أقلقت زيارة جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي لدير ياسين صباح الأحد 11 نيسان ابريل كلاً من الوكالة اليهودية أي القيادة السياسية الصهيونية المركزية وقيادة الهاغانا في القدس كما اقلقت قادة المنظمتين الارهابيتين ايتسل الارغون وليحي شتيرن، وكان رجال المنظمتين الأخيرتين منهمكين في نهب موجودات القرية منذ ان انتهى القتال بعد ظهر يوم الجمعة 9 نيسان ولم يجرؤا على التقدم نحو أعالي القرية ورفع العلم الصهيوني على أعلى منزل فيها، كما أسلفنا، إلا يوم السبت في 10 نيسان رغماً عن خلو البلدة من المدافعين وانسحابهم منها بسبب نفاد الذخيرة وعدم وصول نجدات. وأصرّ قادة المنظمتين الارهابيتين على الخروج من دير ياسين بمنهوباتهما وغنائمهما في أسرع وقت ممكن وتسليم القرية الى رجال الهاغانا وفق الاتفاق مع هذه الأخيرة كما ذكرنا. بيد ان ديفيد شلتئيل قائد الهاغانا في القدس كان حريصاً على ان تقوم المنظمتان الارهابيتان بدفن جثث ضحاياهما قبل استلام القرية منهما اخفاء لمعالم جريمتهما وشواهدها. وكان شلتئيل قد أصدر أوامره لوحدات من لواء الشبيبة الجادناع في القدس للاستعداد للحلول محل رجال ايتسل وليحي ولكنه في الوقت نفسه كان يخشى على معنويات الجادناع من رؤية ما اقترفته أيدي المنظمتين الارهابيتين. في هذه الأثناء وبعد مغادرة دو رينييه لدير ياسين عصر الأحد 11 نيسان قرر قادة المنظمتين ان لا سبيل "للتخلص" من جثث ضحاياهما إلا بحرقها. ويروي موشيه برزلاي ضابط استخبارات ليحي: "صببنا ثلاثة أوعية نفط على ثلاثين جثة في الشارع الرئيسي في القرية وبعد نصف ساعة ادركنا ان هذا مستحيل، فيصدر يهوشع زطلر قائد ليحي في القدس أمراً بنقل الجثث المحترقة قليلاً من الشارع الرئيسي الى ما وراء جدار ويرفض رجاله فعل ذلك فيسحب زطلر مسدسه عليهم ولكني قلت له كن قدوة. وجررنا سوية احدى الجثث وانفصلت يد عن الجسم وبقيت معي وتقيأت". ويروي شاهد عيان من ليحي اسمه شمعون مونيتا: "اعتقدنا ان الجثث ستشتعل ولكن لا يمكن احراق جثث في الهواء الطلق ولقد بنى النازيون من أجل ذلك موقداً خاصاً يشتعل بدرجة حرارة عالية جداً". وفي هذه الأثناء يصل دورون حسداي أحد قادة الجادناع الى القرية للاستطلاع بصحبة يشورون شيف مرافق شلتئيل ويصف ما شاهده كالآتي: "على امتداد عشرات الأمتار كانت تتوقد شعل من النيران وفيها جثث، لا تزال رائحة اللحم المشعوط تطاردني الى الآن ويتصل شيف بشلتئيل ويقول له "محرقة انهم يحرقون بشراً". ويقرر شلتئيل منع خروج رجال المنظمتين الارهابيتين من دير ياسين وارغامهم على دفن الجثث ويوكل المهمة الى وحدة من الشرطة العسكرية التابعة للواء عتسيوني الهاغانا بقيادة ديفيد دريفوس، تعزيزاً لوحدات الجادناع وتسير وحدة الشرطة العسكرية ووحدة الجادناع نحو القرية ومعهم يشورون شيف ليجدوا حاجزاً من الحجارة يقف خلفه مردخاي رعنان قائد الايتسل في القدس ويهودا لبيوت قائد الايتسل في دير ياسين وبتحيا زليفنسكي قائد ليحي في دير ياسين مع عدد من مؤروسيهم ويجري تلاسن بين الطرفين يعقبه اشتباك بالأيدي يهدد بالتطور الى اشتباك بالسلاح ويتصل شيف بواسطة جهاز لاسلكي بشلتئيل ويقول شلتئيل: "جردّهم من سلاحهم وإذا لم يسلموا سلاحهم اطلق عليهم النار". ويجيب شيف حسب روايته: "لا استطيع ان أفعل ذلك بيهود". وفي هذه الاثناء تصل تعزيزات الى الايتسل في شاحنتين ويصرّ قادة المنظمتين الارهابيتين على الخروج بشاحنات محملة بغنائمهما. ويخبر شيف شلتئيل بأن ما لديه من قوة لا تكفي للسيطرة على الوضع ويقال لرجال الايتسل وليحي: "خذوا ما تريدون وأنصرفوا". وهكذا أخيراً تدخل وحدات الجدناع القرية بقيادة قائد لواء الجادناع يهوشع اريئيلي الذي يروى ان شلتئيل أمره "بازالة الجثث ودفنها قبل عودة بعثة الصليب الأحمر الدولي". ويتابع اريئيلي القول بأن معظم القتلى كانوا من الشيوخ والنساء والأطفال وأنه كلّف بالدفن فقط قادة متقدمين في السن نسبياً: "عملنا طوال ليلة 12/13 نيسان وكان من الصعب اخراج الجثث من منزلين فحصلنا على موافقة على نسف المنزلين مع الجثث ونفذنا ذلك صباح الثلثاء 13 نيسان ودفنا في قبر جماعي حوالى 70 جثة ونسفنا مجموعتين للجثث في كل واحد منهما حوالى 20 جثة وبهذا يكون المجموع حوالى 110 قتلى". ومكث اثناء الدفن عدة أشخاص من قادة اللواء عتسيوني التابع للهاغانا وكان واحداً منهم يشورون شيف. ويروي هيلل بوليتي احد قاد الجادناع "أحضروا لنا من المدينة قفّازات ومعاطف واقية وكمامات لتغطية الوجه ونقلنا الجثث اثنتين اثنتين بايدينا الى مقلع للاحجار وأُحضرت من المدينة جرافّة غطّت الجثث بالتراب".
كان المندوب السامي البريطاني السير الان كنينغهام يرأس اجتماع لجنته الأمنية اليومي في القدس يوم الاثنين في 12 نيسان لبحث قضية دير ياسين ويلتفت الى الجنرال السير غوردون ماميلان قائد قوات الجيش البريطاني الجالس الى جانبه حسب رواية الكاتبين لاري كولينز ودومنيك لابيير ويقول: "هذه فرصتك لتتمكمن من أولاد الزنا Bastards يعني الايتسل وليحي فبحقّ الله اذهب لتوك وأضربهم في دير ياسين". غير ان ماكميلان يمانع بحجة ان قواته البرية في القدس غير كافية لهذا الغرض بينما الحقيقة ان الجيش البريطاني في فلسطين كان قد قرر ألا يستعمل أفراده في الأشهر الأخيرة من الانتداب على البلاد إلا في خدمة مصالحه ضمن مفهوم ضيق جداً لها وعندها يلتفت كننينغهام حانقاً الى قائد القوة الجوية الذي كان حاضراً ايضاً فيوافق هذا فوراً على اقتراح المندوب السامي لكنه يلفت النظر الى ان سلاح الطيران RAF كان قد ارسل قاذفاته الخفيفة في اليوم السابق الأحد 11 نيسان الى القاعدة البريطانية في مصر وصواريخها الى القاعدة البريطانية في العراق وأنه بحاجة الى 24 ساعة حتى يقوم بالمهمة المطلوبة وما ان تنتهي اللجنة الأمنية من مداولاتها ذلك اليوم حتى تصل الأنباء عن حلول قوات الهاغانا محل الايتسل وليحي في دير ياسين. ويقول المندوب السامي في رسالة الى وزير المستعمرات في لندن بتاريخ الاثنين 12 نيسان "لا زالت القرية في أيدي اليهود وأنا اكتب هذه السطور، وكنت أردت ان يضرب جنودنا اليهود في دير ياسين بكل ما لديهم من قوة ويطردونهم منها ولكن الجيش يقول لي انه ليس في وضع يمكّنه من القيام بمثل هذا العمل أو بأي عمل قد يؤدي الى صدام عام مع أي من الطرفين العرب واليهود وهذا مجرد مثال واحد من عدة أمثله حيث تضطر الحكومة المدنية في هذا البلد وقوف موقف المتفرج بينما يضرب بسلطتها عرض الحائط في كل اتجاه". ويدوّن السير هنري غورني السكرتير العام لحكومة فلسطين وهو نائب المندوب السامي في يومياته يوم الأحد 11 نيسان: "وصلنا بعد ظهر اليوم الخبر اليقين عن دير ياسين، ان ذبح مئتين من الأبرياء معظمهم من النساء والأطفال هو أسوأ ما اقترفته أيدي الأرغون والشيترن ولقد جاء الدكتور جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي بأنباء مريعة عن أكداس من الجثث أطلق عليها الرصاص بالدم البارد، وأخبرني مراسل التايمز اللندنية انه حاول العبور الى دير ياسين ولكن الهاغانا منعته من ذلك والبوليس البريطاني لا يستطيع الاقتراب من المكان والبوليس اليهودي التابع للسلطة البريطانية يحاول التقليل من الأمر وكأن شيئاً لم يحدث".
يذكر القارئ ان الدكتور جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي زار كلاً من مكتب الهيئة العربية العليا والوكالة اليهودية في القدس فور عودته من زيارته الأولى لدير ياسين يوم الأحد في 11 نيسان وكان الدكتور حسين فخري الخالدي أمين سر الهيئة العربية هو الذي قابل دو رينييه. ويتداول الخالدي مع مستشاريه حول كيفية الاعلان عما حدث في دير ياسين في ضوء تقرير دو رينييه وما نقله الى مكتب الهيئة الناجون من أهالي القرية. ويقول الدكتور حازم نسيبة أحد مستشاري الخالدي حسب رواية كولينز ولابيير: "كنا نخشى الا تأتي الجيوش العربية لنجدتنا رغم كل الحديث عن نيتها على ذلك وأردنا ان نصدم الشعوب العربية حتى تضغط بدورها على حكوماتها". وفي يوم الأحد 11 ابريل يعقد الخالدي مؤتمراً صحافياً يصف ما حدث بأنه "مجزرة للأبرياء" ذهب ضحيتها 254 شخصاً معظمهم من النساء والأطفال بناء على تقرير قدمه له الدكتور جاك دو رينييه ممثل الصليب الأحمر الدولي عن مشاهداته في القرية. ويقول الخالدي انه كان قد اتصل فور وصول الأنباء عن دير ياسين بقيادة كل من البوليس والجيش كما اتصل بالحكومة المدنية البريطانية طالباً ايفاد من يتحرى الأمر ولكنهم جميعاً رفضوا تلبية طلبه مما اضطره الى مناشدة الدكتور دو رينييه وان هذا الأخير لا يزال يفاوض الأرغون والشتيرن حول اجراءات الدفن لشهداء القرية. ويضيف الخالدي ان "مجزرة الأبرياء" حصلت في القرية الوحيدة من قرى قضاء القدس التي لم تستنجد بأي هيئة عربية على انها في خطر من اليهود وانها كانت تعيش محاطة بالمستعمرات اليهودية التي عقدت معها اتفاقاً حافظت عليه طوال الأشهر الأربعة السالفة. ويتابع الخالدي انه أرسل رسائل الى الملك عبدالله والى سائر رؤساء الدول العربية يشرح لهم ما جرى في دير ياسين. وفي أعقاب مؤتمر الخالدي الصحافي وزيارة دو رينييه لها تصدر اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية بياناً مساء 11 نيسان الأحد تعبر فيه عن "مشاعر الهلع والتقزز Horor and disgust من الطريقة البربرية" التي نفذت فيها الايتسل وليحي عمليتهما في دير ياسين. وتضيف انه حتى لو أُخذ في الاعتبار ان القوات العربية نفسها قامت بالعدىد من الأعمال البربرية خلال الأشهر السالفة فإن هذا لا يبرر اقتراف اليهود لأعمال وحشية Brutalities تتنافى كلياً مع روح الشعب اليهودي في فلسطين. ويقول البيان ان الهاغانا "دوما تقيدت وستستمر في التقيد بالقواعد التي تتضمنها اتفاقات جنيف". وفي يوم الاثنين 12 نيسان ترسل الوكالة اليهودية الى الملك عبدالله برقية تقول فيها انها تداولت في النداء الذي وجهه الدكتور الخالدي الى جلالته وقررت ان ترسل اليه خلاصة البيان الذي أذاعته في اليوم السابق في هذا الصدد وتنهي البرقية بقولها انها "تستنكر هذه الجريمة البشعة atrocity التي هالت الشعب اليهودي وكل انسان حيث وجد". ويجيب رئيس الديوان الملكي في عمّان على البرقية في اليوم نفسه بقوله: "على الوكالة ان تتحمل وزر ما جرى بوصفها الممثلة للشعب اليهودي وهي التي تتكلم باسمه". ويخبرنا المؤرخ الاسرائيلي آفي شلايم الاستاذ في جامعة اكسفورد في كتابه "التواطؤ" Collusiom، انه كان لأنباء دير ياسين بالغ التأثير على الملك عبدالله وانه استدعى فور استلامه نداء الخالدي وبرقية الوكالة اليهودية السفير البريطاني في عمّان السير اليك كيركبرايد وطلب منه ان يسعى مع الحكومة البريطانية حتى تسمح لوحدات الجيش العربي Arab Legion أي جيش حكومة شرق الأردن التي كانت حينذاك مرابطة في فلسطين تحت قيادة الجيش البريطاني فيها بتولي حماية القرية الفلسطينية ضد هجمات اليهود فيجيبه كيركبرايد باستحالة قبول الحكومة البريطانية لذلك ويعده بأن يبحث معها امكان استعمال هذه الوحدات "لتحسين الوضع الأمني في المناطق العربية". ويضيف شلايم ان الملك عبدالله أدلى بتصريح الى صحيفة "الاهرام" في 17 نيسان مآله انه يعتبر حدث دير ياسين بمثابة اعلان حرب من قبل اليهود على شرق الأردن وسائر الدول العربية وانه لا يعترف بالدولة اليهودية ولا يقيم وزناً لبرقية الوكالة اليهودية".
ويذكر القارئ ان مردخاي رعنان قائد الايتسل الأرغون في القدس كان أعلم الصحافيين أثناء المؤتمر الصحافي الذي عقده مساء يوم الجمعة في 19 نيسان ان وحدات من البالماخ قوات الهاغانا الضاربة اشتركت في الهجوم على دير ياسين الأمر الذي أربك قيادة الهاغانا وجعلها تكذّب هذا الخبر فوراً للصحافيين الأجانب. وفي يوم السبت 10 نيسان توزع الايتسل وليحي على الصحف العبرية بياناً يتضمن نص بيانين ادعتا انهما اذيعا من محطة اذاعة الايتسل بالعبرية في تل أبيب يوم المعركة نفسه أي الجمعة في 9 نيسان أولهما عند الساعة 11.50 صباحاً والثاني عند الساعة 7 مساءً ويصبح هذان البيانان الصباحي والمسائي الأساس للرواية "الرسمية" لسير المعركة ولجميع ما تلاهما من روايات من قبل أوساط الايتسل وليحي مع بعض الاضافات و"التجميلات". ويقول البيان الأول ان وحدات الايتسل وليحي هاجمت قرية دير ياسين ذلك الصباح واحتلتها وان تجمعات كثيفة من المسلحين العرب، كانت قد تمركزت في القرية وباشرت بازعاج المناطق الغربية العبرية من مدينة القدس وانه وردت معلومات عن وصول امدادات من الجنود العراقيين والسوريين الى دير ياسين بهدف الهجوم على هذه المناطق العبرية وان الجنود اليهود زحفوا في الثانية بعد منتصف الليل في أربع شراذم الى مواقع حددت لهم، وان الهجوم على دير ياسين بدأ في الرابعة والنصف من فجر ذلك اليوم الجمعة لدى صدور اشارة متفق عليها وانه على رغم من النيران الكثيفة من معاقل العدو تمكن الجنود من التقدم بانتظام عسكري واقتحموا مواقع العدو واستولوا على معظمها. ويستمر البيان فيقول انه بعد اخلاء النساء والأطفال من القرية باشر الجنود بنسف المعاقل على العشرات من رجال العدو الذين قضوا نحبهم تحت انقاضها وان مكبراً للصوت At the time of the attack عند الهجوم ناشد النساء والأطفال مغادرة القرية فوراً واللجوء الى التلال المجاورة وان العديد من الأطفال والنساء أُنقذوا نتيجة ذلك وان المعركة ما زالت مستعرة. ويضيف البيان ان مصفحتين تعثرتا عند خندق عمقه متر ونصف وان وحدة من المهندسين استطاعت ردم الخندق على رغم شدة نيران العدو وان معركة وجهاً لوجه دارت داخل القرية وان الجنود تمكنوا من احتلال المنازل الواحد تلو الآخر وان فلول العدو انسحبت بسرعة واستحكمت في منزل يبعد بعض الشيء عن قرية القسطل. ويضيف البيان انه وصلت في هذه الأثناء نجدة قوية للعدو وأخذت تمطر مستعمرة يافه نوف بالمدافع الرشاشة الثقيلة من تل مجاور وانه عند اشتداد القتال دخلت وحدتان من قوات البالماخ بكامل اسلحتهما وانضمت الى المهاجمين وان الاتصال بين القوات المقتحمة والقيادة تأمّن طيلة المعركة بشكل منتظم وان الامدادات من رجال واعتدة وطعام تصل الى أرض المعركة من دون انقطاع. وينهي البيان وصفه بقوله ان اصابات اليهود بلغت اثنين من القتلى وثلاثة اصيبوا بجروح خطرة اضافة الى اصابات عدة خفيفة بينما اصابات العدو بلغت العشرات وان سيارة اسعاف مصفحة اخترقت خط النار واجلت الجرحى اليهود وان الجنود أسروا العديد من رجال العصابات العرب وساقوهم الى القاعدة. اما البيان المسائي فيعلن الاحتلال الكامل للقرية وان اصابات اليهود بلغت أربعة قتلى وأربعة باصابات خطرة و28 اصابة خفيفة بينما أحصي للعدو 240 من القتلى الى ذلك الحين وان المهاجمين تعهدوا بالبقاء في القرية 48 ساعة على ان يسلموها بعد ذلك الى قوات الهاغانا وهو ما ينوون فعله. ولن يصعب على القارئ الذي تابع في الحلقات السابقة وصفنا لوقائع يوم المعركة ساعة تلو الساعة ملاحظة مدى الكذب والتلفيق في هذين البيانين اللذين اقتبسناهما عن جريدة "هآرتس" الصادرة في 11 نيسان فالكلام عن ازعاج دير ياسين للمستعمرات المجاورة وتمركز قوات عسكرية سورية وعراقية فيها بهدف الهجوم على الأحياء اليهودية ووصول نجدات قوية من قرية عين كارم هراء في هراء ويبلغ التشويه للحقائق في البيانين الذروة في الوقاحة والصفاقة عند اعطاء مكبر الصوت دور "المنقذ" للنساء والأطفال الذين شكلوا معظم ضحايا المهاجمين. والملفت في نص البيان الصباحي بنوع خاص محاولة ابراز اداء الايتسل وليحي أثناء القتال وكأنه اداء جيش نظامي منضبط وذلك لأسباب سنبينها لاحقاً كما ان ما يلفت النظر هو تأكيد البيان الصباحي على اشتراك قوات البالماخ في الهجوم وفضحه له رسمياً ويجدر بالقارئ المقارنة بين هذا البيان الصادر في تل أبيب وبين البيان الذي ألقاه موردخاي رعنان قائد الايتسل في القدس في المؤتمر الصحافي الذي عقده مساء يوم الجمعة ليتبين حجم اضافات تل أبيب في الرواية الرسمية وهي اضافات لا نشك ان المسؤول عنها هو مناحيم بيغن قائد الايتسل الأعلى المقيم في تل أبيب وأحد كبار اساتذة الارهاب والحرب النفسية في القرن العشرين كما اننا لا نشك في ان نشر هذين البيانين كان من الدوافع الرئيسية لاصدار الوكالة اليهودية لبيانها في 11 نيسان الذي شجبت فيه ما جرى في دير ياسين وأكدت على حرص الهاغانا على التقيد باتفاقات جنيف. وبصدور بياني الايتسل وليحي والبيان "المضاد" من قبل الوكالة اليهودية تبدأ حرب البيانات بين أوساط اليمين وبين أوساط اليسار اليهودي حول ما جرى في دير ياسين وهي حرب ما زالت دائرة الى يومنا هذا وذلك بسبب الرمزية التي اكتسبتها وقائع دير ياسين ومغازيها ضمن اطار مأساة فلسطين ككل كما أشرنا الى ذلك في مطلع هذه الدراسة، ونحن انما نتابع حرب البيانات هذا ليس من اجل التأريخ لها فحسب بل بهدفين أساسيين آخرين: أولاً تتبع رواية اليمين الصهيوني لوقائع دير ياسين اذ غدت تنفي نفياً قاطعاً ان حدثت أي مذبحة للشيوخ والنساء والأطفال يوم الجمعة في 19 نيسان عام 1948. وثانياً: رصد نفاق القيادة العمالية السياسية والعسكرية وريائها عند شجبها لما حدث ذلك ان موقف كل من اليسار واليمين الصهيونيين من دير ياسين انما يؤكد صدق ما ذهب اليه المفكر اليهودي ايلي فيزيل في قوله خلال محاكمة أحد المتعاونين مع النازيين الألمان: القاتل يقتل مرتين الأولى عندما يجهز على ضحيته والثانية عندما يخفي انه قتل".
وفي 12 نيسان تنشر صحيفة "هآرتس" رد الهاغانا على ما ورد في بيان المنظمتين الذي كانت قد نشرته في عدد اليوم السابق. وتقول قيادة الهاغانا في ردها ان قرية دير ياسين لم تشترك في التعدي على القدس العبرية وكانت من القرى القلائل التي رفضت استقبال رجال العصابات العرب الغزاة تعني جيود جيش الانقاذ السوريين والعراقيين وانه بما ان دير ياسين لم تقم بأي اعتداء فإن الهاغانا احجمت عن ادخالها ضمن دائرة القتال وان منظمتي "المنشقين" كانتا تعلمان علم اليقين ان ليس لهجومهما أي هدف عسكري على الاطلاق وانه لم يكن في الظروف القائمة جزءاً من مخطط الدفاع عن القدس وان لا قيمة عسكرية له وان ما قاما به كان لمجرد التباهي لأغراض الدعاية لأنفسهما. ويضيف البيان انه لم تشترك في الهجوم أية وحدة من الهاغانا وكل ما في الأمر ان موفدي المنظمتين المنشقتين استغاثوا بالهاغانا راجين العون لانقاذ جرحاهم الذين ظلوا داخل القرية وان هذا كل ما فعلته الهاغانا. وينهي البيان كلامه بقوله ان عرض الأسرى من نساء وأطفال أمام الجماهير في شوارع المدينة يدنس طهارة السلاح العبري. وفي اليوم نفسه توزع الهاغانا منشوراً في شوارع القدس يعلن "فرار" رجال ليحي وايتسل من دير ياسين واضطرار الهاغانا دخول القرية "بعد ان خلقت المنظمتان بعمليتهما المخجلة جبهة معادية جديدة في القدس". ويضيف ان قوات الهاغانا شعرت عند دخولها دير ياسين "بالخزي" لأن ذلك هو المكان "الذي انتهك فيه المنشقون صورة الانسان في المقاتل العبري وشرف العلم العبري". وينتهي المنشور بالقول ان الهاغانا ستسعى الى دفن جثث القتلى التي تركت في المكان وستحمي القبور والممتلكات القليلة التي تبقت في القرية بعد ان نهبها المنشقون وستعيدها الى أصحابها في الوقت المناسب. وترد المنظمتان الارهابيتان على بيان الهاغانا ومنشورها ببيانين يصدر الأول في 12 نيسان والثاني في 14 نيسان. ويؤكد البيان الأول ان دير ياسين كانت "وكراً للأشرار الفعليين والمحتملين وانه شُنت منها هجمات على الأحياء اليهودية الغربية من القدس و"لولا احتلالنا للقرية لكان ثمة خطر دائم سيتربص بالأحياء الغربية من قبل العصابات التي تحصنت وتمركزت فيها" وانه كانت هناك "ضرورة عسكرية ملحة من اجل ابعاد هذا الخطر وتحرير القدس من الحصار". ويضيف ان دير ياسين احتلت في معارك ضارية والدليل على ذلك عدد القتلى العراقيين والسوريين الذين هم جزء من الجيش النظامي الذي كان يتمركز فيها كذا". وتحتل قصة مكبر الصوت مكاناً بارزاً في هذا البيان ويغدو دليلاً على سلوك الايتسل وليحي في دير ياسين "مسلكاً لم يسلكه جيش مقاتل ذلك انهما تخليا عن عنصر المفاجأة فقبل بدء المعركة الفعلية حذّر جنودنا بواسطة مكبر للصوت سكان القرية ودعوا النساء والأطفال الى مغادرة المكان فوراً وقد نجا بفضل هذا التحذير معظم النساء والأطفال أما جزء من الذين لم يستمعوا للتحذير فقد أصيب خلال المعركة". ويضيف البيان: "واننا نعرب عن اسفنا الشديد لأنه كان هناك نساء وأطفال بين المصابين ولكن ليس الذنب ذنبنا فمقاتلينا قاموا بواجبهم الانساني كذا وأكثر من ذلك كذا". ويعيد البيان التأكيد على قيمة دير ياسين الاستراتيجية اما بالنسبة لشرف السلاح العبري فيشير البيان الى هجمات الهاغانا على العديد من القرى والأحياء العربية حيث قتل فيها النساء والأطفال من دون سابق تحذير وهو الكلام الصحيح الوحيد الوارد في هذا البيان. اما بيان 14 نيسان فيتصدى ثانية الى قول الهاغانا بعدم وجود أي قيمة عسكرية لاحتلال دير ياسين ويؤكد انه كان "احدى أصعب العمليات وأخطرها وأهمها في كل الحرب من اجل تحرير القدس". ويورد النص الكامل للرسالة التي كان قد أرسلها قائد الهاغانا في القدس ديفيد شلتئيل الى المنظمتين في 7 نيسان قبيل الهجوم على دير ياسين التي كما يذكر القارئ يشير شلتئيل فيها الى ان احتلال دير ياسين كان من ضمن خطة الهاغانا نفسها لاحتلال القدس. ويضيف البيان ان احتلال دير ياسين أوقع الرعب في القرى المجاورة وانها تساقطت امام هجمات الهاغانا بسبب احتلال دير ياسين وبالتالي يكون احتلال دير ياسين "بضربة واحدة قد غيّر الوضع الاستراتيجي لعاصمتنا". ويشير البيان في نهايته الى "عار نفاق" الوكالة اليهودية أي القيادة العمالية برئاسة بن غوريون التي أرسلت رسالة عزاء "توجّت فيها عبدالله العبد المطيع لبريطانيا النازية على عرب أرض اسرائيل".
وتدور الأيام وتمر السنون ويصبح قائد الايتسل الأعلى مناحيم بيغن مؤلف هذه البيانات الصادرة عن ايتسل وليحي عام 1977 رئيس وزارة اسرائيل وتنشر حكومة اسرائيل سلسلة رسمية لوثائق سياسية وديبلوماسية توثيقاً لحرب 1948 وينشر في عداد هذه الوثائق نص رسالة العزاء الموجهة من الوكالة اليهودية الى الملك عبدالله في 12 نيسان وتتصدر نص رسالة العزاء مقدمة من محرر سلسلة الوثائق تتضمن رواية بيغن عن يوم دير ياسين. وهكذا يصبح الأبيض أسود وتشرق الشمس من الغرب، رحم الله شهداء دير ياسين وسائر شهداء العرب من أجل فلسطين.