قصة تكررت، مرة تلو الاخرى، منذ مائتي عام. وتكررت ضمن سياق آخر قروناً بعد قرون. لكن اذا تابعناها في المرحلة الاخيرة اي منذ المائتي عام المنصرمة فسنجد خلاصتها تتمثل بانطلاق محاولة لانهاض الأمة تمتد بضع عشرة سنة لتنتهي بنوع من الاخفاق والانتكاسة، ثم تتلوها محاولة للتكيف مع املاءات القوى الخارجية التي اقتحمت البلاد بالجيوش. وأنزلت الضربة القاسية بالمحاولة الأولى. فتنتشر افكار الاستسلام والدعوة الى الإذعان اما بصورة مباشرة من خلال الاعتراف بسطوة القوة القاهرة، وإما، بصورة غير مباشرة، من خلال الهجوم النظري والسياسي على شعارات المرحلة السابقة التي قادت البلاد الى "الهزيمة"، وربما المضي في تسفيهها ونعتها بالشعارات الغوغائية، والفارغة، والوهمية، والاسطورية، والبعيدة عن العقلانية والواقعية. وها نحن أولاً نعيش اليوم مثل هذا النقد والنقد الذاتي، وبأصوات اقوى نبرة من تلك الاصوات التي اعقبت في الماضي مراحل الهزائم والانكسارات. ولعل من بين اكثر الذين عظّموا قوة تلك النبرة درجات ودرجات بعض النخب التي كانت اصواتها عالية في رفع شعارات المرحلة السابقة. فقد اكتشف هؤلاء، فجأة، ان ثمة موازين قوى وانها ليست في مصلحة الأمة. علماً ان هذه المعادلة في ميزان القوى لا سيما من الناحية الاستراتيجية كانت دائماً، منذ مائتي عام، كذلك. فلو انهم درسوا، على الأقل، تاريخ القرنين الماضيين، واعتبروا بدروس ما شهدته بلادنا منذ تجربة محمد علي الكبير، وتذكّروا ما حدث لثورات كثيرة نهضت لمقاومة الاستعمار من ثورة عبدالقادر الجزائري الى ثورة مهدي السودان الى ثورة عمر المختار، الى ثورة عرابي، الى ثورة عبدالكريم الخطابي، الى ثورة العشرين في العراق، الى ثورات فلسطين حتى 1949، الى عشرات الانتفاضات والثورات التي عرفتها كل الساحات العربية. هذا اذا اقتصر الحديث على البلاد العربية فقط، ولو درسوا تجربة عبدالناصر، لوجدوا ان ميزان القوى من الناحية الاستراتيجية، لا سيما عالمياً، كان دائماً، في جوهره، وحقيقته، في غير مصلحة تلك المحاولات النهضوية. ولو انهم درسوا تجارب المحاولات التي كانت تتلو كل انكسار، والتي كانت أوسع انتشاراً وأطول اعماراً، وتذكّروا ما حدث لتجارب الاذعان لشروط القوى التي قهرت المحاولات النهضوية والتي جاءت على انقاضها تحت شعارات الواقعية والعقلانية والتكيف من اجل "انقاذ ما يمكن انقاذه"، او اتباع سياسة "خذ وطالب"، لوجدوا ان طريق الاذعان زاد تلك القوى الباطشة القاهرة امعاناً في تحقيق الاهداف نفسها التي قادت حربها مع السابقين. فتلك القوى لم تحارب النهضويين لأن شخوصهم لم تعجبها او تفرت من اطوالهم وألوان عيونهم، ولا لأنهم ما كانوا واقعيين او مساومين، وإنما لأنها كانت تحمل اهدافاً او مطامع ومخططات ترمي الى تنفيذها كرهاً او طوعاً. فعلى سبيل المثال كانت تجربة الانظمة العربية، او قيادات التفاهم مع الغرب بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية تجربة مريرة وقاسية. وآية ذلك نجدها في الاصرار على تنفيذ وعد بلفور وإطلاق الهجرة اليهودية الى فلسطين وإقامة الدولة العبرية، والإصرار على تنفيذ اتفاقيات سايكس - بيكو ومؤتمر باريس في تجزئة البلاد العربية. هذا دون الحديث عن سياسات نهب الثروات وسد الأبواب في وجه التقدم، في اي مجال من المجالات، عدا مجال القمع والقهر. وإذا كان لا بد من تطوير التعليم او فتح الطرقات، مثلاً، فكان تقتيراً، وبحساب يقطر بقطارة شحيحة. الامر الذي ادخل القوى التي قبلت بالاذعان للشروط المفروضة في مآزق خانقة احرجتها اشد الإحراج امام شعوبها، وأدخل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في ازمات وانهيارات. وبهذا اخذت تتراكم، مرة اخرى، اسباب الانتفاض، وطلب التغيير والعودة الى محاولة النهوض حتى لو فرضت عليها المواجهات من جديد. ان الاختلال في ميزان القوى العالمي، والذي زاد اختلالاً بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية، بسبب التجزئة وإقامة الدولة العبرية، في غير مصلحة الأمة، ظل يعمل بقسوة في الحالتين. بل كان فعله اشد قسوة ونفاذاً في التعامل والقوى التي تريد ان تكون قابلة به عموماً لكنها تريد ان تحقق شيئاً يسيراً، مثلاً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، او في ما يتعلق بالتخفيف من وطأة النهب والتدخل في شؤونها الداخلية، او في امتلاك بعض القوة العسكرية، او في محاولة تحقيق نوع متواضع من الاتحاد او التضامن بين بلدين عربيين او اكثر. فالمعادلة هنا واضحة تقول، ما دمت عاقلاً ومتفاهماً وتريد التعاون والتكيف فنحن الذين نحدد لك ما هو ممكن وما هو غير ممكن. وإذا اصررت على ان تأخذ جزءاً يسيراً مما لا نريد ان نعطيه فهنالك من هو افضل منك وأكثر عقلانية يمكن التعاون معه. ثم تفتح له صفحة الفساد او الديكتاتورية او سوء التصرف، واليوم تفتح صفحة حقوق الانسان، وقضايا الاقليات بالاضافة الى ذلك. فيشجع طامع في السلطة من اهله او حزبه او من أبعد من ذلك ليطيح به ويحل مكانه، او تغير الوزارة ليأتي الأطوع والأخنع. وبالمناسبة يظن البعض ان ما رأوه في الماضي القريب، او يرونه الآن، من حولهم، من مظاهر فساد، او بعثرة للأحوال بعيداً عن استثمارها داخل البلاد العربية، او جنوحاً لمزيد من تكريس التجزئة العربية - العربية ونأياً عن التضامن او الوحدة او حتى السوق المشتركة يعود للأفراد بسبب سوء الأخلاق وفساد التربية، او الجهل، أو الأنانية. وقد يحلو لآخرين ان يعزوها لعقلية القبيلة والعشيرة خارجاً عن سياقها الواقعي بكل المقاييس، بينما هي في الحقيقة الابن الشرعي للتبعية ودولة التجزئة، وهي سياسة وليست مشكلة فردية. وإن كل من حاول ان يستثمر امواله بصناعة حقيقية وتقنية متقدمة او حتى زراعة ضرورية وجد الوانآً من الضغوط والعراقيل تقام ضده، وفي وجهه. فهذا المال يجب ان يعود في اغلبه للخارج، وإذا انفق ينبغي له ان ينفق اسرافاً وإذا استثمر ففي السياحة والتجارة او الصناعات التي في طريقها الى الاندثار. والحاكم الفاسد هو المطلوب، وما ازعج المستقيم الجاد نظيف اليد. والذي يتجه في علاقاته الاقتصادية صوب الاشقاء، ولو اساساً، وبهذا سيتعرض للبحث عن بديل عنه، او تفتح له صفحة حقوق الانسان، لأن المطلوب الارتباط مباشرة بعواصم المتروبول - عواصم الدول الكبرى. فالقانون يقوم على التواصل: اطراف - مركز وليس اطرافاً - اطرافاً. بكلمة ان كل ما ينسب الى الفساد او الاسراف او سوء استخدام السلطة، او التقصير في الاستثمار المنتج او تكريس التجزئة يجب ان يُرى اساساً باعتباره سياسة يفرضها التحكم او المتحكمون في النظام العالمي القائم، قبل ان يُرى الوجه الآخر المتعلق بالافراد والحكام. هذا دون اعفائهم من المسؤولية الذاتية، ودون اغفال حماسة بعضهم الى تلك السياسة دون ان تكون مفروضة عليهم. بل يمكن القول ان تلك السياسة مرغوبة من قوى السيطرة العالمية لا مفروضة. لأن المفروض من قبلها هو منع نقيضها اي الاستقامة والعدل والجدية في استثمار الاموال، والتوجه ضمن الاطار العربي والاسلامي. وهذا المنع يخلي الميدان للفاسدين ويعطيهم الضوء الاخضر، ويمدهم بالدعم والمساندة، ويضع غيرهم تحت الضغوط والتهديد. وهل ثمة حاجة الى فتح قائمة الفاسدين المدعومين من القوى الكبرى وصولاً للسلطة وبقاء فيها ربما يكفي تذكر مثل سوهارتو في اندونيسيا او موبوتو سيسيسيكو في زائير! طبعاً لا يريد الذين يصرون على رؤية الاشياء من الخارج والظاهر ان يُبحث عن المعالات الحقيقية التي تتحكم بالظواهر وفي حالتنا، القوى المسيطرة العالمية - وريثة القوى الاستعمارية والامبريالية والاستعمار الجديد. انهم يرفضون رفضاً باتاً الاشارة اليها، ولو بخجل، او عن طريق الاستدراك ذراً للرماد في العيون. فيظنون ان العملية تعني القاء كل المسؤولية على الذات وإلا كان ذلك تعليقاً لأخطائنا ومشاكلنا على "مشجب الآخر او الخارج". لكن هذا الخارج او الآخر ليس مشجباً سالباً وإنما هو قوة فاعلة متدخلة مسيطرة تفرض ارادتها وتسعى لتأديب كل من يخرج عليها أو ينهج نهجاً، ولم معتدلاً جداً، لكنها تراه مضراً بمصالحها واستراتيجيتها. فنظرية المشجب هذه ليس لها علاقة بالمعادلة الحية الواقعية والمتمثلة بالنظام العالمي القائم وعلاقة المركز بالاطراف. من هنا على الذين اكتشفوا الواقعية والعقلانية وسياسة التكيف مع النظام العالمي السائد، او مع العولمة كما اصبحوا يسمونها، لم يكتشفوا جديداً لم يجرب. بل بُلي من التجريب حتى لم يبق بعده ما يجرّب ضمن نهجه. بل ان محاولة التجريب الآن ضمن دخول الصهيونية دخولاً مباشراً على المعادلة سيجعل نتيجتها فاجعة أشد من كل الفواجع السابقة، وكارثة أفدح من كل الكوارث السالفة. اما المواجهة فلم تكن في الغالب، وليست الآن، هي الخيار الأول لكنها كانت دائماً، وكما هو حالها الآن، محصلة تنتهي اليها بصورة مباشرة، او غير مباشرة، الواقعية والعقلانية ومحاولة التكيف ضمن حدود مرنة لا تصل حدّ الاستسلام الكامل. فقد كان السعي لتأمين الحدود الدنيا من الحقوق والمصالح والتقدم او التضامن العربي او الاسلامي يلقى صدوداً من قبل القوى العالمية المسيطرة ليجد نفسه امام المواجهة، بالرغم من الرياح غير المواتية وموازين القوى غير المتكافئة. لكن بالرغم من كل ذلك كانت طريق رفض الاذعان او المواجهة تحقق تقدماً صناعياً وعلمياً وتقنياً اكثر بكثير مما حققته السياسات التي ذهبت وفق شروط القوى الخارجية. وما مَثَل تجربة محمد علي ببعيدة ولا تجربة عبدالناصر. كما ان كل تجربة من تجارب التكيف اتسمت بجدية لتحقيق تقدم حقيقي او تضامن عربي يسعى لتأمين الحد الادنى من الحقوق وجدت نفسها امام آخر بطلب المواجهة. وقد وصل بعض تلك المواجهات الى العنف او ما يشبه العنف وبعضها كان قاسياً يتسم بالحصار وبالضرب تحت الحزام والطعن بالظهر. وما يشهده بعض الدول العربية الآن يشكل نموذجاً جديداً لهذا النمط الاخير. اي نموذج العقلانية الواقعية التي تسعى للتكيف بعد تجارب مريرة فتجد نفسها مدفوعة الى لون من المواجهة بسبب تعسف الشروط التي يفرضها ذلك "المشجب" او ذلك الآخر. بل يمكن للذي يتابع ما جرى، ويجري، حول البحيرات الكبرى والقرن الافريقي وجنوبي السودان، او يتابع بدايات تكوين حلف اسرائيلي - تركي - اميركي، او ينفذ الى ما تستهدفه الاستراتيجية الاميركية في المنطقة، ثم سياسات نتانياهو يستطيع ان يتوقع عشر سنوات او خمس سنوات عاصفة ستواجه المنطقة وستضع كثيرين من اهل الواقعية والتكيف في مواقع المواجهة التي ما كانوا يحتسبون.