لم يكن ما عقده مختارو بيروت في مقر رابطتهم في خلية القيسي في حي رأس النبع اجتماعاً، بل "كونفرانس". هذا ما قاله مختار الأشرفية أحمد سعيد بيضون الذي يبادل أبناء "رعيته" أثناء معالجته أوراقهم وطلباتهم، اللهجات القديمة والجديدة وما يدخلونه إليها من عبارات فرنسية وإنكليزية. هذه اللهجات التي هجنها السفر والتهجير والإختلاط بالغرباء كما يقول. وهو يعرف كيف يوحي للرعية بمحليته التي تقربهم منه، وبإلمامه بمفاتيح مشكلاتهم، إذ أصبحوا يأتون مسرعين إليه ويرمون له بأوراقهم على الطاولة ثم يعودون مساءً لمراجعته فيها. و"الكونفرانس" عقدت في خلية أعراس هي في الوقت نفسه مقر للرابطة ويملكها الحاج زهير القيسي الذي ورث المخترة عن والده وجده، وعلّق على حائط في صدر القاعة ضمن إطار خشب مقالة كتبها أحد أبناء عائلات بيروت، في مديح أبو خليل القيسي "أسطورة أبناء العاصمة وعنوان نخوتهم ومؤازرتهم للضعيف". إجتماع مختاري بيروت عقد مع اقتراب موعد انتخابات المخترة ومع شروع الدولة في توزيع بطاقات الهوية اللبنانية التي يتقدم طالبوها بطلباتهم الى المختارين في الأحياء، ونظراً الى التأخير الذي يحصل في تسليم هذه البطاقات والأخطاء في المعلومات في شأنها، وهي كثيرة "فالناس الذين ربيناهم في أحيائنا" كما يقول المختارون، لا يعرفون من المخطئ "ويحملوننا مسؤولية التأخير، ولهذا تبعات انتخابية في هذه الأيام". وكان هناك سبب ثان للإجتماع هو البحث في بعض الشؤون الإنتخابية خصوصاً لجهة خلو قانون انتخابات المختارين من أي توزيع طائفي، ويرى المختارون أن في ذلك مخاطرة. فماذا سيحصل لو قرر أبناء الأحياء انتخاب أبناء طائفاتهم؟ والمجتمعون بأبوة تبدو فاقدة الحيلة والتأثير، يقولون أن "هذا ما لا نتمناه من أبنائنا في الأحياء". ثم يقف واحد منهم ليقول "أنا مختار مسلم في الأشرفية أتحدى المختارين المسيحيين فيها أن ينالوا عدد الأصوات التي سأنالها من أبناء الأشرفية، لكن ذلك لا يعني أن الدنيا بألف خير، فغيري مهدد بالسقوط، وماذا سنفعل إذا لم ينجح مسيحي واحد في رأس بيروت؟" إنهم يشعرون أن عقاق الأبناء أقوى من رغبة الآباء في استئناف حياة مشتركة. وعدد مختاري بيروت بحسب القانون القديم الذي عُدّل 53، لم يلحظ توزيعاً طائفياً لهم، لكن العرف كان يقضي بأن يكون ثلاثة وعشرون منهم للطائفة السنّية، وثلاثة عشر للروم الأرثوذكس وخمسة للموارنة وأربعة للأرمن الأرثوذكس وإثنان للكاثوليك وإثنان للشيعة وإثنان للسريان الأرثوذكس، ومختار درزي وآخر من الطائفة الإسرائيلية يهودي. أما اليوم وبعد تعديل القانون فقد أصبح عدد مختاري بيروت مئة وستة، أي ضعف العدد السابق، ولم يلحظ القانون الجديد أي توزيع طائفي أيضاً. وقف الحاج زهير القيسي والى جانبه رئيس السن في الرابطة الحاج نقولا مجدلاني، لإدارة النقاش داخل الإجتماع، لكنهم لم يتمكنوا من ضبط الكلام الدائر والأحاديث الجانبية، والتحديات المتبادلة بين المخاتير على عدد الأصوات التي سينالونها. فلكل مختار همومه هذه الأيام، واحد يوزع بيان ترشحه على زملائه، وآخر يعلن تبرمه من عدم تمثيل منطقة ميناء الحصن في الهيئة الإدارية للرابطة، فيما يحدث مختار ثالث موظفاً في وزارة الداخلية عبر الهاتف الخليوي. أما كبار السن من المخاتير، وهم كثر، فبعضهم طلب من المتحدثين رفع أصواتهم حتى يتمكنوا من تمييزها لأن سمعهم ضعيف، وبعضهم الآخر أرسل أولاده لحضور الإجتماع، بعدما أفقده تقدمه في السن القدرة على الحضور شخصياً، ويساهمون بذلك في تدريبهم أولادهم على أعمال المخترة التي سيترشحون إليها من دون شك. والمختارون الذين هذه حال اجتماعهم، ظهروا بهيئاتهم وقيافاتهم، كمن اختبأ طوال سنوات الحرب، وفجأة عادوا يتحسسون أوضاعهم من بعيد، الى أن وثبوا الى الواجهة من جديد، بملامحهم نفسها التي غادروا بها أحياءهم وأخلوها لمتصدرين جدد. لكن وثوبهم هذا موقت وظرفي، يمكن ان تطيحه فورة صغيرة من فورات أبناء الأحياء الجدد. فما حصل خلال الحرب من تغييرات سكانية كان أقوى من أن يلغيه قرار بإجراء انتخابات بلدية واختيارية، ودعوة واحدة الى مناسبة كذكرى 14 آذار مارس يوم الجنوب اللبناني كفيلة بطغيان ملصقات هذه الذكرى، وصور شهداء الأحزاب على صور المرشحين الى المخترة من أبناء العائلات البيروتية الذين شكلت مناسبة الإنتخابات فرصة يتيمة لهم لالتقاط أنفاسهم. فالأسماء التي بدأت تذيل صور المرشحين للمخترة، مختلفة عن تلك الأسماء التي حفلت بها صور ملأت شوارع المدينة خلال ثلاثة عقود خلت. وغريبة بعض الشيء عن مدرك حديث لتوزع العائلات في بيروت، وهي ان سبق ان مرت على ذاكرته، فمن أماكن أخرى غير التمثيل البلدي والترشح الى المخترة. فميشال بخعازي المرشح في رأس بيروت، يقول أن والدته من آل ربيز، وله علاقات مصاهرة وصداقة مع آل حداد، وهو بهذا المعنى ابن لأكبر ثلاث عائلات أرثوذكسية في رأس بيروت، ويدخل ميشال في اعتبارات ترشحه عنصراً جديداً أيضاً، وهو أنه رياضي ومن مؤسسي نادي النهضة الرأس بيروتي. وهذه المعطيات غريبة بعض الشيء عن أذهان من حددت الحرب مسالك السياسة في عقولهم ووجدانهم، ولم يسبق لهم ان اختبروا دور العائلات المحلية، ودور الرياضة والعلاقات التي تنتجها في إنجاب نخب سياسية وإدارية واجتماعية. ثم ان العائلات التي ذكرها ميشال ما زالت في أذهانهم خارج المشهد اليومي لبيروت. فما كان يسمع عن آل بخعازي خلال الحرب هو اسم مستشفى بخعازي، وآل ربيز استمروا عبر مكتب مختارهم في شارع المكحول. وغاليري الفن التشكيلي الذي أطلق عليه اسم إحدى سيدات العائلة، وهذه أركان مكانية ضعيفة الحضور أمام مشهد المهجرين والأحزاب وأمام مشهد المؤسسات الضخمة والفنادق، وأعداد العابرين الهائلة التي تطغى على شوارع وأحياء رأس بيروت. ويبدو أن للرياضة تأثيراً يفوق تأثير التجاذبات السياسية في عمليات الترشح الى المخترة، خصوصاً أن قوى وسياسيين أعلنوا أن تدخلهم في انتخابات بيروت سيقتصر على البلديات. وابتعاد السياسة عن انتخابات المختارين قد يؤدي الى ظهور التأثيرات المباشرة لمصالح الناخبين، والرياضة هنا واحدة منها. وفور سؤال المرشح الى مختارية محلة دار المريسة عين المريسة خضر فرشوخ عن سيرته التي انتهت بترشحه يقول: "أنا حكم دولي ومحاضر في كرة السلة، ورئيس الإتحاد اللبناني للريشة الطائرة، وبطل لبنان السابق في السباحة، ورئيس لجنة حكام كرة السلة... والرياضة عكست في داخلي روحاً رياضية، فأنا أنظر الى المنافسة الإنتخابية على أنها مباراة بين فريقين والفائز يستحق الكأس. أما شعاري فهو ثلاثة ميم: مدرسة، مستوصف، مسكن. عشتم وعاش لبنان وعاشت محلة دار المريسة".