القيادة تهنئ رئيس جمهورية ألبانيا بذكرى استقلال بلاده    "اليونسكو": 62٪ من صناع المحتوى الرقمي لا يقومون بالتحقق الدقيق والمنهجي من المعلومات قبل مشاركتها    انخفاض أسعار النفط وسط زيادة مفاجئة في المخزونات الأميركية وترقب لاجتماع أوبك+    أمير الرياض ونائبه يؤديان صلاة الاستسقاء في جامع الإمام تركي بن عبدالله    بالتضرع والإيمان: المسلمون يؤدون صلاة الاستسقاء طلبًا للغيث والرحمة بالمسجد النبوي    محافظ صبيا يؤدي صلاة الإستسقاء بجامع الراجحي    في «الوسط والقاع».. جولة «روشن» ال12 تنطلق ب3 مواجهات مثيرة    الداود يبدأ مع الأخضر من «خليجي 26»    27 سفيرا يعززون شراكات دولهم مع الشورى    1500 طائرة تزيّن سماء الرياض بلوحات مضيئة    «الدرعية لفنون المستقبل» أول مركز للوسائط الجديدة في الشرق الأوسط وأفريقيا    المملكة تشارك في الدورة ال 29 لمؤتمر حظر الأسلحة الكيميائية في لاهاي    مصير غزة بعد هدنة لبنان    السعودية ترأس اجتماع المجلس التنفيذي ل«الأرابوساي»    وزير الصحة الصومالي: جلسات مؤتمر التوائم مبهرة    السياحة تساهم ب %10 من الاقتصاد.. و%52 من الناتج المحلي «غير نفطي»    شخصنة المواقف    أمانة القصيم تنجح في التعامل مع الحالة المطرية التي مرت المنطقة    سلوكياتنا.. مرآة مسؤوليتنا!    «الكوري» ظلم الهلال    أمير تبوك يستقبل رئيس واعضاء اللجنة الوطنية لرعاية السجناء والمفرج عنهم    النوم المبكر مواجهة للأمراض    النضج الفكري بوابة التطوير    برعاية أمير مكة.. انعقاد اللقاء ال 17 للمؤسسين بمركز الملك سلمان لأبحاث الإعاقة    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    الملك يضيف لؤلؤة في عقد العاصمة    الموارد البشرية توقّع مذكرة لتأهيل الكوادر الوطنية    أنا ووسائل التواصل الاجتماعي    وزير الرياضة: دعم القيادة نقل الرياضة إلى مصاف العالمية    نيمار يقترب ومالكوم يعود    الذكاء الاصطناعي والإسلام المعتدل    الشائعات ضد المملكة    وفاة المعمر الأكبر في العالم عن 112 عامًا    التركي: الأصل في الأمور الإباحة ولا جريمة ولا عقوبة إلاّ بنص    بحث مستجدات التنفس الصناعي للكبار    مستشفى الدكتور سليمان الحبيب بالريان يُعيد البسمة لأربعينية بالإنجاب بعد تعرضها ل«15» إجهاضاً متكرراً للحمل    في الجولة الخامسة من يوروبا ليغ.. أموريم يريد كسب جماهير مان يونايتد في مواجهة نرويجية    خادم الحرمين الشريفين يتلقى رسالة من أمير الكويت    دشن الصيدلية الافتراضية وتسلم شهادة "غينيس".. محافظ جدة يطلق أعمال المؤتمر الصحي الدولي للجودة    "الأدب" تحتفي بمسيرة 50 عاماً من إبداع اليوسف    المملكة ضيف شرف في معرض "أرتيجانو" الإيطالي    تواصل الشعوب    ورحل بهجة المجالس    إعلاميون يطمئنون على صحة العباسي    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    تقليص انبعاثات غاز الميثان الناتج عن الأبقار    الزميل العويضي يحتفل بزواج إبنه مبارك    احتفال السيف والشريف بزواج «المهند»    يوسف العجلاتي يزف إبنيه مصعب وأحمد على أنغام «المزمار»    «واتساب» تختبر ميزة لحظر الرسائل المزعجة    اكتشاف الحمض المرتبط بأمراض الشيخوخة    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هؤلاء هم المرجفون    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    أهمية الدور المناط بالمحافظين في نقل الصورة التي يشعر بها المواطن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خمسون عاماً على حرب 1948 : العلاقات بين الدول العربية عشية الحرب 2 من 9
نشر في الحياة يوم 16 - 05 - 1998

أشرنا في الحلقة الأولى الى فقدان الرؤية الواحدة الموحدة العربية حول الهدف من الحرب ومن دخول الجيوش العربية فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني واعلان قيام دولة اسرائيل في 15 أيار مايو 1948، ولا بد هنا من التطرق ببعض الاسهاب الى العلاقات بين الدول العربية عشية دخول الجيوش العربية فلسطين.
كانت الظاهرة الأساسية لهذه العلاقات انقسام الحكومات العربية الفاعلة الى كتلتين: الأولى الكتلة الهاشمية التي ضمت العراق وشرق الأردن. والثانية الكتلة التي ضمت كلاً من سورية ولبنان ومصر والعربية السعودية. وكانت عواصم كل من الكتلتين تنظر بعين الشك والريبة الى عواصم الكتلة الأخرى علماً بأن العراق كان يتنازعه تياران احدهما يميل الى التعاون المحكم مع الشقيقة الأردنية الهاشمية وثانيهما اميل الى مدّ الجسور الى العواصم غير الهاشمية خاصة في ما يتعلق بفلسطين. وكان مصدر الشك والريبة الأكبر في هذه العواصم الأخيرة مشروع سورية الكبرى لضم كل من سورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن في كيان واحد يدخل في اتحاد مع العراق تحت الرعاية الهاشمية بالتفاهم مع بريطانيا وهو مشروع كان نوري السعيد أول من طرحه علناً في مطلع الأربعينات على اثر فشل الحركة الكيلانية في العراق وتلقفه منه الملك عبدالله في الأمس القريب 1946 بعد استقلال جمهوريتي سورية ولبنان وتأزم الأوضاع في فلسطين بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان التخوف من سورية الكبرى يستحوذ أكثر ما يستحوذ على دمشق الجمهورية. ويفيدنا الأمير عادل ارسلان وهو العالم ببواطن مشاعر الحكومة السورية بقيادة شكري القوتلي "ان اخونا شكري لازمته حمّى الخوف من سورية الكبرى مدة طويلة فكان دائم الرعدة قلق الرقدة يرى في منامه جيش الأردن زاحفاً على دمشق والملك عبدالله فوق ام عرقوب وتحت سنابكه جثة عبدالكريم العائدي محافظ حوران وحامي حدود الجمهورية". ويتابع ارسلان "رأي شكري بك في قضية فلسطين غير سديد فعبدالله لا يريد الا توسيع مملكته غرباً كان ذلك أو شمالاً فإن استطاع انقاذ القدس بجيشه والمشاركة في تدمير تل أبيب فلتكن فلسطين له فإن صارت له قنع بها ورغب فيها دون سورية"، بيد أن سائر من كان في أيديهم الحل والربط في العواصم غير الهاشمية لم يشاركوا ارسلان في نظرته المرنة الرحبة هذه بل رأوا في كل بادرة أو خطوة يقدم عليها عبدالله تجاه فلسطين مقدمة لتحقيق سورية الكبرى وتمهيداً لها بالتواطؤ مع بريطانيا. ولعل أبلغ دليل على مخاوف هذه العواصم ما جاء في بيان ملكي تلي بحضور الملك فاروق في القاهرة في 12 نيسان ابريل في أعقاب سقوط القسطل وواقعة دير ياسين على حشد من قادة العرب ضم كلا من الأمير فيصل بن عبدالعزيز وجميل مردم بك ورياض الصلح والحاج أمين الحسيني وسيف الاسلام عبدالله وفوزي الملقي عن شرق الأردن ونصرت الفارسي عن العراق وعبدالرحمن عزّام عن الجامعة العربية معلناً لأول مرة موافقة مصر على دخول الجيوش العربية فلسطين بعد 15 أيار 1948، قال البيان "إذا دخلت جيوش عربية فلسطين لانقاذها فجلالته يود أن يكون مفهوماً صراحة أنه يجب النظر الى هذه التدابير كاجراء موقت خال من كل صفة من صفات الاحتلال أو التجزئة لفلسطين وأنه بعد تحريرها تسلم الى أصحابها ليحكموها كما يريدون".
موقف عمان من التقسيم
المفارقة ان مخاوف العواصم غير الهاشمية لم تكن عديمة الأساس ان لم يكن في صدد سورية الكبرى فبالنسبة الى ما كانت عمان بالفعل تخطط له لفلسطين بالتفاهم ليس فقط مع بريطانيا ولكن مع القيادة الصهيونية ذاتها فارتباط شرق الأردن بمستقبل فلسطين السياسي يعود طبعاً الى اطار نظام الانتداب الذي تأسس بعيد الحرب العالمية الأولى والذي شمل البلدين تحت إدارة بريطانية عليا واحدة كما يعود بشكل خاص الى مشروع التقسيم الأول الذي طرحته بريطانيا عام 1937 مشروع اللورد بيل الذي نص على الحاق القسم العربي من فلسطين بشرق الأردن.
وفي أعقاب إحالة القضية الفلسطينية الى الأمم المتحدة من قبل بريطانيا عام 1947 واعلانها عن نيتها انهاء الانتداب والانسحاب من البلاد ووشوك صدور قرار بتقسيم البلاد من الأمم المتحدة برزت العلاقة بين شرق الأردن ومستقبل فلسطين السياسي مجدداً ولكن بالحاح أشد. وهكذا بدأت سلسلة اتصالات في غاية السرية والكتمان بين عمان والقيادة الصهيونية ولكن بمعرفة بريطانيا كان أولها وأخطرها لقاء بين الملك عبدالله وغولدا مايير في 17 تشرين الثاني نوفمبر 1947 جنوب بحيرة طبريا قبل صدور قرار التقسيم بأقل من اسبوعين وأسفر اللقاء عملياً عن معاهدة عدم تعدي بين الطرفين يقبل الطرف الصهيوني فيها بالحاق الأقسام العربية بموجب التقسيم بشرق الأردن وبدخول الجيش العربي أي جيش شرق الأردن اليها شرط عدم تعديه حدود الدولة اليهودية المقترحة، وتبعت هذا اللقاء الذي لم يكن الأول بين ممثلين لعمان وتل أبيب عدة لقاءات مثل الطرف الشرق الأردني فيها الدكتور شوكت الساطي احياناً وعمر الدجاني المقدسي احياناً أخرى والطرف الصهيوني الياهو ساسون رئيس القسم العربي في الوكالة اليهودية أو أحد معاونيه. وتمت هذه اللقاءات في 8 كانون الأول ديسمبر 1947 ومطلع كانون الثاني يناير 1948 و27 كانون الثاني 1948 وارسلت الوكالة اليهودية وبن غوريون نفسه برقيتي اعتذار وتعزية الى الملك عبدالله في 12 نيسان بعد واقعة دير ياسين. وفي 3 أيار قابل سراً الكولونيل د. غولدي والميجور س. كوكر البريطانيان وكان الأول قائد اللواء الأول والثاني أركان حرب القيادة في الجيش العربي اثنين من كبار ضباط الهاغانا وكان الذي أوفد الضابطين البريطانيين هو الجنرال غلوب ابوحنيك قائد الجيش العربي نفسه اما لب الرسالة التي حملاها حسب رواية المؤرخ الاسرائيلي آفي شلايم الأستاذ في جامعة اكسفورد الذي أجرى مقابلة مع الكولونيل غولدي فهي "ان غلوب سيحجم عن تقدم قواته في فلسطين حتى يمنح الهاغانا الوقت الكافي للسيطرة على المناطق اليهودية حسب قرار التقسيم وأنه ينوي الدخول بعد ذلك في معركة صورية mock battle مع الهاغانا إذا ما اضطر الى ذلك" ويسأل غولدي ضابطي الهاغانا عن النوايا اليهودية وهل هم يريدون احتلال فلسطين بكاملها فيجيب احدهما ان مسألة الحدود تعود الى السياسيين ولكن إذا اقتضت الضرورة العسكرية ذلك فلدى الهاغانا الطاقة لاحتلال فلسطين بأسرها، ويسأل غولدي عن احتمال تفادي الصدام في القدس فيجاب عن ذلك بالقول انه إذا بقيت الطريق من الساحل الى القدس مفتوحة ولم يتعد الجيش العربي على القدس الغربية حيث معظم الأحياء اليهودية ولا على المستعمرات اليهودية المحيطة بالقدس ولا على الطرق المؤدية اليها فتزول بذلك كل أسباب الصدام في القدس ويفترق المجتمعون على أن يقيموا صلة اتصال دائمة بين الطرفين، وفي ليلة 10 - 11 أيار قبل اعلان قيام اسرائيل بأربعة أيام. يتم لقاء بين غولدا مايير نائبة رئيس الدائرة السياسية موشى شرتوك وفي ما بعد شاريت في الوكالة اليهودية في عمان مع الملك عبدالله حيث تأتي غولدا متخفية وتنقل غولدا انطباعاتها عن موقف الملك عبدالله الى القيادة الصهيونية وفحواها أنه قد طرأ على هذا الموقف تبديل جذري منذ لقائها الأول معه في تشرين الثاني 1947 وأنه الآن يعطي القيادة الصهيونية الخيار بين الحرب وبين القبول بمجرد حكم ذاتي يهودي تحت العرش الهاشمي وتركز معظم الأدبيات الصهيونية على هذا "التحول" المزعوم تبريراً لعملياتها العسكرية داخل الأراضي العربية بموجب التقسيم وخاصة في القدس، ونقول "المزعوم" لأننا لا نعتقد أن الملك عبدالله كان قادراً على استعمال الجيش العربي وانه كان يدرك ذلك كل الادراك كما كانت القيادة الصهيونية تدركه كل الادراك. وفي الواقع كان الملك عبدالله قد أوفد رئيس وزرائه توفيق أبو الهدى وبصحبته الجنرال غلوب لمباحثة المستر ارنست بيغن وزير الخارجية البريطاني حول دور الجيش العربي الأردني في فلسطين بعد انتهاء الانتداب البريطاني وتم اللقاء في لندن في 9 شباط فبراير 1948 ويخبرنا الجنرال غلوب في مذكراته انه حضر الاجتماع بصفة "مترجم" وأنه قام بترجمة كلام أبو الهدى عبارة عبارة ويروي غلوب: "قال أبو الهدى ان الانتداب البريطاني على فلسطين سينتهي بعد قليل ولقد أعدّ اليهود لذلك حكومة لتتولى أمورهم كما أن لديهم جيشاً جاهزاً هو الهاغانا ولكن الفلسطينيين لم يتهيئوا للأمر ولا قادة لديهم قادرين على تنظيم ادارة مدنية لهم أو قوات مسلحة تحميهم فإذا بقي الأمر على حاله فسيحدث أحد أمرين: اما يحتل اليهود كل فلسطين لغاية نهر الأردن أو يعود المفتي الحاج أمين الحسيني لينصب نفسه حاكماً على فلسطين العربية وكلا الاحتمالين لا يناسبان لا بريطانيا ولا شرق الأردن فالمفتي ألدّ اعداء بريطانيا أمضى سني الحرب مع هتلر في برلين وهو يحمل نفس العداء لشرق الأردن ويعتبر نفسه الخصم الشخصي للملك عبدالله".
ويتابع غلوب مترجما لابي الهدى "ولقد تلقى الملك عبدالله في الأسابيع الأخيرة العديد من النداءات من أعيان فلسطين تطالب بحماية الجيش العربي بعد انسحاب القوات البريطانية لذلك كله فإن حكومة شرق الأردن تقترح ارسال الجيش العربي عبر نهر الأردن عند نهاية الانتداب البريطاني لتحتل تلك المناطق التي منحت للعرب بموجب قرار التقسيم والمتاخمة لحدود شرق الأردن".
ويضيف غلوب "ما زلت الى هذا اليوم قادراً على استرجاع صورة الوزير بيغن جالساً وراء مكتبه في تلك الغرفة الرائعة وهو يقاطع أبو الهدى قائلاً: "جليّ ان هذا ما يجب أن يفعل It seems the obvious thing to do"، ويتابع غلوب روايته بقوله: "هنا نبهت أبو الهدى بالعربية الى أن الجيش العربي لا يستطيع احتلال قطاع غزة ولا الجليل الأعلى الذين منحا للعرب بموجب قرار التقسيم فردد أبو الهدى ما قلته بالعربية وقمت بدوري بترجمته الى الانكليزية للمستر بيغن فكرر بيغن ما قاله لتوه ولكنه أضاف "اياكم ان تذهبوا لاحتلال المناطق الممنوحة لليهود" Do not go and invade the areas alloted to the Jews، وأجاب ابو الهدى فوراً "ليس لدينا القوة لذلك حتى لو أردناه"، وهكذا ينتهي اللقاء مع وزير الخارجية البريطانية ويشكر بيغن أبو الهدى على ايضاحه الصريح لموقف شرق الأردن ويكرر موافقته على الخطة التي طرحها عليه.
ولقد أوردنا هذه التفاصيل اعلاه للتدليل على عمق الهوة التي كانت تفصل بين نوايا الأطراف العربية عشية الحرب. ومما زاد من خطورة الأمر ان الجيش العربي على قلته كان أقوى الجيوش العربية وأقربها الى فلسطين بل ان وحدات منه كانت منتشرة داخل البلاد حتى آخر يوم من الانتداب تحت قيادة القوات البريطانية للشرق الأوسط.
موقف بريطانيا من الحرب
تركز معظم الأدبيات الصهيونية عن حرب 1948 على موقف بريطانيا العدائي من اسرائيل خلالها وعلى سعيها الدؤوب لخنقها "في المهد" بواسطة الجيوش العربية ومن الواضح كامل الوضوح حتى مما سلف - وهو بعض من كل - ان هذا انما هو ذر للرماد في العيون وتحويل للأنظار عن مشاريع اسرائيل ذاتها الهجومية قبل 15 أيار وبعده خاصة بالنسبة للقدس وهي الواقعة في وسط الدولة العربية بموجب قرار التقسيم وان كانت ستكون تحت إدارة دولية مستقلة حسب هذا القرار ولو أرادت بريطانيا بالفعل ان تؤذي الدولة العبرية لاستغلت سيطرتها شبه التامة على الجيش العربي الأردني ومعاهدتيها الدفاعيتين مع كل من مصر والعراق لهذا الغرض ولكن الذي حصل هو عكس ذلك تماماً اذ استخدمت السيطرة البريطانية على الجيش العربي الأردني ومعاهدتيها الدفاعيتين مع مصر والعراق وسائل لضبط تحرّك جيوش هذه الدول العربية الثلاث وتقييد عملياتها في فلسطين بعد 15 ايار 1948 وفق مصلحة بريطانيا العليا في الشرق الاوسط ومصلحتها الكونية بعد قيام الحرب الباردة في الحفاظ على تحالفها الاستراتيجي الاساسي مع شريكتها الغربية الكبرى الولايات المتحدة راعية اسرائيل والصهيونية وزعيمة الدول الغربية من دون منازع.
وبديهي ان معاهدات بريطانيا الدفاعية مع كل من شرق الاردن ومصر والعراق كان هدفها اصلاً وفي الاساس تمكين بريطانيا حفاظاً على نفوذها في المشرق العربي من ضبط جيوش هذه الدول العربية وحصر مصادر تسلّحها وانظمة سلاحها وذخيرتها بها من دون غيرها احكاماً لسيطرتها على عواصمها وحكوماتها وسياساتها الاقليمية المشرقية ولا يتسنى للقارئ العربي فهم مستوى الاداء للجيوش العربية في فلسطين بعد 15 ايار الا بفهمه لمستوى تبعية حكومات الدول العربية المعنية لبريطانيا داخل نظام المعاهدات غير المتساوية التي كان قد فرضتها عليها منذ العشرينات اضافة الى فهمه لعمق الخلافات العربية التي ذكرنا.
ولم يكن انسحاب بريطانيا من فلسطني انسحاباً تكتيكياً وهي التي انسحبت من شبه القارة الهندية في السنة نفسها وكان لها في فلسطين في اواخر سني الانتداب جيوش جرّارة بلغ عدها ما ينوف عن 100.000 جندي من اكثر محاربيها تجربة في الحرب العالمية الثانية وهي لم تنسحب من ابواب فلسطين حتى تعود اليها من نافذة خلفية عبر جيش عربي جيش شرق الاردن الذي لم يزد عديده عن 6000 جندي وهو عماد نفوذها في عمان الصديقة الحميمة وفي صحارى المشرق لتلقي به في أتون مجابهة مع قوى يهودية تكبره بعشرة اضعاف على الاقل ولكنها انسحبت من فلسطين لأن بقائها فيها اصبح يهدد علاقتها الاستراتيجية مع واشنطن بقيادة الرئيس هاري ترومان الذي اعترف باسرائيل خلال دقائق من اعلانها.
صحيح انه كان في الخارجية البريطانية تيار قوي من الموظفين الدائمين البعيدي النفوذ الذين كانوا يدركون ان مصلحة بريطانيا في الشرق الاوسط بالذات تتطلب سياسة مؤيدة لمطالب العرب في فلسطين وان وزير الخارجية بيغن نفسه كان يتزعم هذا التيار الا ان الوزارة البريطانية كانت منقسمة على نفسها بالنسبة لفلسطين عموماً وكان معظم اعضائها في الواقع من مؤيدي الصهيونية لاعتبارات عقائدية وعاطفية اشتراكية. ولقد حاول التيار المناصر للعرب تقديم بعض العون على الصعيد الديبلوماسي خلال مرحلة القتال الاولى 15 ايار/ ايار - 11 حزيران/ يونيو كما سيرد لاحقاً الا ان الاعتبار المهيمن على لندن كان الحرص على تحاشي الصدام مع الولايات المتحدة خصوصاً بعد ان تبنّت هذه الاخيرة في هيئة الامم المتحدة بعد 15 ايار وبالتضامن مع الاتحاد السوفياتي سياسة تقوم على عناصر ثلاثة: اولاً ايقاف اطلاق النار. ثانياً التلويح بفرض العقوبات على الطرف المخالف لإرادة الامم المتحدة اي العرب. وثالثاً وجوب فرض نظام حظر دولي وعدم تقديم اي عون عسكري لأي من الطرفين المتنازعين. وكان من شأن العنصر الثالث خاصة تسليط الاضواء على المعاهدات الدفاعية بين بريطانيا والدول العربية وهو القصد منه اصلاً بإيعاز من الديبلوماسية الصهيونية حتى اصبحت بنود هذه المعاهدات التي تنصّ على واجبات بريطانيا تجاه الاطراف العربية مستهدفة وعرضة للتعليق والتجميد وهو ما حصل فعلاً.
ومما زاد في تعقيد الامور في العلاقات بين بريطانيا والدول العربية الثلاث المتحالفة معها ان العلاقات بين الاولى وبين كل من مصر العراق كانت تمرّ منذ انتهاء الحرب العالمية بأزمة حادة محورها رغبة البلدين العربيين في تعديل المعاهدة التي كانت تربط كليهما ببريطانيا تعديلاً جذرياً. وفي كانون الاول ديسمبر 1948 طالبت مصر بمثل هذا التعديل او بإلغاء معاهدة 1936 مع بريطانيا كلياً بهدف اجلاء القوات البريطانية عن البلاد وضمان "وحدة وادي النيل" اي السيادة المصرية على السودان ومع ان رئيس الوزارة المصرية اسماعيل صدقي وصل سنة 1946 الى تفاهم مبدئي مع وزير الخارجية البريطاني حول هذا الامر الاّ ان المحادثات تعثرت واضطر صدقي للاستقالة وعقبة محمود فهمي النقراشي الذي قدّ شكوى على بريطانيا الى مجلس الامن عام 1947 وبقيت القضية معلّقة خلال حرب فلسطين وهو ما جعل النقراشي يعارض بشدة تدخل القوات المصرية في فلسطين الى ان القى الملك فاروق ثقله الى جانب التدخل لاعتبارات تتعلق بالعلاقات العربية - العربية في 12 نيسان ابريل كما أسلفنا.
اما العراق فقد وقّع رئيس وزرائها صالح جبر في كانون الثاني 1948 في مدينة بورتسموث في بريطانيا اي بعد قرار هيئة الامم بتقسيم فلسطين بأقل من الشهرين على مسودة معاهدة مع بريطانيا تحلّ محلّ معاهدة 1930 وتؤكد على "حرية ومساواة واستقلال" العراق ووجوب تسليم بريطانيا لقواعدها الجوية في البلاد الى العراق وقيام مجلس دفاع مشترك بين الطرفين الاّ ان المعارضة الوطنية الضعيفة في العراق لبنود مسودة المعاهدة الجديدة اضطرت جبر الى الاستقالة خلال ايام من التوقيع عليها وخلفه في رئاسة الوزارة محمد الصدر الذي ألغى معاهدة بورتسموث فبقيت معاهدة 1930 الاثقل قيوداً سارية الفعل خلال حرب 1948 وبعدها الى ان حلّ اتفاق حلف بغداد محلها عام 1955.
وانعكست هذه الازمات في العلاقات بين لندن وكل من القاهرة وبغداد انعكاساً خطيراً على مدى استعداد بريطانيا لتنفيذ بنود معاهديتها القائمتين مع العاصمتين العربيتين وحتى قبل اقرار الحظر من قبل هيئة الامم المتحدة. فبالنسبة للعراق مثلاً يذكر تقرير سري للحكومة العراقية ان العراق اوفد الى لندن في خريف 1947 وفداً برئاسة وزير الدفاع شاكر الوادي بشأن تزويد الجيش باحتياجاته من الاسلحة والأعتدة توقعاً لاحتمال تدخله في فلسطين.
يقول التقرير: "تقدم الوفد بطلباته غير انه لم يتم الحصول على الطلبات من الاسلحة والاعتدة والمواد الحربية وكذلك طلبات القوة الجوية من الطيارات واعتدتها والطلبات السنوية الاعتيادية وفيها كثير من الاعتدة والمواد الحربية فقد ماطلت الجهات البريطانية في تجهيز هذه الطلبات. ولم تجهّز منها سوى قسم ضئيل وهذا القسم الذي جهّز بقي بعضها عاطلاً لعدم تجهيز متمماته كالمدرعات التي لم يجهّز عتادها وصواريخها ايضاً، اما القسم الرئيسي من هذه الطلبات والذي كان عليه المعول في حركات فلسطين فلم يجهز وماطلت الجهات البريطانية في تجهيزه حتى جاء فرض الحظر وسيلة للامتناع عن التجهيز نهائياً.
ويضيف التقرير هذه الملاحظة: "ويظهر ان الجهات البريطانية كانت قد غيّرت سياستها بشأن تجهيز الجيش العراقي باحتياجاته من الاسلحة والاعتدة والمواد الحربية بعد الاحداث الداخلية التي وقعت في كانون الثاني 1948 اي استقالة صالح جبر والغاء مسودة معاهدة بورتسموث وبذلك حرم الجيش من مقادير كبيرة من مختلف انواع الاسلحة والاعتدة المهمة مما كان أسوأ الاثر على سير الحركات في فلسطين".


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.