من راقب الأحداث السياسية في الكويت في النصف الثاني من الشهر الماضي وحتى بداية هذا الشهر يشهد على امرين: اولهما حيوية الديموقراطية الكويتية، وأهمية ان يكون أي شعب عربي متمتعاً بها عملاً لا قولاً، اما الأمر الثاني فهو رؤية تأثير وسائل الاعلام في تحديد وصياغة جدول اعمال المجتمع المتمتع بالديموقراطية حتى في الظروف الاستثنائية. وفي التفصيل، اعلن في منتصف الشهر الماضي ان ولي العهد الكويتي ورئيس مجلس الوزراء سيدعو جمعاً من وجوه الكويت نساء ورجالاً على عشاء وسيلقي في هذا العشاء خطاباً. وهذا الخبر لا يشكل في حد ذاته مفصلاً فارقاً من مفاصل الحياة السياسية الكويتية، فمثل هذا الأمر حدث ويمكن ان يحدث في أي وقت، ولكن لأن المجتمع يتمتع بحيوية شديدة خاصة في رصد التوجهات السياسية وقراءتها بأشكال مختلفة، فقد اخذت نبرة التساؤلات تتصاعد بين يوم وآخر حتى تراكمت. وقد توزعت هذه التساؤلات - شعبياً على الأقل - على ثلاثة منابر مختلفة وكان للصحافة سبق فتح هذا النقاش وإشاعة التكهنات المختلفة حوله، لكن بدلاً من ان يدور الحوار مباشرة حولد ما أثارته التكهنات، دار على طريقة: اسمعي والحديث "لك يا جارة". ما فتح باب الجدال على مصراعيه ان واحدة من الصحف الكويتية الخمس التي تصدر باللغة العربية، ربما لاهتمامات خاصة بها وربما لمصالح لا يمكن القفز بها على التحسبات في اي مجتمع، قادت حملة توقعات محورها الرئيسي هو ان الخطاب القادم سيكون مفصلياً وسيكون يوم "الواقعة"، خصوصاً في اتجاهين: الأول هو استهداف الوضع الديموقراطي في البلاد، والثاني هو اصلاح الوضع الاقتصادي. واستهداف الحالة الديموقراطية، الذي اعيدت الكتابة فيه وبنبرة حادة من بعض الكتاب في الصحيفة، ايقظ او اوحى للتوجهات الباقية ان تتبنى نبرة مضادة بالطبع للدفاع عما تخيلته انه استهداف، حملة مخالفة للحملة الأولى في الاتجاه وإن بالقوة نفسها، بينما كان تقويم خطورة الوضع الاقتصادي وأهمية التصدي له مشتركاً، وعلى هذا النحو فإن الاختلاف على دور الديموقراطية في المجتمع كان محكاً للتنافر. كانت صلب الحملة المضادة هو الدفاع عن المكتسبات الديموقراطية التي اعتقد البعض خطأ انها ستمسّ، وسار الجدل ساخناً بين المدرستين، او الاجتهادين على وجه الدقة، وتصاعد كلام كثير، وشاركت فيه اقلام محترفين وهواة ايضاً، ولم يخلُ احتدام الجدل من وقوع ضحايا - كلامياً - فقد نشبت على جانب هذا الخلاف العام بين الشد والجذب معارك كلامية جانبية من بينها تصفية معارك قديمة تتجدد في الصحافة الكويتية بين فترة وأخرى. وعلى رغم ذلك كله ظل صاحب الرأي الفصل صامتاً لم تصدر عنه اي اشارة، ولم يتوقف احد في غبار هذه الضجة ليسأل نفسه سؤالاً بسيطاً وعفوياً هو: من قال ان ما تنشره الصحف من اجتهادات هو بالضرورة تعبير عن رأي المسؤول، ان لم يعبر هو مباشرة عما يريد وهو لم يعبر عن ذلك؟ لكن، كيف السبيل الى اسكات اجتهاد ما في مجتمع يتوق الى تطبيق حرية الكلمة ويتمتع بها فعلياً؟ لم يلتفت احد في خضم هذا التنافر الثنائي الى بعض من اصوات تبنت وجهة نظر ثالثة في الأمر، فكتبت وهي حريصة على الممارسة الديموقراطية، مشيرة الى مسؤولية بعض ممارسات مجلس الأمة الكويتي "عن التدهور والتردي" في الوضع العام المشكو منه. وللمرة الاولى، على الأقل في ما اتذكر، تحدث في الكويت مناقشة خطاب لم يتم القاؤه بعد وتجري مناقشة آراء لم يُفصح عنها، وتتوجه التحليلات لما يجب ان يقال وما يجب ان لا يقال، وتضخمت اثناء ذلك المشكلات المعروضة الى درجة ان قال احد الكتاب "ان عدد المحكومين الهاربين اكبر من عدد المذنبين المسجونين" في الكويت. وتضاربت التخمينات والتفسيرات الى درجة ان بعض الصحف العربية خاض في الموضوع الذي لم يطرح بعد فاستبق الدعوة بالتفسيرات والاحكام. كانت المناقشات الصحافية في تيارها الاكثر تطرفاً تتوجه للدفع اما الى حال يسميها السياسيون في العالم الثالث "الحالة البنازيرية" نسبة الى بنازير بوتو رئيسة وزراء باكستان السابقة، وهي حال السياسي الذي يكره كل خصومه السياسيين حتى السابقين منهم الى درجة التخلص من الجميع ولا يبقى الا ان يكره نفسه، او الحال اليلتسنية، نسبة الى بوريس يلتسن رئيس الجمهورية الروسي، وهي حال تقول "اما ان تقبلوا بما افرضه عليكم او سأحل البرلمان". ولم يكن ولي العهد الكويتي ورئيس الوزراء في وارد الحالين اصلاً، اذ استُنطق مضمون الخطاب قبل ان ينطق به صاحبه، وهي حال كويتية للممارسة السياسية نادرة في بيئتها. شدت كل هذه المناقشات الصحافية الانظار الى تاريخ بعينه هو مساء الأول من حزيران يونيو وقت القاء الخطاب المرتقب. وكان سعد العبدالله كعهده دائماً، في مكانة يعرف الكويتيون والعرب موقعها، وهو ما تجلى في يوم الخطاب، فإن كانت المجتمعات كلها تحتاج الى قيادة، فإن المجتمع الديموقراطي أحوج من أي مجتمع آخر الى قيادة عالية القدرات واسعة الصدر في آن، وهي مهمة صعبة، بينما القيادة السهلة هي فقط قدر المجتمعات الشمولية، والمجتمع الكويتي ليس من بينها بالتأكيد، لذلك فإن بناء وفاق وطني هو الطريق الذي يراه - كما قال في الخطاب - الاسلم لتخطي الكويت للعقبات الاقتصادية والسياسية الماثلة. تكوّن الخطاب المباشر - في وجود نيف وألف من وجوه الكويت ومئات الآلاف حول اجهزة التلفزيون - من ست نقاط اساسية هي على التوالي: خطر النظام العراقي الماثل على الكويت، انتماء الكويت العربي الذي ليس له بديل، متطلبات الانسجام مع النظام العالمي الجديد سياسياً واقتصادياً، والتشبث بالديموقراطية كوسيلة وطنية لانجاز برنامج تنمية ناجح، وانه اذا اختلفت الاجتهادات في الداخل فلا بد من موقف وطني متماسك باتجاه الخارج، ولا بد من مسيرة الاصلاح الاقتصادي الوطني مع تحقيق اجماع وطني على القضايا العامة. لم يفت الخطاب بداية اشارة ذات معنى مفادها ان النقاش الصحافي العام الذي سبق الخطاب، على رغم شطط بعضه، الا انه قبل "من زاوية حرية التعبير، التي كان ينبغي ان تلتزم الصدق والأمانة والموضوعية"، وهي اشارة واضحة للاصرار على الوقوف في صف الديموقراطية بالطبع. ولعل الأبرز بين نقاط هذا البرنامج "الخطاب" هو ما يوحي بانتهاج سياسة كويتية جديدة، منها الموقف من بعض البلدان العربية التي لا يوجد لها تمثيل ديبلوماسي في الكويت، فقد نفى الشيخ سعد سابقاً تمسك احد في الكويت بالانقطاع عن العرب "عدا العراق"، ولقد كانت الزيارات والمخاطبات الكويتية السودانية والأردنية واليمنية من ضمن اشارات اخرى هي المؤشر الصحيح لقراءة هذا التوجه لمد الجسور من جديد، كما كان ضمن المدعوين للخطاب كل سفراء الكويت في الخارج الذين تزامن مؤتمرهم الثاني بعد التحرير مع توقيت الخطاب وفي ذلك اشارة واضحة للمنحى الجديد الذي يُراد اخذه. الوضع الاقتصادي الكويتي مقلق لرجل السياسة وللجمهور أيضاً، فبعد تراجع اسعار النفط ترتب على ذلك انخفاض للايرادات النفطية، وبعدما كانت الكويت تخطط لموازنة ميزانيتها في سنة ألفين، شهدت الميزانىة العامة عجزاً تقدر قيمته بحوالي بليون ونصف بليون دينار بنهاية السنة المالية الحالية، وبهذا العجز لا تستطيع الدولة مجاراة الانفاق العام العالي في المصروفات المختلفة، وكان لا بد من التفكير في طرق ووسائل لخفض الانفاق وترشيده، والمطروح هو مراجعة هيكل الاسعار للخدمات التي تقدمها الحكومة وآلية لتعبئة وتخصيص الموارد مع الحفاظ على مستويات معقولة لذوي الدخل المحدود، وهناك افكار مطروحة بعضها مسودة قوانين موجودة لدى مجلس الأمة، منها على سبيل المثال قانون الخصخصة وقوانين رفع بعض اجور الخدمات، الا ان الامر يحتاج ليس فقط لمعرفة المرض ووصف الدواء، بل وأيضاً معرفة كيفية تمكين المجتمع من تعاطي هذا الدواء دون اثارة المزايدات السياسية. ومثال لذلك ما تم أخيراً بخصوص رفع ثمن بيع المحروقات للجمهور الذي ما ان اعلنت النية حوله حتى ثارت زوبعة سياسية ضد فكرته في الصحف من بعض المشرعين. لذلك، فإن البحث عن توافق وطني في هذا الظرف هو مقصد أساسي من مقاصد الخطاب، إذ قال ان "نجاح برنامج الاصلاح الاقتصادي يتطلب تعاوناً فعالاً بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بحيث يكون التعامل مع هذا البرنامج ليس باعتباره مشروعاً حكومياً بل مشروعاً وطنيا" والبحث عن اجماع وطني هو دائماً احد الأساليب الناجحة في المجتمعات الديموقراطية لتحقيق الخير للجميع، والخلاف السياسي الشخصي او المصلحي الضيق هو معطل للانجاز من جهة، ومصدر من مصادر نقد الممارسة الديموقراطية من جهة اخرى. بقي ان نعرف ان من أثار الزوبعة في التلميح الى ان المؤسسة الديموقراطية يجب ان تذهب عاد وقال بعد الخطاب في افتتاحية للجريدة "لا بد من الايضاح ان كل ما سبق وكتب كان بمثابة آراء قد تم طرحها تحت سريان الكفالة الدستورية"، وفي ذلك تناقض لا يدانيه الا التناقض في القول بأن السير تحت الكفالة الدستورية لا يعني الكفالة في الممارسة. وحتى لا تكون هناك اي شبهة لتزكية الجدل ومنع العمل، فقد قدم الشيخ سعد في خطابه ما كان الكويتيون ينتظرونه طويلاً وهو الحاجة الى برنامج عمل وطني، وقد كانوا يتوقعون منه حلولاً قاسية ولكنه لم يفعل لأنه يعرف ان الأزمة يمكن التغلب عليها، فقد غالب ازمة اكبر منها وخرج سالماً وهي الاحتلال وضياع الوطن. كما ان الشيخ سعد تمسك، كما دائماً، في حفل العشاء ذاك الى جذوره الشعبية، وهو يدرك بحسه السياسي طويل الخبرة أنه لا يكفي سماع المسؤولين والخبراء للقطع بالرأي انما ينبغي التعرف على رأي الناس في ما يتخذ من خطوات لأنه نوع من الوفاق الشعبي، لقد اكد الخطاب بمفاصله المحورية المقولة المشهورة ان لا شيء ممكن من دون عزيمة الرجال ولا شيء يستمر من دون وجود المؤسسات.