي" الذي تمارسه بلغراد باسم الأقلية الصربية - الارثوذكسية في الاقليم لا يفرق بين المسلمين أو المسيحيين الكاثوليك الذين يشكلون نسبة لا بأس بها من ألبان كوسوفو. وكيف تتحكم أقلية لا يزيد عددها عن 200 ألف نسمة بمقادير غالبية يربو عددها عن مليونين إذا لم يكن ذلك عبر تجنيد سلاح المدفعية والطائرات الحربية لشن حملة من القصف والغارات الوحشية التي حصدت مئات القتلى والجرحى وأتت على مئات القرى والمدن، بينما تأخذ الدوائر الصربية في موسكو ومجموعات الضغط الصربية في واشنطن على عاتقها تأخير ردود الفعل الدولية ما أمكن الى حين انجاز أكبر قدر مستطاع من المهمة. هذه الخطة الهمجية مستمرة منذ شباط فبراير الماضي تحت أنظار المجتمع الدولي والدول الكبرى التي بدا أنها "تعلمت من اخطائها السابقة كيف تصنع اخطاء جديدة" بينما الدول المجاورة لكوسوفو تحذر من موجة نزوح أكبر من تلك التي شهدتها البوسنة في أوج الحرب عليها عام 1992. الغرب يستجمع قواه في هذه الأجواء المشحونة التي تهدد باندلاع حرب جديدة في البلقان بدأ الغرب يستجمع المبادرة ليتحرك نحو قرار في مجلس الأمن يجيز له استخدام "كل الاجراءات اللازمة" لاحتواء التوتر في كوسوفو وهي عبارة استخدمت مرتين في السنوات العشر الأخيرة. مرة لاخراج العراق من الكويت والثانية لفرض الحظر الجوي في البوسنة وفي كل مرة كان يتضح للغرب فوائد ان يتدخل مبكراً لكنه كان يتدخل متأخراً ليكتشف انه وقع في خطأ تضخيم قدرات القوة المطلوب ردعها وأنه كان في الامكان تقليص حجم الخسائر البشرية والمادية لو تم التحرك بالسرعة المطلوبة. غير أن صدور قرار من هذا القبيل من جانب مجلس الأمن يتطلب ضمان عدم استخدام روسيا حق النقض ولا يتم ذلك عادة إلا اذا كانت موسكو مطمئنة مسبقاً الى خطة تسوية ترضي شريكتها بلغراد، تسوية لا بد وأن تكون على حساب الألبان. والقرار المرتقب الذي يتضمن عقوبات واهية على يوغوسلافيا الاتحادية يترافق مع كلام عن انتشار محتمل لقوات حلف شمال الأطلسي على الحدود بين كوسوفو وجمهوريتي ألبانياومقدونيا المجاورتين وهو لا يمكن أن يتضمن انتشاراً في مواجهة القوات الصربية في كوسوفو حسبما أكد الرئيس الروسي بوريس يلتسن للقادة الغربيين في اتصالات اجراها معهم نهاية الاسبوع الماضي مشدداً على أهمية عدم انتهاك أراضي الاتحاد اليوغوسلافي. ويعني ذلك ان القوات المرشحة للانتشار سلماً وبموافقة مسبقة من الصرب خوفاً من تعرض جنود الأطلسي المنتشرين في البوسنة لضربات انتقامية ستشكل عازلاً بين الاقليم والأراضي المجاورة ما يحرم الألبان من منفذ لاستيراد أسلحة يدافعون بها عن نفسهم كما يحرم النازحين من فرص الفرار نحو الأمان أو العودة الى ديارهم من دون اذن مسبق. ويتحول هذا الانتشار الاطلسي الى "حزام امني يحمي الحزام الامني الصربي" الذي يبلغ طوله 160 كلم وعمقه 15 كلم. وفي هذه الحال يصبح النازحون في سباق مع الوقت وأمام مهلة زمنية قصيرة يحسمون خلالها خياراتهم قبل الانتشار الاطلسي: هل يعودون ليواجهوا الجحيم الصربي في كوسوفو أو يرحلوا نهائياً الى الدول المجاورة لينضموا الى آلاف اللاجئين البوسنيين الذين لم تمكنهم القرارات الدولية من العودة الى ديارهم بعد؟