الرحلة الى الجبهة الشرقية في السودان استغرقت نحو 13 ساعة في سيارة "لاند كروزر" بدءاً من مدينة بحر دار في اقليم الامهرا شمال اثيوبيا، وكان اصعبها المسافة التي قطعناها في المناطق بين الحدود الاثيوبية - السودانية وصولاً الى حامية مينزا ثم موقع مكلا. آخر موقع للجيش الاثيوبي ثكنة كبيرة في بلدة منقوش، تبعد مسافة 70 كيلومتراً من الحدود. سلكنا هذه المسافة عبر طريق رملي وَعِرٍ يمر بمتعرجات احياناً ويستقيم احياناً اخرى ثم يصعد مرتفعات ويهبط ليمر مرات عدة عبر مجرى نهر عريض جفت مياهه. وعلى طول جانبي الطريق غابات كثيفة، لم أَرَ خلال مسير نحو اربع ساعات فيها سوى خمس قرى صغيرة معزولة. ومع غُروب الشمس ظهر اول مؤشر الى اقترابنا من الحدود، إذ رأينا اول مجموعة من نساء قبيلة القُمُز التي تقطُن مناطق الحدود المشتركة في اثيوبيا كما في السودان. وكانت مجموعة النساء هذه عاريات الصدور داكنات السحنة بعضهن حملن حطباً على رؤوسهن واُخريات حملن على إمتداد كتفيهن عصاً غليظة رُبِط في كلا طرفيها حبل مشدود الى جرة ماء تتدلى وتوازن احداهما الآخرى. سألت رفيق الرحلة أنس عن رجال القُمُز، إذ لم أَرَ سوى نسوة تعمل في حمل الحطب والماء. فأجاب :"لا أعرف اين الرجال الآن، لكني اعرفُ من تقاليد القُمُز ان نساءهم يعملن في الغابات حيث يجمعن الحطب والفاكهة والاعشاب والخضار، ويحملن الماء ويجهزن الطعام إضافة الى الاعمال المنزلية الاخرى. أما الرجال فربما يصطادون حيوانات الغابة". وكنا كلما توغلنا في الغابة، كثُرت الحيوانات التي كانت تقفُزُ من امام سيارتنا مُسرعةً كالريح، او تقف بعيداً أمامنا ثم تركض داخل الادغال. كانت هناك انواع عدة من الظِباء والغزلان الكبيرة والصغيرة وزرافات وخنازير برية وحيوان النُّوّ او الثَيْتَل، له رأس كرأس الثور وقرنان معقوفان وذيل طويل وغير ذلك من الحيوانات البرية. قال سائق السيارة الاثيوبي غيتاشو الذي اعتاد المجيء الى هذا الجزء من العالم :"ان في الادغال هذه فِيّلة وحيوانات مفترسة كالاسود والنمور، والحكومة الاثيوبية تُحظر الصيد هنا. لكن بعض سكان القرى يصطادون انواعا ً معينة من الحيونات، خصوصاً الخنزير البري والغزال الصغير". وعن الحيوانات التي كانت تمر أمام سيارتنا قال :"ان السيارات نادراً ما تمر في هذه المنطقة، لذلك عندما يسمع الغزال صوت محرك السيارة، وهو صوتُ غريب بالنسبة اليه يختلف عن كل الاصوات التي يسمعها يومياً في الغابة، يركضُ بسرعة امام السيارة ليسمع صوتها عن قرب". وبالفعل رافقتنا ثلاثة غِزلان كبيرة لمسافة غير قصيرة، فهي كانت تقف على بعد نحو مئة متر على طرف الطريق الرملي تدير رؤوسها الى اليمين ثم الى اليسار ثم تعدو مُسرِعةً داخل الغابة قبل ان نصل اليها لتظهر مجدداً واقفة على مفترق آخر تستمع من بعيد ثم تعدو ثانيةً. المُهَل آخر نقطة عسكرية صغيرة لحرس الغابات والحدود الاثيوبية وصلنا إليها عند التاسعة مساءً، وبعدما تأكد الحراس الاثيوبيون من عدم وجود اسلحة معنا تابعنا سيرنا فمررنا على منزل عُمدة مينزا موسى الذي يقطن على تخوم الحدود. رافقنا العُمدة موسى بقية الرحلة وكان دليلنا خلالها. بعد نحو ساعة من المسير بين الاشجار الكثيفة التي تبدو بينها اشجار اللُبان مُتميزة بقشرتها البيضاء وفروعها الطويلة غير المتناسقة، اشار العُمدة بيده نحو شجرة كبيرة وارفة وقال :"الحدودالسودانية تبدأ هنا عند شجرة الحشحاش هذه بين اشجار اللُبان والصمغ العربي. فهذه ارض هذه الاشجار العابقة بروائح البخور". سألته، كيف تميز هذه الشجرة وسط هذه الغابة المليئة بالاشجار المشابهة؟ فأجاب :"أمضيت سنِيّ عمري البالغة 77 عاماً في هذه الغابة واعرف كل اشجارها وكل نبتة جديدة تنمو فيها. وشجرة الحشحاش هذه هي نقطة الحدود، ويمكن ان نميزها بسهولة لانها مزروعة مقابل جبل الصديق الذي تراه شامخاً امامنا". وتابع العُمدة موسى يصف المنطقة وتاريخها السياسي فقال :"كانت منطقة مينزا معزولة عن العالم الخارجي ومُقفلة كل السنوات التي سبقت الاستقلال ايام الاستعمار الانكليزي. وكنا لا نستطيع الخروج منها نعيش مما هو متاح لدينا في الارض. وعندما عرفت ان السودان حصل على استقلاله عام 1956 سافرت الى الخرطوم وطلبت لقاء اسماعيل الازهري اول رئيس للسودان بعد الاستقلال وانا أُمّيّ لا اعرف الكتابة او القراءة، لكني تحدثت إليه بلغة اهل البلد وقلت له انت حصلت لنا على الاستقلال الذي فك الطوق عن بلدتنا، لذلك استطعت ان اصل إليك.لكن رغم حصولنا على الاستقلال فإننا في مينزا لا نعرف كيف نُدير شؤوننا، وكيف نتصرف في ظل الوضع الجديد. إذ لا توجد لدينا مدرسة او مُدرسين، فجميع ابنائنا أميون. وارضنا خصبة لكن لا نعرف كيف نستغلها، وليس لدينا مسجد ولا شيخ او مأذون، إذ ما زلنا نعقد قِران العروسين على الطريقة التقليدية فنمسح جسديهما بزيت السمسم ونتم الزفاف. فقال لي إرجع إلى مينزا وستجد كل مطالبك نُفذت مع وصولك. ثم ارسل برقية بمطالبي الى مديرية الدمازين. وفعلاً، وصلتُ الى مينزا وكان وصل قبلي مأذون ومدرسان اثنان وشُيدت، آنذاك، اول مدرسة واول مسجد في مينزا". واضاف :"منذ ذلك الوقت بدأنا نفهم ديننا بشكل صحيح، كما تعلم ابناؤنا الحروف والقراءة الى ان قالوا لنا أتى الانقاذ إنقلاب البشير الذي سُمي ثورة الانقاذ لكننا غرقنا. فصادر اصحاب الانقاذ اراضينا واعطوها لتجار اجانب وأغلقت المدرسة وعاد المدرسون الى الدمازين. وعندما اعترضت على ذلك، اعتقتلتني الانقاذ وساقتني الى سجن كوبر حيث بقيت لفترة ستة اشهر". سألته، ماذا كانت التهمة التي وجهت إليك؟. فقال :"كانت التهمة انتمائي الى المعارضة المسلحة وتحريضي السكان على حمل السلاح. فقلت لهم ان قرنق يُعارض منذ 13 سنة ولديه جيش، فلماذا لا تذهبون إليه وتعتقلونه ! ... اطلقوني بعد ستة اشهر عدت بعدها الى الدمازين، وزارني شخص يدعى الدكتور مصطفى عبدالكريم وعرض امامي برنامج قوات التحالف السودانية وقال ان الذي يقودها شاب اسمه عبدالعزيز خالد. أُعجبت بالبرنامج واتفقت مع قائد قوات التحالف وحررنا المنطقة. ويوجد اليوم في مينزا 12 الف شخص يتوزعون على 21 قرية، ولدينا اربع مدارس وعيادة واحدة، ولدينا إدارة مدنية أنشأناها بالتعاون مع التحالف". عند الحادية عشرة ليلاً وصلنا الى مينزا التي لم أرَ منها شيئاً، تناولت طعام العشاء مع مُضيفي، وكان عبارة عن طبق صغير فيه حساء شاركني فيه مرافقي وسائق السيارة وشخصان آخران، ولا أذكر طعم الحساء او لونه. إذ كنت جائعاً بعد 13 ساعة من السير في الهضبة الاثيوبية والغابات السودانية، فخلدت للنوم في العراء كما فعل رفاق الرحلة. إذ كانت حرارة الطقس نحو 25 درجة مئوية ويستحيل النوم داخل القطاطي غُرف تُشيد من القصب. ومع طلوع النهار رأيت مينزا .. وشاهدت فيها السودان الجديد. بلدة صغيرة وسط الغابة تلفها القطاطي وفيها مدرسة وبئر ماء ومحكمة مدنية وعيادة طبية ومقاتلون من كل السودان بلباس الميدان لكن من دون اسلحتهم، إذ يُحظر عليهم حمل السلاح في البلدة. كان المُدّرِس احمد 32 سنة، من الخرطوم يُعِدُ مع زميله ابراهيم 37 سنة، من غرب دارفور دروس الصباح لتعليم المقاتلين. قال احمد :"نحاول توفير الحد الادنى من الدراسة الاكاديمية لهم بسبب ابتعادهم القسري عن مدارسهم. لدينا مستويات دراسية مختلفة بين المقاتلين، ولا استطيع القول اننا نمنحهم التعليم الكافي كما في المدارس العادية، لكن ما يتعلمونه هنا كاف لابقائهم على صلة بالحياة الاكاديمية". وذكر المُدّرِس ابرهيم ان الحكومة السودانية اعترفت اخيراً بوفاة 52 تلميذاً غرقاً بعدما فروا من احد معسكرات التجنيد الالزامي. وقال ان معلومات المعارضة عن الحادثة نفسها تؤكد ان عدد التلامذة 129 وليس 52، وانهم لم يغرقوا بل قتلوا برصاص العناصر العسكرية المشرفة على معسكر العيلفون 10 كلم شرق الخرطوم، الذين منعوهم من زيارة اهلهم في عيد الاضحى المبارك، فقتلوا خلال محاولتهم الفرار. وقبل توجهي الى الجبهة الامامية تجولت في البلدة وتحدثت الى عدد من المسؤولين المدنيين، وقال عمار المُشرف على الاغاثة والصحة :"قضت قواتنا على حامية مينزا وحررت البلدة في 12 كانون الثاني يناير 1997، وباشرنا عملنا السياسي والمدني في القرى حيث التقينا سكانها وعرضنا عليهم برامجنا وبدأنا التعاون معهم في إنشاء إدارة مدنية تكون نموذجاً لدولة مدنية ديموقراطية موحدة، وهو ما نفعله في كل موقع جديد نسيطر عليه. والادارة المدنية تتألف من ثلاثة إجهزة هي الجهاز التشريعي والجهاز التنفيذي والجهاز القضائي، واعتمدنا مبدأ فصل السلطات في الادارة. فالجهاز القضائي مستقل تماماً، وانهينا اخيراً دورة تدريبة لعدد من الاعيان في القضاء والقانون العام، والقاضي ينتخبه اعيان المنطقة. ولدينا مجلس يدير شؤون القرى المدنية، خصوصاً التعليم والصحة والبيئة والتجارة والزراعة. ويضم هذا المجلس ممثلاً عن كل من القرى ال 21 إضافة الى العُمدة ونائبين له". واضاف :"نحن لم نبدأ العمليات عشوائياً انما جاءت بعد دراسة كاملة وتمحيص دقيق للواقع، كما اننا نحرص على الالتقاء بالمواطنين لتوضيح اهدافنا ووسائلنا. ونحن لسنا اوصياء على السودانيين انما نريد من كل مواطن سوداني ان يعي مسؤولياته ويساهم كل من موقعه بالنضال ضد هذا النظام، حتى ولو باضعف الايمان". وقال يوسف المسؤول عن البيئة :"نحن نعتقد ان من يدعو الى الديموقراطية ويسعى اليها لا يمكن ان ينتهج القوة اسلوباً لحسم قضايا الصراع السياسي، لكن رغم ايماننا بهذه المعادلة الا ان نظام الجبهة الاسلامية القومية الحاكم في السودان الآن خلخل هذه المعادلة ولهذا فنحن مواجهون بنظام شمولي يريد فرض واقع اصبح معه استعمال القوة اسلوباً ننتهجه ونحن مُرغمون لكي نجتثه من جذوره ونعيد اليه الديموقراطية لينعم بها شعب السودان. نحن مؤمنون بأنه لا بد من تضحية حتى نضع انفسنا وشعبنا على طريق الشعوب المتقدمة". وحديث يوسف عن استخدام القوة المسلحة ضد السلطة المركزية في السودان، يُعيدُ بالذاكرة الى ما شهده هذا البلد من أساليب مختلفة للاحتجاج منذ استقلاله عام 1956. لكن رغم تعدد تلك الاساليب، فإنها انحصرت بالتمرد والثورة في جنوب السودان، والانقلابات العسكرية في شماله. وكان أول تمرد مسلح جنوبي اندلع في تشرين الثاني نوفمبر 1952 والسودان على مشارف الاستقلال الذي ناله عام 1956. وخلال الحكم العسكري الأول 1958 - 1964 انتظمت قوى التمرد الجنوبي في حركة "أنانيا-1" واستمرت الحرب الأهلية الى أن توصلت حكومة الرئيس السابق جعفر نميري الى اتفاق سلام مع "أنانيا" عام 1972 لكن هذا السلام لم يدم إلا لعشر سنوات، إذ تمردت بعض القوات العسكرية الجنوبية مرة أخرى على السلطة عام 1982 وسمّت نفسها "أنانيا -2". كانت هذه الحركات المسلحة المتمردة محدودة الأساليب والامكانات تمثلت في تمرد بعض الضباط والجنود الجنوبيين واحتمائهم في الغابات الكثيفة في الجنوب سعياً لتحقيق مطالب سياسية واقتصادية اقليمية محدودة. وكان تعبير "دخل الغابة" يعني "تَمَردَ"، الى أن ظهرت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" عام 1983 بزعامة العقيد جون قرنق الذي ما زال يواصل القتال في الجنوب. إذاً، فمجموع سِني الحرب الاهلية في الجنوب 32 سنة منذ الاستقلال، ويصبح 35 سنة إذا اضفنا إليها السنوات الثلاث في التمرد الاول قبل الاستقلال. وطوال هذه الفترة لم يستطع اي من طرفي النزاع حسم الحرب لمصلحته سلمياً او عسكرياً. وكلا الطرفين كان يعترف بأن الحرب في الجنوب لا تحسم النزاع، وانها وسيلة ضغط في الصراع. فهي تُرهق المتمردين الجنوبيين وتؤدي لتراجعهم الى حين. وفي المقابل تُنهك الجانب الحكومي بإنفاق اموال طائلة في الحرب على حساب التنمية. ويؤدي ذلك الى تردٍ في الوضع المعيشي تنتج عنه انتفاضة يدعمها الجيش ويُطيح الحكومة، فتأتي غيرها لتواصل الحرب حتى تُطيحها انتفاضة اخرى. أما الشمال فكانت صراعاته ونزاعاته المسلحة ضد السلطة المركزية خاطفة، وهي ان نجحت أو فشلت في إحداث التغيير فإن الصراع لا يدوم زمنياً أكثر من ساعات أو أيام. ومعظم هذه الصراعات كان على شكل انقلابات عسكرية، معظمها نتيجة ما ذكرناه عن تأثير حرب الجنوب في الوضع المعيشي والتنمية. ذلك بإستثناء أحداث ودنوباوي والجزيرة أبا في 1970 التي قُتل خلالها إمام طائفة الانصار الهادي المهدي، وحركة يوليو 1976 التي قادها ميدانياً العقيد محمد نور سعد ممثلاً "الجبهة الوطنية المتحدة". لكن طبيعة التمرد على السلطة ومحاربتها بدأت تتغير تدريجاً منذ استيلاء العميد عمر حسن احمد البشير على الحكم بإنقلاب عسكري في 30 حزيران يونيو 1989. ففي تشرين الاول اكتوبر من السنة نفسها، تأسس "التجمع الوطني الديموقراطي"الذي ضم احزاباً شمالية معارضة بينها اكبر واقدم حزبين في البلاد "الامة" و "الاتحادي الديموقراطي". واعتمد برنامج "التجمع"، الشمالي آنذاك، "الاضراب العام والعصيان المدني فالتمرد الشعبي" لاطاحة النظام. وكانت تلك خطوة اولى، لكن التغيير ظهر ملموساً عندما انضمت "الحركة الشعبية" الجنوبية بزعامة قرنق الى المعارضة الشمالية في إطار "التجمع الوطني" بعد نحو سنتين على تأسيسه. ورغم الاهمية المعنوية الكبيرة لهذا التحالف، إلا ان قرنق ظل يقاتل لوحده في الجنوب بينما الاحزاب الشمالية بقيت تعارض وتنشط سياسياً في الخارج الى ان قرر "التجمع" عام 1995 "مشروعية العمل المسلح" لاسقاط النظام، ما يعني حمل الاحزاب الشمالية السلاح واستخدامه على مدى طويل للمرة الاولى ضد السلطة المركزية. لكن التغيير النوعي والجذري في طبيعة الصراع ضد السلطة حصل عملياً وعلى الارض عندما ظهر الشمالي عبدالعزيز خالد ومعه عناصر من انتماءات إتنية ودينية متنوعة ليفتح جبهة جديدة في شرق السودان، الامر الذي اجبر الحكومة المركزية على تغيير استراتيجيتها العسكرية بدفع اعداد كبيرة من قواتها الى الشرق الذي صار يعيش حال حرب لم يعتد عليها من قبل. وعلى سبيل المِثال، اعلن والي ولاية القضارف التي تقع ضمنها الدمازين، ابراهيم عبدالله في شباط الماضي حال استنفار قصوى ودعا المواطنين الى التبرع بالدم. وتلك حال جديدة على اهل الولاية. لكن من اين تحصل "قوات التحالف السودانية" على تمويلها، خصوصاً بعد توسيع عملياتها العسكرية في الشرق؟. يُجيب عبدالعزيز خالد عن ذلك ويقول :"ربما كانت تجربتنا مميزة في ما يتعلق بمصادر تمويلنا، إذ رفعنا في هذا الاطار شعار الاعتماد على النفس. واستناداً الى ذلك فإن الاعضاء الملتزمين والاصدقاء والانصار المتعاطفين معنا هم مصادر التمويل الرئيسية للتحالف، وتحملوا العبء الاكبر من تغطية الحاجات الاساسية قبل ان يكتمل استعدادنا لمرحلة الاعداد للعمليات العسكرية. بعد ذلك أضفنا شعاراً جديداً هو الجبهة الاسلامية مصدر دعمنا". تنفيذ هذا الشعار الجديد بدأ مع عمليات لم نعلن عنها وكانت في إطار الاستيلاء على ممتلكات تابعة لنظام الجبهة الاسلامية نستخدمها لمصلحتنا، وفي الوقت نفسه لإضعاف النظام. بعد ذلك كنا نُعزز وضعنا العسكري بالسلاح الذي نستولي عليه في هجماتنا وعملياتنا العسكرية". الطريق من مينزا إلى الخطوط الامامية في جبهة مكلا تُرابي وَعِر المسالك ، شقه مقاتلو التحالف بين الادغال لاستخدامه ممراً عسكرياً سرياً بعيداً عن الطريق الاساسي المعروف للقوات الحكومية. واستغرقت الرحلة الى الجبهة نحو ساعتين بين اشجار كثيفة تظهرُ بينها اشجار اللُبان البخور مميزة بقشرتها البيضاء وفروعها الطويلة غير المتناسقة. كما تكثر في الغابة نفسها اشجار الصمغ العربي التي تظهر على فروعها كميات الصمغ اكثر من اوراقها الابرية الصغيرة. قبل الوصول الى مكلا صعدنا الى جبل ابو جُنقر حيث تمكن مشاهدة سهل الدمازين الذي يوجد خلفه سد وخزانات لتوليد الطاقة. واستخدمت مِنظاراً لرؤية اقرب موقع للقوات الحكومية، وهو على بُعد نحو 1500 متر من الجبل. ثم تابعنا سيرنا الى جبهة مكلا التي تبعد مسافة 500 متر من الجبل. كان الموقع هادئاً لدى وصولنا ولم أرَ اياً من المقاتلين لفترة قصيرة ظهر بعدها عشرات منهم من خلف الاشجار ومن خنادق حُفِرت في الارض، وذلك بعدما تأكدوا من ان السيارة المقبلة في اتجاههم تابعة لهم. وتأخذ خطوط الجبهة شكلاً نصف دائري على مسافة طويلة تمتد الى جبهة اخرى ل "قوات التحالف"، وبعدها تبدأ مواقع جديدة لقوات قرنق تمتد حتى الحدود الاريترية. وتُراوح أعمار المقاتلين بين 18 و40 عاماً، وتدل سحنات وجوههم على انتمائهم الى مناطق مختلفة من السودان، وتأكدت من ذلك عندما تحدثت الى عدد منهم. إذ كان بينهم جنوبيون ونوباويون وشماليون ومن غرب السودان كما من المنطقة الشرقية نفسها. وكان يبدو على مقاتلي "التحالف" في مكلا انضباط شديد على خِلاف قوات غير نظامية كثيرة شاهدتها خلال تغطيتي حروب عدة في القرن الافريقي. قال المقاتل عُثمان قائد الموقع :"القوات الحكومية على مسافة نحو الفي متر من هنا، ومنذ استيلائنا على هذا الموقع في ايار مايو 1997 نتعرض لهجمات من القوات الحكومية التي تحاول استعادة المنطقة. ونحن في المقابل نشن هجمات مضادة ونُجبرهم على التراجع صوب الدمازين، واخر محاولاتهم كانت قبل ثلاثة ايام". وتبعد الدمازين نحو 52 كلم من مكلا ، وتتمركز القوات الحكومية في مواقع عدة في سهل الدمازين اهمها جنديل الذي يبعد 4 كلم من مكلا، وحامية بلقوة التي تبعد 8 كلم عن موقع ابو قواق التابع ل "قوات التحالف". وعن الاهمية الاستراتيجية للمنطقة، يقول المقاتل عُثمان :"ان للجبهة الشرقية اهمية تكمن في اعتماد الاقتصاد الوطني عليها بنسبة 50 في المئة. إذ هناك الميناء الرئيسي والطريق الحيوي بين بورتسودانوالخرطوم، كما ان سد الدمازين الى جانب خزان الروصيرص يمد البلاد بالطاقة الكهربائية، إذ تجري هناك عملية توليد نحو 80 في المئة من الطاقة في السودان. ذلك الى جانب المشاريع الزراعية الكبيرة مثل مشروع التكامل الموجود على مساحة ارض تبلغ نحو 57 الف فدان، وكان يُنتج 35 في المئة من مجمل الانتاج الزراعي في السودان، واستطعنا تعطيل هذا المشروع. وكذلك استطعنا تعطيل مناجم الذهب في بلقوة التي تبعد 8 كلم من إحد مواقعنا في ابو قواق". بعد عودتي من الجبهة الشرقية التقيت عبدالعزيز خالد مجدداً في بحر دار التي كان وصلها بعد انتهاء اجتماعات "التجمع الوطني الديموقراطي" المعارض في اسمرا. سألته، هل تُنسقون مع قوات حركة قرنق قرب مواقعكم في الشرق؟. فأجاب :"نفذنا عمليات مشتركة عدة في المنطقة، لكن ربما نحتاج الى مزيد من التنسيق العسكري، وهو ما نفعله حالياً". واضاف :"لسنا في عجلة من امرنا، ونحن لا نسعى الى الوصول للسلطة بقدر ما نسعى الى التغيير لإقامة دولة مدنية ديموقراطية موحدة. ونحاول استعادة التركيبة المجتمعية السمحة التي دمرها نظام الجبهة الاسلامية". وعلى رغم ان فتح الجبهة الشرقية غَيّرَ من طبيعة الحرب الاهلية السودانية التي كانت مُقتصرة على جبهة الجنوب، لكن لا يبدو ان هذا التغيير سيحسم، عسكرياً، مسألة الصراع ضد السلطة المركزية في ظل غياب التنسيق الفاعل بين كل قوات "التجمع" المعارض، بما في ذلك قوات قرنق. ولا يبدو هذا الامر سهلاً ايضاً في ظل التفاوت في امكانات كل من هذه القوات. ويعني ذلك استمرار اطول حرب في القارة السوداء لتحصد مزيداً من القتلى ومزيداً من الفقر والجوع.