في الذكرى الخمسين لتأسيس إسرائيل والذكرى الخمسين أيضاً لنكبة فلسطين، من المفيد التعرف على موقف اليسار الألماني من دولة إسرائيل ومن الفلسطينيين والمراحل التي مرت بها علاقات اليسار بالطرفين، خصوصاً أن اليسار الألماني لم يكن موحد المواقف في المراحل المختلفة، على عكس اليمين المحافظ والوسط الليبرالي اللذين دعما السياسة الإسرائيلية دعماً مطلقاً ولم يريا في المنظمات الفلسطينية سوى مجموعات ارهابية إلى أن حصل اتفاق أوسلو. من بون كتب اسكندر الديك: إذا أردنا معرفة المرارة التي شعر بها الإسرائيليون من موقف اليسار الألماني من إسرائيل، لا بد من ذكر الكلمات التي كتبها الكاتب الإسرائيلي يورام كانيوك عام 1991 بعد حرب الخليج مباشرة، فقد كتب كانيوك يقول: "إن خيانة اليسار الألماني لإسرائيل تذكّر بصورة حزينة بالتضامن المنقوص الذي لقيه اليهود في أعوام الثلاثينات من جانب اليسار"، وهذه إشارة إلى ان أحزاب اليسار الألماني وقفت موقف المتفرج تجاه سياسة العداء لليهود وللسامية التي بدأها الحكم الهتلري النازي مع وصوله إلى ايسلطة في 1933، أو أنها خانت اليهود إذا استخدمنا كلمات الكاتب الإسرائيلي كانيوك الذي شاء تشبيه موقف اليساريين الألمان اليوم بموقف اليسار الألماني في الثلاثينات. ولكن الواقع هو ان الدعم المطلق الذي حظيت به إسرائيل بعد تأسيسها عام 1948 من جانب الأحزاب والقوى اليسارية الألمانية باعتبار ان هذا التأسيس هو "التعويض المعنوي والاخلاقي" على ما تعرض له اليهود من اهانة وتحقير وتعذيب وإبادة منظمة على يد النازيين الألمان، استمر ثابتاً حتى حرب الخامس من حزيران يونيو 1967 التي سجلت أول تحول مهم في موقف هذا اليسار الذي "انتبه" فجأة إلى وجود ضحية اسمها الشعب الفلسطيني، إضافة إلى قيام إسرائيل باحتلال أراضٍ عربية أخرى. وبما أن اليسار الألماني كان يحمل في مقولاته السياسية مُثُل العداء للفاشية والدفاع عن الشعوب المضطهدة وعن حقها في تقرير مصيرها، بدأ يعي بالملموس ان إسرائيل تمارس سياسة استيطانية في أراضٍ محتلة وتعامل سكانها الفلسطينيين معاملة شبيهة تقريباً بما تعر ض له اليهود على أيدي النازيين، الأمر الذي شكل الصدمة الأولى، ولكن المهمة التي جعلتهم يعيدون التفكير في موقفهم الايديولوجي - السياسي من إسرائيل. ولا بد من الإشارة هنا إلى أهمية الموقف الذي كانت تتخذه المانيا الديموقراطية السابقة من إسرائيل خصوصاً بعد عام 1967 وتنديدها الشديد بسياستها الاستيطانية ووصفها للصهيونية بأنها ايديولوجية عنصرية. وقد ترك هذا الموقف تأثيراً ولا شك على الحركة اليسارية في المانيا الاتحادية. كما تجدر الاشارة إلى أن اليسار الألماني هو الذي ضغط على حكومات اليمين المحافظ في البلاد لتبادل الاعتراف الديبلوماسي مع إسرائيل، هذا الاعتراف الذي كان يؤجل "لأسباب سياسية" أكثر من مرة، إلى أن تم التبادل الديبلوماسي عام 1965. والطريف في الأمر أنه في الوقت الذي بدأ فيه اليسار الألماني في مراجعة موقفه من إسرائيل بعد حرب 1967 كان اليمين المحافظ يحول تحفظه السابق إلى دعم سياسي مطلق لإسرائيل إثر استعار الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي سابقاً والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولاياتالمتحدة، وقيام عدد كبير من الدول العربية بقطع علاقاتها الديبلوماسية مع المانيا الاتحادية رداً على اعترافها بإسرائيل. ويمكت القول هنا أيضاً إن إسرائيل أصبحت موضوعاً يومياً في مناقشات اليسار الألماني بعدما تأكد أنها تحولت في إطار الحرب الباردة الدائرة في العالم إلى حليف أساسي للولايات المتحدة التي يتهمها اليسار بالامبريالية. وتركزت مناقشات القسم الأكبر من اليسار الألماني على أن إسرائيل تحولت بعد حرب 1967 وبعد احتلالها لأراضٍ عربية من موقع الضحية إلى موقع المجرم. وأصبح الفلسطينيون مذذاك في موقع الضحية الفعلي لدى اليساريين الألمان الذين اكتشفوا القضية الفلسطينية وبدأوا في سرعة برفع راياتها. وفي 1969 كتب ديتر كونتسلمان أحد رموز اليسار في تلك الحقبة يقول: "عندما نتعلم أخيراً منهم الايديولوجية الفاشية الصهيونية فلن نتردد بعد الآن في تبديل مفهومنا المبسط لفلسفة السامية من خلال إبراز تضامن واضح مع منظمة فتح التي بدأت في الشرق الأوسط بمحاربة الرايخ الثالث"، أي إسرائيل. لكن ما لبث أن ظهر التمايز داخل اليساريين الألمان بسرعة على السطح بين يسار "متطرف" تجاه إسرائيل، ويسار "معتدل"، ويسار مؤيد لها ومتجاهل لأعمالها ولسياساتها المتعارضة عملياً مع مثله وقناعاته، ففي العام 1967 أصدر عشرون مثقفاً المانياً بينهم الكاتبان المعروفان غونتر غراس وفالتر ينس بياناً بعد حرب الخامسة من حزيران، حذروا فيه بالفعل من "إسرائيل التوسعية"، إلا أنهم شددوا بوضوح على حقها في الوجود. كما أن الزعيم الحالي لحزب الخضر يوشكا فيشر، اليساري الفوضوي السابق وأحد المشاركين المعروفين بأحداث ال 68 الطلابية، لم يتوان عن اتخاذ موقف مؤيد بالكامل لإسرائيل في تلك الفترة ومندد بالتضامن مع الفلسطينيين. فقد ذكر مرة ان التماثل في المصالح مع الفلسطينيين "أمر أناني جداً ويعود لمصالح لا يمكن سبر أغوارها". وتابع يقول إن هنالك إشارات عديدة بأن اليسار يحاول عن طريق الادعاء بأن "الذنب اليهودي" المزعوم هو سبب شقاء الفلسطينيين هدفه "خلع الذنب عنهم كألمان من الجيل الثاني من تهمة جريمة الابادة التي قام بها الآباء". ومع ذلك، يمكن القول إن النقد الايديولوجي والسياسي الموجه من جانب اليسار الألماني إلى إسرائيل استمر حتى حرب الخليج. ولم يجد العديد من اليساريين الألمان حرجاً خلال هذه الحرب من التنديد العلني بالقوات العسكرية الأميركية والبريطانية والفرنسية وغيرها التي حاربت العراق، ودان أيضاً بشدة الدعم المالي الذي قدمته المانيا لهذه الحرب الذي وجد فيها عملاً استعمارياً. وتضامن قسم مهم من اليسار مع متظاهري حركة السلام المنددة بحرب الخليج في الوقت الذي كانت صواريخ سكود العراقية تسقط على إسرائيل. وبرر أحد ممثلي حزب الخضر اليساريين هانس كريستيان شتروبله اطلاق العراق للصواريخ قائلاً: "إن الهجوم العراقي بالصواريخ على إسرائيل هو النتيجة المنطقية، والاجبارية حتى، للسياسة الإسرائيلية المتبعة". هذا الكلام وغيره أثار في إسرائيل عموماً، ولدى العديد من المثقفين اليساريين خصوصاً، شعوراً بالمرارة والصدمة من اليسار الألماني، كما كتب الباحث الألماني راينهارد رينغر في كتابه "اليسار الألماني ودولة إسرائيل". ومع ذلك، لا بد من القول إن إقامة علاقات جيدة بين المانيا وإسرائيل لا يزال هدفاً لا خلاف عليه بين مختلف أقسام اليسار الألماني، خصوصاً لدى الحزب الاشتراكي الديموقراطي وحزب اتحاد التسعين - الخضر. ولكن هذه العلاقة تشهد في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد مجيء حكومة نتانياهو، توتراً متزايداً، كما أشارت إلى ذلك مصادر في الحزب الاشتراكي الديموقراطي. وأضافت هذه المصادر انه إلى جانب علاقة الصداقة الموجودة بفعل الشعور بالواجب التاريخي للألمان تجاه اليهود، فإن الحزب يتمسك بقوة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة. هذا المطلب هو أيضاً سياسة حزب الاشتراكية الديموقراطية الشيوعي الاصلاحي الذي انبثق عن الحزب الشيوعي السابق في المانياالشرقية والذي يمكن الإشارة إلى أن علاقاته مع إسرائيل الرسمية مقطوعة أو متوترة في أحسن الحالات، وذلك على رغم أن زعيمه غريغور غيزي يهودي الأصل. أما حزب الخضر، فإنه لا يزال يعاني، حسبما تقول مصادر فيه، من آثار ردة الفعل الإسرائيلية على كلام شتروبله ومن اتهام الحزب بأنه يؤوي يساريين معادين للسامية، ولذلك فإن خطه السياسي تجاه الفلسطينيين وتجاه السياسة الاستيطانية الإسرائيلية وخرق حقوق الإنسان خط غير واضح وحساس جداً من أية ردة فعل إسرائيلية، ولو ان الاتجاه العام فيه هو نحو تحسس أفضل للقضية الفلسطينية.