ممّا يصيب المرء بالروع والذهول بل بالاشمئزاز، ان يقرأ خبر سحب "مسرح بيروت" مشاركة مثقفين من اليهود العرب في الموسم الثقافي الذي ينظمه بمناسبة مرور نصف قرن على نكبة فلسطين، لأن زمرة من "القوميين" اللبنانيين والفلسطينيين وضعت "فيتو" على تلك المشاركة، وأوحى بعضها بالتهديد لمنع الندوة! من حق المدير الفني للمسرح الياس خوري أن يعتذر خجلاً عن عدم استضافتهم لأنه لا يملك أن يحمي أمنهم من رصاص طائش وعقل أكثر طيشاً. ومن حق كثيرين أن يكتبوا باحتجاج حانق على هذه الفاجعة "الفكرية" والاخلاقية التي تصيب صورتنا من أفعال فرقاء يرتكبها بعض ممن يتاجر بالمبادئ ليحسّن موقعه في المراتبية السياسية الداخلية. ولكن، من حقنا ان نعرف لماذا وصلنا إلى هذه العتبة الفضائحية؟ للقارئ أن يعلم - ابتداءً - ان دعوة "مسرح بيروت" وجهت إلى مثقفين يهود عرب كانوا في صدارة من قارعوا الايديولوجيا الصهيونية وفضحوا دعاواها الميثولوجية والعنصرية، وناهضوا كيانها السياسي الإسرائيلي، وناصروا الثورة الفلسطينية، ولم يغلبوا يوماً انتماءهم الديني على انتمائهم القومي والحضاري وهؤلاء قلة قليلة ممن يسترون عورتنا: عورتنا المفضوحة في خسارتنا التاريخية ليهودنا العرب، وعورتنا المفضوحة في هزيمة وعي لدينا لم يتقن كيف يعي الاجتماع الوطني في استقلال كامل عن العصبية الدينية، ثم عورتنا المفضوحة في نجاحنا الفريد في تبديد رصيد القوة لدينا في "صراعنا" مع الصهيونية! ولكن، للقارى إياه ان يعلم ان الذين مارسوا "حقهم" الميتافيزيقي: الذي يسمونه "حقاً قومياً" في منع مثقفينا من اليهود العرب من المشاركة في الندوة البيروتية، هم ممّن يصممون انتماءهم السياسي القومي على مقاس سياساتٍ فاوضت اليهود غير العرب وأوغلت في مشاريع التسوية معهم دون ان تعير كبير انتباه إلى المبادئ والثوابت! وهم - في هذا - على درجة محترمة من النفاق السياسي عليه لا يحسدون! وإذا كان لهم ان يوالوا من يحمي ارجحيتهم في المشهد السياسي، من باب حق كل وكيل تجاري في تحصيل أرباحه المستحقة عن خدمات الوساطة التي يقدم، فليس لهم ان يقامروا بأرواح الناس، وبالسلطة الأمنية الشرعية للدولة التي منحت تأشيرات الدخول لهؤلاء المثقفين، فالله أحل البيع وحرّم الربا، وهم - هنا - مرابون بلا زيادة ولا نقصان! إن أفعال العقلاء منزهة عن العبث: على ما يذهب إليه القول المأثور. لكننا هنا أمام أعلى مراحل العبث! ومن حقنا - على الأقل - ان نتساءل: هل باتت القومية رخيصة إلى هذا الحد بحيث يسوغ للمأجورين وضباط الميليشيات أن يضعوها رهن الخدمة والاستثمار. هل بتنا على أعتاب مرحلة من تجريب الارهاب السياسي والفكري باسم القومية بعد تجريبه باسم الاشتراكية "الارهاب الثوري" وباسم الدين "الجهاد" ضد الأمة؟! وهل... وهل...؟! قطعاً ليس جواب ذلك عند "أهل الحؤول والمنع" كما سمّاهم وضاح شرارة في نص جارح ومشروع نشرته "أفكار" يوم الخميس الفائت، بل نحن أولى بالاجابة عنه. وأوّل ما يجاب به ان يُقال جهراً ان الذين ينصبون انفسهم أوصياء على الأمة أو الجماعة تجار سياسة يستثمرون في مقدس جمعي لا يعنيهم أمره إلا بمقدار ما تدره عائداته من أرباح مادية! وأول الواجب هنا فك ارتباطهم بالقضية التي يزعمون لأنفسهم النطق باسمها، فالنظر إليهم - تالياً - عراة عن أرديتها. وليس يعتبر في ذلك ما في القضية من وجه حق أو باطل، فذلك تفصيل خلافي في مسألة تحتاج إلى اجماع، هي منع الافاقين من استغفال جمهور القيم الكبرى: تزييفاً وبهتاناً، وحيازة "حق" بغير وجه حق. كاتب هذه السطور لا يماحك، يهمه كمغربي أن يعبّر عن غضب صارخ من حرمان مواطنين مغربيين - من أصل يهودي - من حضور ندوة بيروت، وهما: ابراهام السرفاتي وادمون عمران المليح! مخجل ان يزايد أحد على عروبتهما ؤالتزامهما العميق قضية الشعب الفلسطيني، ونضالهما الرائد ضد الصهيونية: فكرة وحركة ودولة. ابراهام السرفاتي كان - منذ ثلث قرن - معلّماً لجيل سياسي كامل عبر عنه اليسار في ما اختص بالحركة الصهيونية وأخطبوطها، وبعدالة قضية الشعب الفلسطيني، ولم تغير محنته في سجنه - الذي امتد سبعة عشر عاماً - ولا الحملة الصهيونية العالمية عليه من التزاماته الوطنية الثابتة تجاه القضية الفلسطينية. والأمر نفسه يصدق على الأديب والكاتب الكبير ادمون عمران المالح: كان أشد ارتباطاً بوطنه وحضارته من أعرق المتقومنين تشدقاً بعروبتهم، وأصدق تعبيراً عنهما من "أهل الحؤول والمنع". معذرة يا ابراهام، ويا ادمون على هذه الاهانة التي أهانتنا جميعاً، ولا حول ولا قوة إلا بالله.