بثت بعض وكالات الانباء، ومصادر معارضة، أنباء عن خلاف واشتباكات عسكرية بين فصائل القوات الجنوبية التي وقعت على اتفاقية السلام من الداخل التي سميت اتفاقية "السلام السودانية" في نيسان ابريل 1997. في الوقت التي توافرت فيه أنباء حكومية ومستقلة عن انشقاقات كبيرة داخل تنظيم الحركة الشعبية الذي يقوده العقيد جون قرنق. والذي أدى بدوره الى عودة ما بين خمسة آلاف وستة آلاف من أنصار قرنق الى معسكر خصمه العتيد اللواء كاربينو كوانين في منطقة بحر الغزال. التلفزيون الرسمي للحكومة السودانية قام بزيارة الى معسكرات العائدين من حركة قرنق وقام ببث برامج متوالية على قناته الفضائية أوضحت ان بين العائدين - وأغلبهم من أبناء دينكا بحر الغرال - أكثر من ألفي مقاتل والبقية من قوات الاسناد الاداري واللوجيستي للحركة، وأوضح ايضاً ان كاربينو قام بمجهود كبير مباشرة وعبر أجهزة الاتصال الهوائية العسكرية لإقناعهم بالعودة والانضمام اليه. وبدأت الحكومة السودانية ممثلة في رئيس الجمهورية ونائبه حملة استنفار كبرى شعبية ودولية لتقديم المأوى والملبس والمسكن للعائدين، شانة في نفس الوقت حملة ضارية ضد منظمات الاغاثة والعون الانساني الغربية العاملة في المنطقة متهمة إياها بالتحيز والسياسة الانتقائية في تقديم معوناتها الانسانية التي توجهها أغراض سياسية بحتة. وأوضحت أنباء اخرى بثتها بعض وكالات الانباء، ونشرتها صحيفة القدس العربية اللندنية بتاريخ 23 كانون الثاني يناير 1998، ان قرنق نقل موقع قيادته الى مكان متقدم بالقرب من الحدود الاثيوبية في اقليم أعالي النيل. وقام بنزع معظم اجهزة الاتصال العسكرية من وحداته للحيلولة بينها وبين الاتصال والعودة لمعسكر غريمه كاربينو المتحالف مع الحكومة سياسياً في جبهة الانقاذ الديموقراطية للجنوب والتي يبدو انه في طور البلورة لتصبح حزباً سياسياً وفي قوة دفاع الجنوب المتحالفة مع الجيش القومي الا انها تبدو انها حتى هذه اللحظة كجيش مواز للجيش الحكومي. وبثت مصادر حركة قرنق وما زالت تبث في بيانات متوالية تدعمها الآلة الاعلامية لتجمع المعارضة السودانية داعية كاربينو للانشقاق عن قوة دفاع الجنوب، وجبهة الانقاذ الجنوبية والانضمام لمعسكر غريمه وخصمه السياسي والعسكري قرنق لاضعاف التحالف الجنوبي الآخر الموقع على اتفاقية السلام الذي يقوده الدكتور رياك مشار زميل كاربينو السابق وأحد مؤسسي الحركة التاريخيين العميد أروك طون أروك وزميل الدكتور رياك مشار، الاستاذ الجامعي الآخر الدكتور لام أكول من أبناء قبيلة الشلك الذي انضم للاتفاقية مؤخراً. يتميز الجنوب السوداني بأنواع من التباين القبلي والاثني والتاريخي والثقافي يجعل التكهن والتنبوء باتجاهات السياسة والتحالفات من الصعوبة بمكان. فالجنوب ككل يبدو ان بينه وبين الشمال تناقض اثني وتاريخي ومظالم اجتماعية لم تكن وليدة للسياسة السودانية في فترة ما بعد الاستقلال فقط، بدأت مع صراع الامبراطوريات في نهاية القرن الثامن عشر للسيطرة على منابع النيل، وتواصلت في الصراع الفرنسي - الانكليزي بعد مؤتمر برلين 1885 وتعززت بقانون المناطق المقفولة اثناء فترة الحكم الاستعماري البريطاني للسودان 1936. هذا على المستوى الرأسي، وعلى المستوى الرأسي أيضاً فإن التناقض الأثني "على مستوى المجموعات" خلق تبايناً وغبناً اجتماعياً وشعوراً مريراً بالهيمنة بين المجموعة الاستوائية - جنوب خط العرض الذي يمر بمنطقة البحيرات السودانية وحتى حدود السودان الجنوبية - وتتكون من قبيلة التبوسا شرق النهر، وقبائل الزاندي والمورى والفرتيت غرب النهر. وبين القبائل النيلية الكبرى وأكبرها الدينكا التي تشكل وحدها نصف السكان في الجنوب والنوير الذي ينتمي لهم الدكتور رياك مشار والشلك الذي ينتمي لهم الدكتور لام آكول. المجموعة النيلية لعبت الجغرافيا والتقسيم الاداري دوره، إضافة الى عوامل قبلية واثنية وتاريخية في أحداث تباين وصراع مصالح على المستوى الاجتماعي وعلى مستوى النخب وقيادات المجتمع. فجغرافياً يقطن 90 في المئة من قبيلة الدينكا اقليم بحر الغزال تعداد الدينكا الكلي حوالى 3 ملاين ويسكن السلك و90 في المئة من النوير اقليم اعالي النيل المتاخم لاثيوبيا وبالتالي توجد لهم امتدادات من فرع الانواك الاثيوبي. الصراع على الخدمات والتنمية والبنى الاساسية خلال العهد الاستعماري والوطني اذكى إوار الصراع بين الاقليميين وسحب ظلاله على المستوى الاجتماعي والقبلي ووصل ذروته عندما اصبح الجنوب كياناً سياسياً خاصاً بعد اتفاقية اديس ابابا للسلام 1972 خلال عهد الرئيس الاسبق جعفر نميري. وعلى مستوى النخب، تمردت الكتيبة 105 من اوائل 1983م وكان يقودها كاربينو - وهو من دينكا بحر الغزال - ولحقت به الكتائب 106 و107، وكلها من الكتائب المستوعبة من قوات الانيانيا الاولى التي كان يقودها الفريق جوزيف لاقو - من سكان القبائل الاستوائية ذات الامتدادات العرقية في الكونغو ويوغندا والتي تم استيعابها في الجيش الوطني بعد اتفاقية اديس ابابا. اذاً من الناحية التاريخية فكاربينو وأروك طون هم اباء ومؤسسي الحركة الشعبية لتحرير السودان، اذ ان قرنق انضم اليهم لاحقاً بعد ان بدأت قواتهم العمل ضد الجيش الوطني من داخل الحدود الاثيوبية. جون قرنق ينتمى الى فرع دينكا بور - نخبة الدينكا الاكثر تعليماً وثراء واغلبهم من المسيحيين. الا انهم لا يشكلون اكثر من 10 في المئة من كتلة الدينكا بالجنوب، وللمفارقة ينتمي لهم العميد اروك طون ضابط الاستخبارات السابق الذي قاد التمرد الاول مع كاربينو، والمتحالف مع الدكتور مشار والدكتور لام اكول وكاربينو نفسه الآن من قوة دفاع الجنوب وجبهة الانقاذ الديموقراطية للجنوب. لعوامل لا زالت بعضها معروف وبعضها غير معروف احدث قرنق انقلاباً داخل الحركة قام فيه بسجن كاربينو وأروك طون لمدة عشر سنوات كاملة داخل معسكراته في الجنوب، ولم يتم اطلاق صراحهما الا بعد ان تمرد رئيس اركان جون قرنق السابق وليم نون - من قبيلة النوير - بعد انشقاق الدكتور لام اكول والدكتور مشار عن قرنق عام 1993، وكان موقع سجنهما داخل الارض التي سيطر عليها القائد الراحل وليم نون، ففك اسرهما وذهبا لمناطق نفود قبائلهم وعشائرهم ليبدأ فصل جديد من حرب الجنوب انتهى بتوقيع اتفاقية السلام الجديدة المشار اليها سلفاً. الذين يعرفون اللواء كاربينو، يعرفون انه رجل متواضع التعليم والثقافة اذا ما قورن بالدكاترة جون قرنق، مشار، لام اكول، والعميد اروك طون، الا انه بشهادة الكل يعتبر من أكفأ وأشجع القادة الميدانيين لحرب العصابات وهو في الثامنة والاربعين من عمره، متزوج من خمسة نساء ولديه 21 ابناً، ونساؤه من قبائل مختلفة وهو أمر حسب قوله فرضته عليه حرب العصابات والصراع داخل الغابة والاحراس السودانية. موضوع عودته الى حضن حركة قرنق وبقيادة قرنق امر مستبعد، فالصراع الازلي بين فرع دينكا بحر الغزال التي يستمد كاربينو نفوذه منهم - اكثر من 2 مليون ودينكا بور الذين ينتمي لهم قرنق - نصف مليون لا يسمح بذلك، اضافة للمرارة الشخصية والسجن الطويل 10 سنوات والاهانة التي وجهها له قرنق. عودة انصار قرنق الى معسكر كاربينو ثلاثة كتائب قتالية على الاقل اضافة لما له من قوة سابقة عشرة كتائب جعلت منه القوة الرئيسية بعد قرنق 15 كتيبة واصبح لديه من القوات المباشرة تحت امرته ما يعادل قوات مشار ولام اكول معاً - اذا استثنينا قوات دفاع الاستوائية الموقعة على اتفاقية السلام. تقدم قوات قرنق لاحتلال جوبا اصبح بعيداً بعض الشيء، لأن جزء من قوات مشار 3 كتائب وقوات دفاع الاستوائية اضافة الى قوات الفرقة الاولى للجيش الوطني الحكومي تتولى حالياً الدفاع عن قاطع جوبا العسكري شرق وغرب النهر والطرق المؤدية اليها، وجوبا ليست مهددة من الناحية الشمالية. كما ان تقدمه نحو اقليم بحر الغزال عن طريق محافظة البحيرات ومنطقة يرول العسكرية تحول دونه كثافة قوات كاربينو في المنطقة، وتقدمه شمالاً للتوغل في اقليم اعالي النيل تحول بينه كتائب الجيش الوطني وقوات مشار ولام اكول المنتشرة في الاقليم. لكنه ما زال يستطيع التحرك بحرية في شرق وغرب الاستوائية لقربها من خطوط امداده في يوغندا. الواقع العسكري الجديد بوجود تفوق عسكري ونفسي لكاربينو، اضافة الى واقع جديد خلقته الاتفاقية من الناحية السياسية يميل الى صالح مشار بخلفيته النويرية المشهود لها بالصلف والكبرياء، يمكن ان يحدث خلطاً في الأوراق إن لم تتداركه السياسة. فالقادة العسكريون لقوات دفاع الجنوب ومن بينهم كاربينو نفسه أصبحوا يطالبون بإدارات وثكنات وإمداد منفصل بطريقة يمكن ان تخلق جيشاً موازياً للجيش الحكومي وهو أمر له تبعاته على المدى المنظور والبعيد. فالصراع الأوربي - الأميركي، وصراع المصالح النفطية وتناقض اتجاهاتها على مستوى القرن الافريقي ومنطقة البحيرات الكبرى، والصراع الاقليمي على الموارد ومصادر المياه بين مجموعة الايقاد ومجموعة وادي النيل المصرية - السودانية، لاعتماد أمن مصر الاستراتيجي ووجودها على النيل وتأمين مصادر المياه، يتطلب التحرك السياسي السريع وإعادة قراءة الواقع وسد الثغرات المتشابكة في أكثر مناطق القارة حيوية وأهمية استراتيجية. كما ان التوسع الكبير، بعمليات التجييش والتعبئة التي شهدها القطاع العسكري السوداني في السبع سنوات الماضية على مستوى الجيش الحكومي وقوات الدفاع الشعبي والقوات المتمردة السابقة المتحالفة الآن مع الدولة بعد اتفاقية السلام يتطلب اعادة جديدة للهيكلة والتنظيم واعادة الانتشار ليصبح السلاح خاضعاً للسياسة لا العكس، وإلا فالعواقب لا يمكن التنبؤ بها في ظل كل هذا التداخل.