إذا كانت "اتفاقية بغداد" في 23 شباط فبراير الماضي قد جنّبت الشعب العراقي تحديداً كارثة جديدة لا احد يعرف هولها ومآسيها، كما جنبت شعوب المنطقة مخاطر جمة كفيلة باشعال منطقة الشرق الاوسط برمتها، واذا كانت هذه الاتفاقية تشكل نصراً للسلام العالمي ولصوت الحكمة والعقل الانساني على الغرائز الوحشية الدفينة، فإنها في الوقت ذاته، وبمعنى من المعاني، تشكل انتصاراً للديبلوماسية الروسية - الفرنسية المدعومة من قبل الصين وكل القوى المحبة للسلام في المنطقة العربية وفي العالم، كما تشكل بداية النهاية للمحاولات الاميركية الرامية الى الانفراد بتقرير مصائر العالم. ولعل ما أعلنته فرنسا غداة توقيع الاتفاقية المذكورة يؤكد الاستنتاج هذا، حيث قالت بأن الافكار والاقتراحات التي اعطيت لعنان من مجلس الامن قريبة من الاقتراحات التي قدمتها فرنساوروسيا بشأن ترتيبات الدخول الى المواقع الرئاسية العراقية. كما ان الفكرة القائلة بأنه اذا كانت حرب الخليج الثانية أحد الاسباب المهمة التي عجّلت بسقوط الاتحاد السوفياتي ونهاية الحرب الباردة، فإن الازمة العراقية التي افضت الى اتفاقية بغداد في 23 شباط فبراير عام 1998 ادت الى انقسام التحالف الدولي السابق، واشّرت الى بداية تشكل العالم المتعدد الاقطاب من الناحية الفعلية. فهذه النظرية تحتوي على نسبة كبيرة من الصحة، وهي الاقرب - حسب وجهة نظري - الى الدقة والتحليل الموضوعي لطبيعة التحولات التي سيشهدها القرن القادم. ان بدايات تبلور العالم المتعدد الاقطاب لم تظهر هكذا فجأة للعلن، بل سبقها تمهيد وعمل دؤوب وحثيث قام به العديد من الدول التي تتمتع بثقل دولي كبير. ومن يعود الى البيانات المشتركة التي صدرت عن اجتماعات قادة هذه الدول الثلاث روسياوفرنساوالصين، سوف يتأكد بأن النتيجة الجوهرية التي توصلوا اليها هي ضرورة بناء العالم المتعدد الاقطاب والوقوف في وجه كل المحاولات الرامية الى الهيمنة على العالم، وقد كانوا يشيرون بذلك الى المحاولات الاميركية تحديداً. وثمة ملاحظة اخرى ينبغي التأكيد عليها وهي ان الفرز الدولي الاخير الذي تم على اساس الموقف من "الازمة العراقية"، والذي جمع كلا من "روسياوفرنساوالصين"، في مواجهة اميركا وحليفتها بريطانيا، لم يكن تكتلاً متجانساً من الناحية الايديولوجية - العقائدية، بل كان تكتلاً املته طبيعة المصالح الوطنية والقومية لهذه الدول، بالاضافة، الى رؤاها السياسية المشتركة والمتقاربة. ومن كل ما تقدم يمكن القول ان اتفاقية بغداد هي التاريخ الفعلي لبداية تبلور العالم المتعدد الاقطاب، وان عملية التحول والصيرورة في الوضع الدولي تسير بشكل حثيث. ولذا نتوقع ان يكون العقد الاول من القرن الحادي والعشرين هو العقد الذي سترسى فيه الدعامات الاساسية للعالم المتعدد الاقطاب. وتبقى هذه الاراء من باب التوقعات والحدس ولا ندعي بأنها من المسلمات حيث لغة السياسة هي الاقرب الى لغة التحول بل المفاجأة منها الى لغة اليقينيات المطلقة والثبات الجامد.