سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
على سبيل المشاركة في "المجالس" الخمسينية الفلسطينية كذلك . استعادة الإسم والوجه من قهر "إمبريالي" لا يوصف بنصب القتل والاقتتال قرينة على ولادة أمة وشعب
أدت هزيمة الجيوش العربية، المشرقية، مجتمعةً، في ربيع عام 1948، إلى استخلاص الفلسطينيين، جماعاتٍ وأفراداً، عبرتين أو درسين من الهزيمة التي تصورت في صورة نكبة "الحياة"، صفحة "أفكار"، في 16 أيار/ مايو 1998. فذهبت أولى العبرتين إلى أن ما حتم الهزيمة هو توسيط الدول العربية نفسها، وقواتها المسلحة، بين "الشعب" الفلسطيني وبين "اليهود"، وحؤولها تالياً دون مبادرة الفلسطينيين إلى القتال، ودون مباشرتهم القتال بأنفسهم ومن غير وسيط. بل إن الوساطة العسكرية والسياسية العربية هذه، وهي كانت "السبب" الأول في الهزيمة على حسب التأويل الفلسطيني الغالب يومها، إنما كانت القرينة الأوضح على ضلوع الدول و"الأنظمة" العربية في حياكة الكوارث التي كانت تحاك للعرب، على ما كان يقال قبل استقرار مصطلح "المنطقة". فلم يبق إلا استخلاص العبرة من الواقعة الجلية. وتقضي العبرة بمباشرة الفلسطينيين أنفسهم القتال دون أرضهم ووطنهم وقومهم و"عرضهم"، على ما قيل يومها وعلى ما ردد السيد وليد جنبلاط في أواخر صيف 1983. فرمي الفلسطينيين - ومعهم شطر وافر من المعارضات العامية العربية ونخبها المتحفزة للاستيلاء على السلطة منذ غداة الداهية الفلسطينية - التبعةَ عن الهزيمة العسكرية والسياسية على الأطقم الحاكمة التقليدية المتربعة في السلطة منذ الانتداب الأوروبي وبعده، وعلى قيادتها جيوشها تسليحاً وتدريباً وإعداداً، يدعو إلى تعليل أصعب بكثير من رد المؤرخ الاسرائيلي "الجديد" بيني موريس على دعوى إسرائيلية تنسب "هرب" الفلسطينيين أم "العرب الفلسطينيين"؟ إلى نداءات عربية بإخلاء القرى والمدن أمام أعمال الجيوش العسكرية والحربية. وقد يكون السبب في صعوبة التعليل واحد، وهو عمق ملابسة التخييل والتهويم طرق التعليل ووجوهه. أما العبرة الثانية، وحملها الشبان الفلسطينيون "بين الأضلع والحنايا"، فتقضي ببطلان القتال بواسطة الجيوش النظامية ومن طريق أساليب القتال التقليدية. فسوّغ هذا المذهب، على ضعف تماسكه، اعتداد الشبان الفلسطينيين بأنفسهم، وثورتهم على "أهلهم" وقيامهم عليهم، وغذى معارضتهم الأنظمة التقليدية وتلك التي خلفتها وانقلبت عليها باسم "فلسطين". فكان نهوض الشبان هؤلاء إلى العمليات العسكرية في بعض الأراضي التي أجلوا عنها لتوِّهم، من غير وسيط، وانتهاجهم "طريقة" هي غير طريقة الجيوش المهزومة والمكبلة، ولم تلبث أن عرفت ب"حرب الشعب" واجترحت الأعاجيب في الصين وفيتنام الفرنسية قبل الأميركية ثم في كوبا والجزائر - كانا النهوض والنهج رداً وافياً وتاماً، مطابقاً، على واقعة الهزيمة. وقد يكون نضوج هذا التصور عن الهزيمة أولاً، وعن الرد الشافي والوافي عليها ثانياً، هو العلة في خروج "المقاومة الفلسطينية"، أو "الكفاح الفلسطيني المسلح"، تامَّة الخلقة أو تامها من "رأس" الفتيان والشبان الفلسطينيين غداة الهزيمة الثانية في أواخر ربيع 1967. فألفى هؤلاء الفتيان والشبان أنفسهم في بلاد سياسية وثقافية معروفة ومألوفة، عرفوها وألفوها قبل عشرين عاماً، أو عرفها وألفها إخوتهم البكر الساعون في أسواق العمل العربية أو المنتظرون في المخيمات. ولا شك في أن انتصار الفيتناميين على الفرنسيين في ديان بيان فو 1954، وانتصار الجزائريين على الفرنسيين كذلك في ختام نحو ثماني سنوات من الحرب في 1962، وابتداء الحرب الفيتنامية الثانية في 1964 وتعاظم التورط الأميركي في العامين التاليين، إلى ظهور "الماوية" و"الغيفارية" مذهبين سياسيين وعسكريين عامين - لا شك في أن الانتصارات والتظاهرات هذه حملت كثرة من الأنصار والحزبيين الفلسطينيين، ومعهم عرب لا يحصون، على التوجه شطر الحرب والقتال وعلى تلخيص السياسة في الحرب والقتال. وقدم تناولُ السياسة على هذا النحو، الحربي والقتالي، الاشتباك والالتحام، الماديين والمباشرين، على الحرب السياسية المعقدة التي صاغ السياسيون المحاربون "قانونها" ومنطقها. ولعل تقديم الاشتباك والالتحام، في الحال "الآن وهنا"، على سياسة الحرب وتدبيرها المركب، مردّه إلى رجحان كفة الثأر، من الأهل ومن النفس، على كفة التدبير والإرادة. فولدت "المقاومة" وولد "الكفاح المسلح"، مقاتلين مستميتين ومقبلين على الموت غير هيابين، وولدا مخططين أمنيين ومخابرين قادرين على التصرف في الناس والحياة من غير قيد خلقي أو عقلاني، لكنهما لم ينجبا "جندياً" واحداً، أو استراتيجياً واحداً، على المعنى اليوناني القديم للكلمة. وإذا وُلدت السياسة الفلسطينية، ومعها السياسيون الفلسطينيون، قبل ثلاثة عقود، من رحم "المقاومة" و"الكفاح المسلح" و"حرب الشعب"، فهي وَلدت "سياسيين" على المثال القتالي الذي مر وصفه. فالمقاتلون والسياسيون الفلسطينيون، المولودون من الثأر للخسارة والهزيمة، ومن الانقلاب عليهما، سعوا في استعجال الهجمات والمنازعات، ونصبوا الهجوم والقتال معياراً لا يتقدمه معيار آخر ولا ينازعه المنزلة والشرف. بل إن السياسيين المقاتلين ماشوا قواعدهم وجموحها فنعتوا بالخيانة كل تردد في مباشرة الخلافات والمشادات على أنواعها وأصنافها، وجعلوا من المهادنة، أي من الأحلاف ومن تربص الظروف، صنو الخيانة. وقضوا بجواز القتل، أي بضرورته وعدله، في مثل هذه الأحوال. ولما كانت "الساحة" السياسية والاجتماعية الفلسطينية مسرحاً كثير النواحي والمنازع، متعرج الشعاب والطرق، وكانت "القضية" الفلسطينية كناية عن كل القضايا السياسية والاجتماعية والثقافية العربية، وواسطة لازمة إليها، على ما مرَّ، تكاثرت دواعي المهادنة والتحالف والمماطلة والتأليف، على خلاف المزاعم الأولى والمستمرة في الصلابة والاستقلال والصدارة. فنشأ ضرب "عربي" من السياسة غير معهود من قبل، هو مزيج من العنف المباشر والمحض، والصلف "الوطني" المسترسل، ومن الانقياد الذليل و"الواقعي" لنوازع أجهزة الحكم في بعض البلدان المضيفة ولمصالحها. فجمعت الحركة الفلسطينية ومنظماتها السياسية، المسلحة والأمنية، معظم أمراض السياسة والسلطان، من القتل الأعمى والاقتتال والاغتيال الداخليين والجماعيين إلى خدمة أغراض أهل السلطة المتحللين من كل وازع عقلاني حسابي أو خلقي. فجاز قتل النفس وقتل الغير، طفلاً رضيعاً أو امرأة أو شيخاً أو مسافراً آمناً أو سائحاً أو مقيماً، وجاز الخطف والتهديد والحبس والتعذيب والترويع، "في سبيل القضية". وحاز هذا كله وغيره في كل مكان وموضع، وفي كل وقت. ولم يكن هذا استثناءً ولا شواذاً، ولا كان مضمراً ولا كامناً. بل كان عاماً، وإن تباينت مجالاته ومضماميره. فمن لم يخطف الطائرات والمسافرين اتخذ الجماعات رهائن، وغذى الإقتتال الأهلي، ومده بأسبابه. ومن لم يعتمد الاغتيال الداخلي والمنظم نهجاً رفع لواء الحروب الأهلية العربية "برنامجاً" وطريقاً. ومن لم يكثر من الخطابة الثورية والأممية استتر بالظل والصمت على التصفيات والقتل. وتوسل هذا كله بالإعلان والإعلام على الملأ ورؤوس الأشهاد. بل كان فعله وإتيانه علناً وجهاً من أثره المتوقع والمنشود، وذلك قبل أن يستنفد الإعلان الغاية من الفعل. فتحولت "الثورة الفلسطينية"، أو "الثورة" من غير نعت، مشهداً إعلانياً، وجدارية عريضة بعرض العالم وخطوط مواصلاته الجوية، وخارطة مطاراته وحركاته الشبابية وأسواقه. ولم يصعب على المنظمات المسلحة والأمنية، وبعضها نوادٍ أسرية وبلدية وخلانية، "مخاطبة" العالم الأوسع بلغة خطف الطائرات، واحتجاز الرهائن، وإطلاق النار العشوائي على الجموع المختلطة الفعل السوريالي بامتياز، بحسب أندريه بريتون، "بابا" السوريالية، وإلباس المقاتلين الوطنيين أقنعة حلفاء من جنسيات بعيدة كناية عن اضطراب الهويات في زحمة عالم متشابك. والحق أن العالم هذا، يومها، كان يخطو خطواته الأولى في مدارج خلافة الحداثة، أو ما بعد الحداثة. وأخذ يجمع في وقت واحد، وفي مكان مشترك، أفعالاً وصوراً وعللاً ومعاني، مصادرها وأزمانها وتراثاتها كثيرة ومتفرقة، وكأن "المعنى" ينقدح من مجرد تجاورها - وهو، أي المعنى، صار من نوافل الأمور وصغائرها. وعلى مثال "الفهود السود" الأميركيين و"الألوية الحمراء" الإيطالية و"الجيش الأحمر" الألماني والياباني و"العمل المباشر" الفرنسي و"الجيش الجمهوري" الإيرلندي" وعلى مثال أقرب ربما هو المثال الجزائري في مرآة فرانتز فانون المارتينيكي وتأويله العنف معراجاً إلى استعادة النفس والوجه من السيد الأبيض وأقنعته" أوَّل الفلسطينيون المسلحون كل أفعالهم تظاهراتٍ جلية ونقية لتحررهم من التسلط والقهر الاستعماريين والإمبرياليين. وعلى هذا استوت أفعالهم في دلالتها الواحدة والثابتة على مقاومة السلطان الوحشي، الإستعماري والعنصري والرأسمالي جميعاً، الذي ابتليت "فلسطين"، الرسم والمعنى، بالتمثيل عليه أقوى تمثيل وأعنف تمثيل. ولم يتعثر الخمينيون بعقبة اعترضت أخذهم بهذا المنطق: ونسجهم عليه. فاجتمع التاريخ العربي القريب، و"العصرُ" وأفكاره وحروفه الظاهرة، على تسويغ الكناية الفلسطينية عن "المقاومة"، أصلاً وفروعاً، وعلى تصدرها العبارة عن "المقاومة" على رغم هزال أودها السياسي والتاريخي، وربما بسبب هذا الهزال. وهما اجتمعا كذلك على حمل كل عنف، بل كل رغبة في القتل، على السابقة الاستعمارية وعلى سلطانها الصلف والمتعجرف. فأُضعفت تبعة المقهور ومسؤوليته عن أفعاله، ونشبت هذه الأفعال، وانتهاكاتها، إلى القاهرين الظالمين. ولما وُصف قهرهم وظلمهم وانتهاكهم وصفاً حمَّلهم وحدهم كل التبعة والمسؤولية عن أفعالهم، ونفى عن المقهورين كل مسؤولية، ولخص الأفعال الاستعمارية في وجهها السالب وحده وقصرها عليه، جعل هذا الوصفُ المقهورين الفلسطينيين في حل من التزامهم الاقتصاد في القتل والاقتتال والتهديد والتسلط، حيث قدروا ووسعهم ذلك. وربما لم يكن احتضانُ "المنافي" العربية الحركة الوطنية الفلسطينية، واستنكاف الفلسطينيين في الضفة الغربية وغزة "العربيتين" عن الاحتضان، ضعيف الأثر في نازع السياسة الفلسطينية، غداة سنة 1967 وعشيتها، إلى تعصب قومي إثني خلاصي ومهدوي. فالمَهاجر، على ما لاحظت حنة آراندت، تضعف معظم الفروق التي تفرق المهاجرين المنتسبين إلى "أمة من الناس"، وتُجمعهم على رابطتهم الأعرض والأشد تجريداً، وهي إسمهم وكنيتهم. فيحسب المهاجرون أن تعظيمهم شأن الإسم والكنية، وتعصبهم لنسبهم هذا، يعصمانهم من التفرق والتشتت. وإلى مثل هذا المذهب ذهب بعض المهجريين اللبنانيين و"الترك" على ما سمى الأهالي الأميركيون اللاتين المهاجرين من الولايات العثمانية في أواخر القرن التاسع عشر وأولادهم وأحفادهم من أمثال أنطون سعادة، صاحب الحركة "القومية - الاجتماعية"، المترجمة عن نظيرها الألماني الهتلري. وقد لا تكون نشأة الحركات السياسية المعاصرة في المجتمعات العربية عن أيدي من تعرِّفهم الجماعات الغالبة أقلياتٍ قومية أو دينية أو اجتماعية أو ثقافية، بمنأى من أثر المهجر وفعله. فينسب أهل العصبية المتنبهة إلى الجماعة التي يتعصبون بها، ويتعصبون لها، الحق كله "وطني دائماً على حق"، على ما كتب رئيس جمهورية لبناني راحل، وعلى ما يكرر "نداء فلسطين" إلى العالم، اليوم، وفي كل الأوقات. فتقدس الجماعةُ نفسَها. ولا تشك القيادة في انبثاقها، أو "انبجاسها" على قول زكي الأرسوزي، من "روح الشعب" الواحد، ولا في صدورها عن هذا الروح. فيسع الأمة كلها، قيادة وشعباً وأشقاء وحلفاء ومثقفين، الإحتفال بنكباتها وانتصاراتها، وعظائم أمورها وصغائرها، مطمئنة إلى أنها مع الحق، وإلى أن الحق معها.