بعد مرور أقل من خمسة عقود على بدء عملية التكامل الاقتصادي بين بلدان الاتحاد الاوروبي سيعلن اليوم قادة الاتحاد عن بدء التعامل بعملتهم النقدية الموحدة "يورو"، في بروكسيل. وتأتي هذه الخطوة بعد تجاوز مراحل سبقتها مثل اقامة المشاريع المشتركة وإلغاء الحواجز الجمركية امام تنقل الاشخاص والبضائع. وفي المقابل فان العرب بدأوا محاولاتهم لاقامة تكامل اقتصادي بينهم قبل الاوروبيين، أو قبل أكثر من نصف قرن، غير ان ما حققته البلدان العربية على هذا الصعيد يكاد لا يشكل خطوة تذكر في الطريق التي قطعها الاتحاد الاوروبي. فالرسوم الجمركية بين البلدان العربية على سبيل المثال، لم يتم البدء بالغائها حتى مطلع السنة الجارية، اذ ستنخفض بمقدار 10 في المئة سنوياً الى ان يتم الغاؤها بعد عشر سنوات من الآن. اما تجارة البضائع والخدمات بين البلدان المذكورة فما تزال تواجه اجراءات روتينية وبيروقراطية اضافية ومعقدة قياساً الى اجراءات بسيطة توضع امام السلع والخدمات الاجنبية. وكذلك الامر بالنسبة لانتقال مواطن عربي بين بلده والبلدان العربية الاخرى. فتنقل المواطنين العرب بين بلدانهم باستثناء بلدان مجلس التعاون الخليجي وبعض الحالات الاخرى كما هي الحال بين سورية ولبنان يواجه اكثر الاجراءات تعقيداً في العالم. وينعكس هذا الوضع في العلاقات الاقتصادية العربية التي لا تزال محدودة وضعيفة قياساً الى علاقات العرب مع البلدان والتكتلات الاقتصادية غير العربية. فالاولى شبه محصورة في تبادلات تجارية ضعيفة اذ ان حجم التجارة بين البلدان العربية لا يزال يتراوح في حدود 8 في المئة من حجم التجارة الخارجية لتلك البلدان بينما يتجاو حجم تجارتها مع بلدان الاتحاد الاوروبي، على سبيل المثال، ثلث حجم تجارتها الخارجية. وليس أدل على صعوبة وتعقيد تجارة البضائع والخدمات بين البلدان العربية مما يجرى هذه الايام لفوائض الانتاج من بعض السلع الاستهلاكية العربية الخفيفة مثل المواد الغذائية والأدوات المنزلية والمنتجات النسيجية وغيرها. فهذه الفوائض المتوافرة في شكل خاص في بلدان مثل سورية وتونس والمغرب ومصر لم تستطع حتى الآن الحصول على معاملات تفضيلية لدخول اسواق البلدان العربية الاخرى التي تستورد السلع المشابهة. وفي الوقت الذي تستورد فيه هذه الاخيرة لا سيما النفطية منها مواد غذائية بقيمة توازي نحو 70 بليون دولار اميركي فان بلدان الفوائض المذكورة لا تزال تلاقي الامرين على صعيد ايجاد اسواق لتصدير مثل هذه المواد. وخير مثال على ذلك زيت الزيتون التونسي. فمنذ سنوات وتونس تتفاوض مع الاتحاد الاوروبي وبشروط غير ميسرة في غالب الاحيان من اجل السماح لها بتصدير زيت الزيتون الى السوق الاوروبية في الوقت نفسه الذي تستورد فيه غالبية البلدان العربية هذه المادة من اوروبا وغيرها. ولا يختلف الامر كثيراً لجهة الحمضيات المغربية والخضار والفواكه والمنتجات النسيجية السورية والمصرية. واذا كان بعضهم يدعي ان ذلك الوضع سببه ان المنتجات العربية ذات قدرة تنافسية أقل من مثيلاتها غير العربية فان هذا الادعاء يفقد قوته ازاء حقيقة ان هذه المنتجات تلاقي عراقيل اضافية مختلفة لا تلاقيها مثيلاتها من المنتجات الاوروبية او الآسيوية او الاميركية. فالعلاقات الاقتصادية العربية يميزها الضعف اذاً، ولكن ما هي أهم أسبابه؟ تشابه نماذج التنمية وغياب التنسيق بينها ان أهم اسباب ضعف العلاقات الاقتصادية العربية يعود الى عدم توافر الارادة السياسية الحقيقية بهذا الخصوص لدى اصحاب القرار في بلداننا العربية. ولا يغير في جوهر الامر التأكيدات المستمرة لهؤلاء امام الرأي العام والتي مفادها انهم يقفون قلباً وقالباً وراء تدعيم العلاقات الاقتصادية العربية البينية. ان نماذج التنمية التي تتبعه البلدان العربية منذ حصولها على استقلالها تنطوي على عدم التنسيق في ما بينها من جهة وعلى التشابه في ما يتعلق بالاهداف والمشاريع المحددة في اطارها من جهة اخرى. وعلى سبيل المثال فان اهداف التنمية الزراعية ركزت على تطوير زراعات متشابهة بدلاً من تخصص كل بلد او اكثر بزراعات معينة. كما ان التنمية الصناعية ركزت على الصناعات الاستهلاكية الخفيفة في غالبية هذه البلدان. فباستثناء بعض الصناعات مثل الصناعات البتروكيماوية في السعودية وبعض دول مجلس التعاون الخليجي الاخرى المحكومة بتوافر الثروة النفطية هناك فان الصناعات العربية تنحصر تقريباً في سلع الاستهلاك اليومي من مواد غذائية وانسجة وألبسة وأدوات منزلية وما شابهها. اما الصناعات الاساسية مثل صناعة الآلات والتجهيزات ووسائل النقل ووسائط الاتصال وغيرها من الصناعات الثقيلة والدقيقة والتي من المفترض تطويرها في شكل مشترك فانها ليست ذات حضور مهم في القطاعات الصناعية للبلدان العربية منفردة او مجتمعة. وينطوي التشابه في نماذج التنمية العربية على حقيقة ان البنية الاقتصادية لكل بلد عربي لا تشمل انتاج الكثير من السلع المهمة التي تحتاج اليها البلدان العربية الاخرى. فاقتصادات البلدان العربية تنتج السلع الاستهلاكية الخفيفة والمتشابهة بالدرجة الاولى، وتعرض الفوائض منها للتصدير الى اسواق البلدان الصناعية وغيرها. وفي الغالب تتنافس الفوائض العربية في تلك الاسواق في ما بينها. وفي المقابل فان الاقتصادات العربية تستورد السلع الرأسمالية المختلفة من آلات وتجهيزات ومعدات مختلفة من البلدان الصناعية لعدم توافرها في بلدانها. ويفسر التشابه البنيوي بين اقتصادات البلدان العربية الى حد كبير ضعف العلاقات الاقتصادية بين تلك البلدان بعضها ببعض من جهة وقوة هذه العلاقات بينها وبين المراكز الاقتصادية الصناعية في اوروبا وشرق آسيا وشمال اميركا من جهة اخرى. وكان تم إرساء هذا الشكل من العلاقات خلال فترات يعود تاريخها في بعض البلدان الى اكثر من مئة عام، اي الى فترات بدء الاستعمار الغربي لاوطان العرب. وعليه فان البلدان العربية لن تستطيع في الامد القريب تقوية علاقاتها الاقتصادية البينية الى المستوى التي هي عليه مع المراكز الاقتصادية المذكورة لأن الظروف والعوامل المساعدة على ذلك غير متوفرة حالياً. فمصالحنا الاقتصادية الحالية بين بعضنا كعرب ضعيفة التشابك والارتباط سواء على صعيد الافراد او على صعيد المؤسسات. وهنا يكمن بيت القصيد الذي يمكن من خلاله معرفة اهم اسباب تعثر قيام سوق عربية مشتركة وتحقيق تكامل او نوع من التكامل الاقتصادي بين البلدان العربية حتى الآن. اهمية ادخال تعديلات ان عدم تشابك وارتباط مصالح البلدان العربية حالياً لا يعني عدم امكان تحقيق ذلك في المستقبل. وبدون اقامة مثل هذا التشابك والارتباط فانه لا يمكن الحديث عن توافر امكانات حقيقية لتطوير مجالات التعاون الاقتصادي بين بلداننا في مختلف المجالات. وفي ظل غياب ارتباط المصالح فان قيام سوق عربية مشتركة تشكل انطلاقة لتكامل اقتصادي عربي، سيبقى بعيد المنال او حلماً لن يتحقق. ومن أهم ما تتطلبه عملية اقامة مصالح اقتصادية قوية بين بلداننا ادخال تغييرات على البنى الاقتصادية للبلدان العربية، تتم على اساس تشجيع المشاريع التي تولد مصالح اقتصادية مشتركة على الصعيدين الشعبي والرسمي. ويجب تقوية هذه المصالح بحيث تصبح قادرة على التأثير في عملية اتخاذ القرار السياسي لصالح مزيد من التعاون والتكامل. ومن هذا المنطلق سيتم اضعاف المصالح الفئوية الضيقة لصالح تقوية المصالح الجماعية التي تشمل غالبية فئات المجتمعات العربية، وما ينطوي عليه ذلك من تشجيع لاقامة مشاريع عربية مشتركة في المجالات الانتاجية والخدمية. وفي الوقت الحالي فان مشاريع البنية التحتية والصناعات الثقيلة والمعقدة ينبغي ان تعطى الاولوية. كما ينبغي لهذه المشاريع ان تشمل فروعاً وأقساماً تنتشر على اراضٍ تابعة لأكثر من بلد عربي. وعلى سبيل المثال فان تطوير صناعة النسيج يمكن ان يتم من خلال اقامة مشاريع تؤدي الى تحقيق تكامل على صعيد هذه الصناعة في دول مثل مصر وسورية والمغرب وتونس بالدرجة الاولى. ومن متطلبات هذا التطوير قيام تعاون مع الدول العربية الاخرى التي يمكن ان تقدم تسهيلات مالية في شكل قروض ميسرة وغيرها وان تفتح اسواقها امام منتجات مثل تلك الصناعات. وكذلك الامر بالنسبة للصناعات البتروكيماوية فتطويرها في الدول العربية النفطية ينبغي ان يتم بالتنسيق مع البلدان العربية الاخرى التي تتوافر لديها خبرات وأيدٍ عاملة، والى حد ما، أسواق يمكن ان تستهلك قسماً من منتجات هذه الصناعات. اما مشاريع الطاقة والنقل والاتصالات وبقية مشاريع البنية التحتية فيجب ان تشمل جميع الدول العربية من دون استثناء. ومن جهة اخرى، فان على مشاريع التنمية العربية المشتركة، بالاضافة الى انتاج السلع الاستهلاكية، انتاج السلع الرأسمالية ايضاً. ويمكن ان يشمل ذلك في المرحلة الاولى انتاج المعدات والآلات والتجهيزات اللازمة لتطوير الزراعة والصناعات الغذائية والنسيجية والصناعات البتروكيماوية مع الانتقال في مراحل لاحقة الى صناعات اخرى تواكب مستويات التطور المستقبلية. ويجب ان يرافق عملية اقامة المشاريع العربية المشتركة إعطاء تسهيلات على صعيد انتقال المواطنين العرب والبضائع العربية من بلد عربي الى آخر. وينبغي اعطاء هذه التسهيلات تدريجياً على اساس خطة تنتهي بالغاء جميع القيود الجمركية او بمعنى آخر، تنتهي باقامة السوق العربية المشتركة. ويشار الى ان اقامة هذه السوق ستستغرق عقوداً عدة على أقل تقدير، لأن انجاز المشاريع المشتركة التي سيتم بموجبها ادخال تغييرات وتعديلات هيكلية على البنى الاقتصادية العربية يتطلب فترات كهذه. وهناك تجربة حديثة بهذا الخصوص هي تجربة الاتحاد الاوروبي. فهذه التجربة بدأت في اواسط النصف الثاني من الخمسينات من خلال التنسيق والتعاون على صعيد صناعة الفحم والصلب. ثم تابعت بلدان الاتحاد الاوروبي التنسيق في ما بينها على اصعدة شملت مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية حتى اوائل التسعينات عندما سُمح بتنقل الاشخاص والبضائع بحرية في ما بينها. وبعد نجاح تجربة السوق الاوروبية المشتركة أعلن عن قيام الاتحاد الاوروبي الذي ستبدأ غالبية دوله بالتداول بعملة نقدية موحدة هي ال "يورو" بداية سنة 1999 على ان تلتحق بها بقية الدول الاخرى في ما بعد. ومن ناحية اخرى فان القيام بتنمية عربية مشتركة يتطلب ايضاً ادخال تغييرات تدريجية على البنى السياسية القائمة. وينبغي لذلك ان يتم على أساس اشراك المواطنين تدريجياً في الحياة السياسية في شكل اكثر فعالية. فالفئات الاجتماعية الصاعدة وغيرها لن يكتمل دورها الاقتصادي من دون مساهمتها في اتخاذ القرارات المتعلقة بهذا الدور وغيره. كما ان القيام بالتنمية المذكورة أعلاه لا يعني بأي حال من الاحوال التقليل من أهمية العلاقات الاقتصادية بين البلدان العربية والتكتلات الاقتصادية العالمية. فهذه العلاقات مهمة للاستفادة ليس فقط من التبادل التجاري معها وإنما لنقل المعارف والتكنولوجيا الى بلداننا العربية ايضاً. لكن تلك العلاقات ستكون ذات نوعية جديدة اذا استطاعت البلدان العربية ان تشكل تكتلاً اقتصادياً في ما بينها. وفي حال نجاحها في ذلك سيكون بامكانها دفع عملية تطورها الاقتصادي والاجتماعي بخطوات أسرع الى الأمام. كما سيكون بامكانها الحفاظ على مصالحها أكبر بكثير من أي وقت مضى خلال تاريخها المعاصر. التنفيذ هو المهم لقد قررت غالبية البلدان العربية اخيراً اقامة منطقة تجارة حرة عربية على ان ينفذ الاتفاق المتعلق بشأنها خلال عشر سنوات اعتباراً من مطلع السنة الجارية. ويقضي الاتفاق ان تقوم الدول العربية بخفض الرسوم الجمركية على السلع العربية المنشأ بنسبة 10 في المئة سنوياً. ومع نهاية السنوات العشر يتحقق نوع من الوحدة الجمركية يتم في اطاره معاملة السلع العربية في اسواق هذه الدول معاملة السلع الوطنية. ومع تحقيق ذلك ينبغي ان يتم الانتقال الى اقامة سوق عربية مشتركة يسمح بموجبها بحرية انتقال البضائع والاشخاص بين الدول العربية من دون قيود. ان اتخاذ قرارات كهذه يعتبر اهم الخطوات على صعيد تحقيق اقامة هذه السوق التي تشكل جوهر عملية تحقيق التكامل الاقتصادي العربي. غير انه ينبغي التأكيد مرة اخرى على ان اكتمال عملية اقامة السوق المشتركة مرتبط بتعزيز القدرات العربية من خلال القيام بتنمية عربية مشتركة تشمل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية كافة. ويبقى ان يشار الى ان تجارب التعاون الاقتصادي بين البلدان العربية حتى الآن اثبتت ان العبرة ليست في اتخاذ القرارات وانما في تنفيذها. فالتنفيذ يشكّل المحك الذي ستظهر من خلاله مدى جدية هذه البلدان او مدى جدية اصحاب القرار فيها على صعيد تحقيق الوحدة الجمركية وإقامة السوق المشتركة. واذا كان هناك بعض العوامل لا سيما السياسية منها تعيق تحقيق ذلك فان هناك عوامل اخرى كثيرة، اقتصادية وسياسية تدعم تحقيق هذا الهدف. ومن هذه العوامل على سبيل المثال توافر الامكانات المادية والبشرية واقتناع غالبية العرب على الصعيدين الرسمي والأهلي حالياً، اكثر من أي وقت مضى، بضرورة تلك الامكانات او على الاقل تجنيد جزء منها لخدمة المصالح العربية في اطار تكتل اقتصادي تشكل السوق المشتركة اساساً لاقامته. وتساهم المحاولات الحالية لضم العرب الى تكتل شرق اوسطي "السوق الشرق اوسطية" يشكلون فيه الحلقة الاضعف في ازدياد قناعتهم هذه. كما يساهم في ازدياد تلك القناعة انضمام دول العالم المختلفة الى تكتلات اقتصادية اقليمية لحماية مصالحها. ويبقى ان نشير الى انه اذا كان اقتناع العرب الأكيد بضرورة اقامة سوق عربية مشتركة استغرق نحو نصف قرن فاننا نأمل ان ترى هذه السوق النور قبل مرور نصف قرن آخر.