أجل، ثمة رهان روسي، تقابله رغبة عراقية، أو لنقل شعورا عراقيا بأهمية إعادة الجسور التي أسقطتها المتغيرات السياسية، إذا كان ذلك لا يلامس الخطوط الحمر التي ارتسمت في العراق الجديد. وبطبيعة الحال، يدرك الروس هذه الخطوط، إلا أنهم يجدون هامشاً لا سجال فيه لحضور اقتصادي واستثماري، ليس بمقدور أحد التقليل من قدرته على إعادة روسيا إلى شمال الخليج. ويبدو أن العراقيين قد اقتنعوا، في نهاية المطاف، أن لا ضير من دور روسي، يُعزز اقتصادهم، ويُنعش مناخ الاستثمار الذي ينشدونه. وخاصة في القطاعات التي كان لروسيا حضورها التاريخي فيها، كالطاقة الكهربائية. والقناعة العراقية هذه لم تقتصر على الروس، بل شملت كل من يرغب في إرسال شركاته ومستثمريه إلى أي من محافظات العراق وأقضيته. لقد مثل العراق على مدى 45 عاماً ساحة دائمة لحضور روسيا الاقتصادي في المنطقة، وبدرجة ما حضورها الأمني. وكانت العلاقات العراقية السوفياتية تختزن مضموناً أيديولوجياً في السنوات الأولى بين 1958 – 1963. وقد تراجع هذا المضمون في عهدي البعث الأول والثاني، كما في العهد العارفي بسنواته الخمس. وعلى الرغم من ذلك، فإن تنامي الاستقطاب الإقليمي، على إيقاع الحرب الباردة الدولية، قد أعطى لروابط بغداد - موسكو طابعاً خاصاً، أو لنقل مضموناً متقدماً. وقد شهد العام 1991 حدثين رئيسين، الأول سقوط القوة العراقية بعد حرب الخليج الثانية، والآخر سقوط الاتحاد السوفياتي كدولة، بعد سقوط دوره كقوة عظمى. وهنا، ورثت روسيا عراقاً معزولاً، كان عليه هو الآخر التعامل مع دولة كبرى متحولة. إلا أن هذين التحوّلين التاريخيين لم ينفيا استمرار روسيا طرفاً رئيسياً في تفاعلات العراق الاقتصادية والأمنية. وقد وصل حجم التبادل التجاري بين بغداد وموسكو في العام 1990، نحو ملياري دولار، وهو رقم كبير، قياساً بمؤشرات ذلك الوقت. وفي بداية تسعينيات القرن العشرين، فقدت روسيا في العراق نحو مائة مشروع، واضطرت شركاتها إلى ترك المعدات والأجهزة في مواقعها، بعد تعليق العقود الكبيرة، التي كانت ستجلب للروس في مجموعها ما يقارب الثلاثين مليار دولار. وعلى الرغم من ذلك، فقد أدى العمل ببرنامج "النفط مقابل الغذاء" في العام 1997 إلى عودة روسية جديدة إلى العراق، إذ وقع الروس في إطار هذا البرنامج عقوداً كبيرة لتصدير بضائع وأجهزة ومعدات، على نحو عُد نجاحاً جديداً لهم. وقد بلغ حجم الصفقات العراقية المعقودة مع الشركات الروسية سنوياً، باستثناء عمليات النفط، نحو ملياري دولار. وكانت هناك مكاتب دائمة ل 39 شركة روسية في العراق، تُعادل حصة 20 منها نحو 40 في المائة من النفط العراقي المباع في السوق العالمية. وإثر سقوط نظام الرئيس العراقي صدام حسين، في العام 2003، بدا ثمة تحول كبير يأخذ طريقه في علاقات بغداد بموسكو، وبدت هذه الأخيرة وقد هيمن عليها قدرٌ متزايدٌ من الهواجس، التي تعدت قضية روابطها بالعراق، لتلامس مستقبل مكانتها في الساحة الدولية. وبعد ستة أعوام على الحدث العراقي، فإنّ هواجس الروس لا زالت تراوح مكانها. وما يمكن قوله بصفة أكثر تحديداً، أنه فيما يرتبط بالعلاقات الروسية العراقية، فقد خشيت موسكو على مستقبل عقود النفط التي ظلت تراهن عليها. ويبحث العراق حالياً في مستقبل العقود التي وقعتها حكومة الرئيس صدام حسين مع الشركات الروسية، ويُصر على إعادة النظر في شروطها، إن كان هناك أصلاً من مجال للعمل بها. وكنموذج لهذه السياسة، توصل العراق، في أيلول سبتمبر الماضي، إلى اتفاق معدّل مع الصين حول التنقيب في حقل الأحدب النفطي، الواقع على مسافة 180 كيلومتراً جنوب شرق بغداد. وكانت شركة "سي إن بي سي" الحكومية الصينية قد فازت في العام 1997 بهذا العقد، بقيمة قدرها مليار ومائتا مليون دولار، لفترة تصل إلى 23 عاماً. وكان الإنتاج المتوقع آنذاك يُقدر بتسعين ألف برميل. وفي الاتفاق الجديد، عُدلّت قيمة العقد إلى ثلاثة مليارات دولار، أي أكثر من ضعف المبلغ الأصلي. علماً بأن الاحتياطات المؤكدة لحقل الأحدب هي في حدود المليار برميل. وتجري شركة (LUKoil) الروسية في الوقت الراهن مباحثات مع بغداد لإحياء عقد "القرنة الغربي 2"، الذي وقع في 21 آذار مارس من العام 1997، والذي بلغت حصة الشركة الروسية فيه 68 في المائة. ونصت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بين (LUKoil) وشركة (Conco Phillips) الأميركية على منح هذه الأخيرة حصة تبلغ 5ر17 في المائة. ويُعد حقل "القرنة الغربي -2" من حقول النفط الكبيرة، حيث تُقدر احتياطاته بستة مليارات برميل. وتبلغ فترة سريان العقد 23 عاماً، مع إمكانية تمديدها لخمس سنوات أخرى. وكانت حكومة الرئيس صدام حسين قد أعلنت، قبل فترة قصيرة من سقوطها، عن فسخ عقد "القرنة الغربي -2"، متذرعة بعدم إيفاء المستثمرين بالتزاماتهم. وهو ما رفضته الشركة الروسية، التي عزمت على تقديم شكوى قضائية، لولا أن داهمتها الأحداث. وقد استؤنفت المفاوضات في مراحل تالية مع السلطة العراقية الجديدة، إلا أنه لم يتم حتى اليوم الوصول إلى تسوية محددة. وهناك رهان في موسكو على حقل القرنة. بل لا يكاد يخلو أي لقاء روسي مع العراقيين من التطرق إلى هذا الموضوع. وعلى صعيد متصل بآفاق التعاون في القطاع النفطي بين موسكو وبغداد، أشارت بعض التقارير غير الرسمية إلى توّجه لبلورة ما عُرّف بأنه "تعاون فضائي" للكشف عن منابع النفط العراقي في باطن الأرض. وكانت محاولات بغداد لتوقيع "اتفاقيات الخدمات الفنية"، مع كبار شركات النفط العالمية، قد تعثرت، بعد عام من المفاوضات الشاقة. وقد هدفت السلطات العراقية من هذه المحاولات، ضمن أمور أخرى، الوصول إلى تقدير أكثر وضوحاً لحجم احتياطات البلاد النفطية. وربما يتجه العراق الآن لمنح بعض الشركات الروسية "عقوداً فنية"، بالشروط التي تفاوض على أساسها مع الشركات الغربية. وقبل ما يقرب العام من الآن، قال رئيس اللجنة الدولية في مجلس الفيدرالية الروسي، ميخائيل مارغيلوف، إن روسيا قد لا تجد لها مكاناً في مشاريع النفط العراقية. و"من الواضح أنه سيجري قريباً توزيع حصص لاستثمار الحقول، وقد نخرج من السباق بخفي حنين". وقد طرحت الحكومة العراقية ستة حقول نفطية، وحقلي غاز، للاستثمار المشترك مع شركات أجنبية. وسوف يستمر قبول طلبات الاشتراك في المناقصة لغاية آذار مارس القادم، على أن يجري توقيع عقود الاستثمار في حزيران يونيو من هذا العام. وقد دخلت في المناقصة العراقية 35 شركة نفطية، بينها شركتان روسيتان، هما (LUKoil ) و(Gazprom).وقد أجرى مسؤولون كبار في شركات نفط عالمية لقاءات عدة، في العاصمة الأردنية عمّان، مع وزارة النفط العراقية. ونقلت صحيفة "واشنطن بوست" عن الناطق الرسمي باسم الوزارة قوله: إن أكبر تلك العقود ستكون من نصيب خمس شركات غربية هي (Exxon Mobil)، (Royal Dutch Shell)، (Chevron)، (British Petroleum) و(Total). وثمة تقارير مفادها أن الروس قد يتعاونون مع شركات النفط الغربية في العراق، من خلال ما يُعرف "بالمقاولة من الباطن"، لتنفيذ مراحل محددة من مشاريع الاستثمار. وعلى صعيد الصورة المجملة للحضور الروسي الراهن في العراق، هناك حوالي عشر شركات روسية عاملة في قطاعات مختلفة من الاقتصاد العراقي، وخاصة في قطاع الطاقة الكهربائية. ففي محطة "اليوسفية" للطاقة، الواقعة على مسافة 45 كيلومتراً إلى الجنوب من بغداد، يعمل بين 300 إلى 370 فنياً روسياً يتبعون لشركة (Tekhnoprom Export ) الروسية لتقنية الكهرباء. وهناك أيضاً شركة (Inter Energy Services ) الروسية، التي تعمل على تحديث محطة الناصرية. وفي تموز يوليو الماضي، عادت شركة (Silovye Mashiny ) الروسية لتنفذ عقدا وقعته مع العراق في العام 2001 ، وتعهدت بموجبه تزويد محطة العظيم الكهربائية ( قيد الإنشاء) بتربينين وتجهيزات أخرى. واضطرت ظروف الحرب الشركة الروسية إلى وقف تنفيذ الاتفاقية، بعدما قامت بتوريد معدات بقيمة ثمانية ملايين دولار. ويُفترض، وفق التصوّر الجديد، أن تدخل المحطة حيز العمل في تموز يوليو من العام 2010. كذلك، فازت شركة (Tekhnoprom Export) بمناقصة إعادة تأهيل وتجهيز المحطة الكهروحرارية في البصرة، التي تشغل وحدة توليد يابانية الصنع، قدرتها 150 ميغاواط. وقد خصص البنك الدولي لهذا المشروع 130 مليون دولار. وثمة احتمال برفع القيمة عشرة ملايين دولار إضافية، بطلب من الشركة الروسية، وذلك لاعتبارات مرتبطة بخدمات الأمن، خلال السنوات الثلاث المقررة لانجاز المشروع. وإضافة للتعاون القطاعي، الذي تُهيمن عليه حالياً مشاريع توليد الكهرباء، وقع العراق مع روسيا، في 11 شباط فبراير 2008، مذكرة "للتعاون التجاري والاقتصادي والعلمي والتقني". كذلك، وقع البلدان مذكرة تفاهم حول إقامة قنصليتين روسيتين، في كل من أربيل والبصرة. ويبحث العراق مع الروس، في الوقت الراهن، في إمكانية شطب بقية الديون المستحقة عليه للدولة الروسية. وكانت موسكو قد تنازلت، في العام الماضي، عن 93 في المائة من هذه الديون، البالغة 12.9 مليار دولار. وبطبيعة الحال، تبقى كبيرة هي الرهانات الروسية على العراق. ومن الصعب أن تتنازل روسيا عن كامل دورها هناك. وفي نهاية المطاف، فإن الرهان الروسي على العراق هو جزء من صراع النفوذ الدولي في هذه المنطقة.