مدرب العراق: سأواجه «السعودية» بالأساسيين    الفرصة لا تزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    مآل قيمة معارف الإخباريين والقُصّاص    الصندوق السعودي للتنمية يموّل مستشفى الملك سلمان التخصصي في زامبيا    مهرجان الرياض للمسرح يبدع ويختتم دورته الثانية ويعلن أسماء الفائزين    سورية الجديدة.. من الفوضى إلى الدولة    99.77 % مستوى الثقة في الخدمات الأمنية بوزارة الداخلية    خادم الحرمين يهنئ رئيس المجلس الرئاسي الليبي بذكرى استقلال بلاده    الأمن.. ظلال وارفة    إحالة 5 ممارسين صحيين إلى الجهات المختصة    اجتثاث الفساد بسيف «النزاهة»    أميّة الذكاء الاصطناعي.. تحدٍّ صامت يهدد مجتمعاتنا    عبقرية النص.. «المولد» أنموذجاً    مطاعن جدع يقرأ صورة البدر الشعرية بأحدث الألوان    نائب أمير مكة يفتتح ملتقى مآثر الشيخ بن حميد    ضيوف برنامج خادم الحرمين يؤدون العمرة    «كليتك».. كيف تحميها؟    3 أطعمة تسبب التسمم عند حفظها في الثلاجة    من «خط البلدة» إلى «المترو»    122 ألف مستفيد مولهم «التنمية الاجتماعي» في 2024    أهلا بالعالم    كرة القدم قبل القبيلة؟!    ليندا الفيصل.. إبداع فني متعدد المجالات    قائمة أغلى عشرة لاعبين في «خليجي زين 25» تخلو من لاعبي «الأخضر»    «إسرائيل» ترتكب «إبادة جماعية» في غزة    فِي مَعْنى السُّؤَالِ    التحليق في أجواء مناطق الصراعات.. مخاوف لا تنتهي    ضبط شخص افتعل الفوضى بإحدى الفعاليات وصدم بوابة الدخول بمركبته    دراسة تتوصل إلى سبب المشي أثناء النوم    ثروة حيوانية    تحذير من أدوية إنقاص الوزن    وسومها في خشومها    حرس الحدود بجازان يدشن حملة ومعرض السلامة البحرية    وانقلب السحر على الساحر!    ضرورة إصدار تصاريح لوسيطات الزواج    النائب العام يستقبل نظيره التركي    منتخبنا كان عظيماً !    5 مشاريع مياه تدخل حيز التشغيل لخدمة صبيا و44 قرية تابعة لها    استثمار و(استحمار) !    رفاهية الاختيار    نيابة عن "الفيصل".. "بن جلوي" يلتقي برؤساء الاتحادات الرياضية المنتخبين    الأخضر يستأنف تدريباته استعداداً لمواجهة العراق في خليجي 26    اختتام دورات جمعية الإعاقة السمعية في جازان لهذا العام بالمكياج    آل الشيخ: المملكة تؤكد الريادة بتقديم أرقى الخدمات لضيوف الرحمن حكومة وشعبا    وزير الدفاع وقائد الجيش اللبناني يستعرضان «الثنائية» في المجال العسكري    موارد وتنمية جازان تحتفي بالموظفين والموظفات المتميزين لعام 2024م    "التطوع البلدي بالطائف" تحقق 403 مبادرة وعائدًا اقتصاديًا بلغ أكثر من 3مليون ريال    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    التخييم في العلا يستقطب الزوار والأهالي    مسابقة المهارات    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ابن بسام الشنتريني و"كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"
نشر في الحياة يوم 28 - 04 - 1998

أبو الحسن علي بن بسام الشنتريني، المتوفي سنة 542ه/ 7-4811م يحتل مكاناً بارزاً في الأدب العربي أديباً ومؤرخاً. إن كتابه الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" مصدر على جانب كبير من الأهمية للباحث في تاريخ الاندلس وأدبها في فترة ملوك الطوائف التي تلت نهاية خلافة قرطبة الأموية القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. أما أهمية الكتاب التاريخية فترجع إلى احتفاظه بفقرات مطولة من كتاب "المتين" لشيخ مؤرخي الأندلس ابي مروان بن حيان ت 469ه/ 1076م، وهو التاريخ الذي لم يصلنا، وفيه تناول ابن حيان - بأسلوبه البليغ وصدقه وصراحته المعهودين - تاريخ الاندلس على عهد ملوك الطوائف. إن هذه الفقرات التي أوردها ابن بسام في كتاب "الذخيرة" هي كل ما وصلنا من كتاب "المتين"، وأضاف إليها ابن بسام تأريخه هو للثلث الأخير من القرن الحادي عشر بعد وفاة ابن حيان.
وأما من الناحية الأدبية، فإن ابن بسام يعرض لنا بأسلوب بديع مرسل - من دون اغراق في السجع كبعض معاصريه - نماذج ومقتطفات من شعر دفتر اعلام الادباء في تلك الفترة التي شهد جانباً منها، او استقى أخبارها من مصادر قريبة العهد بها.
إن ما دفع ابن بسام الشنتريني إلى تصنيف كتابه هو الرغبة في التعريف بأهل الادب الاندلسيين، إذ أنه رأى الناس يغمطون قدرهم، وغيرته على نتاج أهل وطنه من شعر ونثر، ورغبته بالتالي في حجم هذا النتاج، خصوصاً أنه لاحظ تعلق أهل الاندلس بكل ما هو مشرقي في هذا الباب 1، "حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا ضماً، وتلوا ذلك كتاباً محكماً. وأخبارهم أهل الأندلس الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القصية ومناخ الرذية... فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الافق الغريب ان تعود بدوره أهلة، وتمج بحاره ثماداً مضمحلة، مع كثرة ادبائه ووفور علمائه"2. وابن بسام شديد الاعجاب بانتاج بني بلده على رغم "كونهم بهذا الاقليم، ومصاقبتهم لطوائف الروم، وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية، ليس وراءهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط"3.
وفي كتاب "الذخيرة" يحذو ابن بسام حذو ابي منصور الثعالبي المتوفي سنة 429ه/ 1038م في كتابه "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر"، إلا أنه إمعاناً في الفائدة يورد الخلفية التاريخية لاخباره ومنتخباته "فإني رأيت أكثر ما ذكر الثعالبي من ذلك في "يتيمته" محذوفاً من أخبار قائليه، مبتوراً من الأسباب التي وصلت به وقيلت فيه، فأملّ قاريء كتابه منحاه، وأحوجه إلى طلب ما أغفله من ذلك في سواه"4.
واقتصر ابن بسام في كتابه على أعلام القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي ذلك لأن أعلام الدولتين المروانية والعامرية تناولهم ابن فرج الجياني في "كتاب الحدائق". فهو يقول: "فأضربت عما ألف، ولم أعرض لشيء مما صنّف، ولا تعديت أهل عصري، مما شاهدته بعمري أو لحقه بعض أهل دهري، إذ كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول"5.
وعانى ابن بسام كثيراً في جمع مادته، إذ "ان عامة من ذكرته في هذا الديوان لم أجد له اخباراً موضوعة، ولا اشعاراً مجموعة، تفسح لي في طريق الاختيار منها"6 ثم انه تولى المهمة في ظروف شخصية صعبة إثر نزوحه عن مسقط رأسه شنترين شمالي لشبونة بنحو 80 كلم قبيل استيلاء الروم عليها سنة 486ه/ 1093م، وقد تقدمت به السن. كما أن جمع المادة تطلب منه الرجوع إلى مصادر متفرقة كان يعوزها الوضوح والبيان والدقة، فهو يقول: "فإنما جمعته بين صعب قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل، من تفاريق كالقرون الخالية، وتعاليق كالاطلال البالية، بخط جهال كخطوط الراح، أو مدارج النمل بين مهاب الرياح. فضبطهم تصحيف، ووضعهم تبديل وتحريف، أيأس الناس منها طالبها، وأشدهم استرابة بها كاتبها، ففتحت أنا اقفالها، وفضضت قيودها واغلالها، فأصبت غايات تبيين وبيان، ووضحت آيات حسن وإحسان"7.
ويمضي ابن بسام في مقدمة "الذخيرة" فيقول: "واعتمدت المئة الخامسة من الهجرة، فشرحت بعض محنها، وجلوت وجوه فتنها... وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم على هذا الاقليم الاندلس، وألمحت بالأسباب التي دعت ملوكها إلى خلعهم، واجتثاث أصلهم وفرعهم... وعولت في معظم ذلك على تاريخ ابي مروان بن حيان"8.
وقسم ابن بسام كتاب "الذخيرة" أربعة أقسام: أولها لأهل قرطبة وما يصاقبها من بلاد موسطة الاندلس، والثاني لأهل اشبيلية والجانب الغربي من الأندلس، والثالث لأهل الجانب الشرقي من الأندلس، أما القسم الرابع والأخير فقد افرده لمن طرأ على جزيرة الأندلس في القرن الخامس للهجرة من أديب وشاعر، وكذلك لبعض مشاهير الكُتّاب آنذاك بافريقية البلاد التونسية والشام والعراق. أما المنهج الذي انتهجه في كتابه فهو ايراد توطئة تاريخية يتبعها بمن يترجم لهم من الرؤساء والكتّاب والوزراء والشعراء، على هذا الترتيب. وهو يبدأ عادة بترجمة العلم المراد في نثر بديع مسجوع، ويورد مقتطفات من شعره أو نثره، وهو يُكثر من المقارنة بين شعر معاصريه وبين شعر القدامى، ويشير إلى المواضع التي قلدوا القدامى فيها.
ويقتبس ابن سعيد عن الحجاري صاحب "المسهب" قوله في ابن بسام: "العجب أنه لم يكن في حساب الآداب الأندلسية أنه سيبعث من شنترين، قاصية الغرب، ومحل الطعن والضرب، من ينظمها قلائد في جيد الدهر، ويطلعها ضرائر للأنجم الزهر. ولم ينشأ بحضرة قرطبة ولا بحضرة اشبيلية ولا غيرهما من الحواضر العظام من يمتعض امتعاضه لاعلام عصره، ويجهد في جمع حسنات نظمه ونثره. وسل الذخيرة فإنها تعنون عن محاسنه الغزيرة... ومن نثره في كتاب الذخيرة ما يدل على طبقته..."9.
ومما يلفت النظر ان اديباً صقلياً معاصراً لابن بسام الشنتريني، أصله أيضاً من شنترين، هو علي بن جعفر بن علي الشنتريني - المعروف بابن القطاع - صنّف هو الآخر ديواناً سماه "كتاب الدرة الخطيرة في محاسن الجزيرة/ من شعراء الجزيرة" جَمع فيه أشعارَ أهل جزيرة صقلية في فترة مضطربة شبيهة بفترة ملوك الطوائف بالأندلس. وقد رحل ابن القطاع عن جزيرة صقلية سنة 454ه/ 1061م عند بداية الغزو النورماني من جنوب ايطاليا للجزيرة سنة 1061م، واستقر فترة في الأندلس، ثم توجه إلى مصر حيث كان في مطلع القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي، وتوفي في القاهرة سنة 515ه/ 1121م، أي قبل وفاة ابن بسام بنحو 27 سنة. وقد وصلتنا مقتطفات من كتبه عن شعراء جزيرة صقلية احتفظ بها العماد الاصفهاني كاتب السلطان صلاح الدين الايوبي في كتابه "خريدة القصر وجريدة العصر". وقد وقف هذا الاديب نفسه - كما فعل ابن بسام بالنسبة إلى الأندلس - للتنويه بمجد صقلية الإسلامية، وضمن كتابه مختارات من أشعار 170 شاعراً صقلياً. فهل تأثر ابن بسام الشنتريني بسميه ابن القطاع في اختيار عنوان كتابه، وموضوعه، وغرضه؟
بعد أن استقر الرأي على خلع ملوك الطوائف في الأندلس، بدأ المرابطون بصاحب غرناطة عبدالله بن بلقين 483ه/ 1090م وثنّوا بالمعتمد بن عباد صاحب اشبيلية وقرطبة، وابن صُحادح صاحب "المرية" 484ه/ 1091م. وإذ ذاك شعر بالخطر صاحب بطليوس وغرب الأندلس المتوكل بن الأفطس، فأخذ في مداراة المرابطين من جهة، وفي الاتصال سراً من جهة أخرى بألفونس السادس ملك قشتالة وليون للاستعانة به، إذا اقتضى الأمر، في درء خطر المرابطين على فلكه، وتنازل لألفونس في مقابل ذلك عن عدد من المعاقل والصحون، من بينها شنترين ولشبونة وشنترة في أقصى غرب الأندلس البرتغال حالياً. يقول ابن الخطيب: "راسل المتوكل أذفونش ملك قشتالة وأطعمه - زعموا - في المدنية بطليوس وخرج له عن مدينة شنترين، فحصنها العدو وضبطها... وعندما مكّن العدو من شنترين، انحرفت عنه المتوكل الرعية... وراسل أهل بطليوس المرابطين، فوصلتها الجيوش وفتح الناس الأبواب، فدخل القوم عنوة"10. وتحدد المصادر المسيحية المعاصرة تاريخ دخول الروم مدينة شنترين بيوم 29 نيسان ابريل سنة 1093م، الموافق ليوم 30 ربيع الأول سنة 486ه. وعلى الأثر، استولى الأمير المرابطي سير بن ابي بكر على مدينة بطليوس 487ه/ 1094م، ثم لم يلبث ان استرد الأمير سير لشبونة وشنترة، دون شنترين، بعد أن اوقع بالروم هزيمة كبرى في تشرين الثاني نوفمبر سنة 1094م.
ولا شك في أن ابن بسام نزح عن مسقط رأسه شنترين قبيل استيلاء الروم عليها في 30 ربيع الأول 486ه/ 30 نيسان 1093م، ولجأ إلى اشبيلية حيث أحوجته الظروف القاهرة إلى التصرف مضطراً في بعض الأعمال السلطانية. وتؤكد عبارة ابن بسام في مقدمة "الذخيرة" نزوحه عن شنترين عند سقوطها في أيدي الروم وما كان يعانيه نفسياً ومادياً، إذ يقول: "وعَلِمَ الله تعالى ان هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحناء، وفكر خامد الذكاء... لانتباذي كان من شنترين، قاصية الغرب، مغلولَ الغرب، مروع السرب، بعد ان استنفد الطريف والتلاد، وأتى على الظاهرة والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم علينا في عقر ذلك الاقليم. وقد كنا غنيناً هنالك بكرم الانتساب عن سوء الاكتساب، واجتزأنا بمذخور العتاد، عن التقلب في البلاد، إلى أن نثر علينا الروم ذلك النظام، ولو ترك القطا ليلاً لنام... فوصلت حمص اشبيلية بنفس قد تقطعت شعاعاً، وذهب أكثرها التياعاً... فتغربت بها سنوات أتبوأ منها طل الغمامة... ولا أنس إلا الانفراد، ولا تبلغ إلا بفضله الزاد..."11.
ويبدو ان ابن بسام أخذ في التنقل بين حواضر الأندلس، وبخاصة قرطبة واشبيلية، قبل ان يستقر ويشرع في تصنيف كتابه، وفي أثناء التصنيف. فهو يصرح بأنه ابتدأ التصنيف في قرطبة سنة ثلاث وتسعين وأربعمئة 110012. وقد استغرقت عملية الجمع سنوات، كما يستدل من الأحداث التي يتناولها ويشير إليها في تضاعيف الكتاب، فهو مثلاً يشير إلى استرداد الأمير والقائد المرابطي ابي محمد مزدلي مدينة بلنسية من أيدي الروم في شهر رمضان سنة 495ه/ 1102م بعد ان تملكها رُذريق السيد الكنبطور Mio Cid El Campendor سبع سنوات13.
وعند ذكر أمير المسلمين السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين، يورد ابن بسام اسمه متبوعاً بعبارة "رحمه الله"14. ولما كانت وفاة السلطان يوسف بن تاشفين في العام 500ه/ 1106م، فإن ذلك يدل على ان ابن بسام كان ما زال عاكفاً على تأليف "الذخيرة" آنذاك. ويقول ابن بسام عند ذكره الكاتب ابي عبدالله بن ابي الخصال، من كبار كتّاب شرق الأندلس: "كنتُ قد انفردتُ لتحرير هذه النسخة من هذا المجموع في شهور سنة ثلاث وخمسمائة أواخر سنة 1109 أو أوائل سنة 1110م، فخاطبه ابن بسام راجياً تزويده بنماذج من فترة اثناء اجتياز ابن ابي الخصال باشبيلية"15.
وعلى ذلك، فإن ابن بسام بدأ في تصنيف "الذخيرة" سنة 493ه/ 1100م، وكاد ان يفرغ من التأليف في شهور سنة 503ه/ منتصف 1110م وفي مقدمة "الذخيرة" يعبّر ابن بسام عن تطلعه وأمله الكبير في تحرير مسقط رأسه شنترين، إذ يقول ولعله كان يستشعر قرب تحرير شنترين على يد القائد المرابطي الكبير الأمير سير بن ابي بكر اللمتوني، الوالي على اشبيلية وغرب الأندلس، ولعله أهدى الكتاب له: "ولما سمعت صوت المهيب، وتنسمت ريح الفرج القريب، ووجدت لسبيل التأميل مدرجاً، وجعل الله لي من ربقة الخمول مخرجاً، طالعت حضرته المقدسة بهذا الكتاب على حكمه، مطرزاً بسمته واسمه، مستدلاً بمجده، متوسلاً إليه بكرم عهده..."16.
يقول صاحب "روض القرطاس" ان فتح شنترين تم على يد الأمير سير بن ابي بكر في شهر ذي القعدة سنة 504ه منتصف أيار/ مايو 1111م، وتؤيد ذلك وقائع الخولية المسماة El Cronicon Lusitano فهي تفيد بأن استيلاء الأمير سير على شنترين تم في شهر أيار من سنة 1111م17.
ولا شك في ان ابن بسام فرغ من تأليف "الذخيرة" قبل أن يسترد المرابطون مدينة شنترين بنحو سنة، إذ لو أنه فرغ من تصنيف الكتاب عقب استردادها لكان أشار حتماً إلى تحرير بلده وعودته إليها، وهو ما كان يترقبه ويصبو إليه بفارغ الصبر، ولكننا لا نجد أية إشارة إلى ذلك في كتاب "الذخيرة".
وعلى ذلك، يمكننا القول إن ابن بسام استغرق في تصنيف "الذخيرة" قرابة عشر سنوات، إذ شرع في التأليف سنة 493ه/ 1100م وفرغ منه سنة 503ه/ 1110م، وتم تحرير شنترين من قبضة الروم في أواخر سنة 504ه/ منتصف 1111م بعد فراغ ابن بسام من تصنيف كتابه بسنة ونيف على أكثر تقدير.
لا تذكر كتب التراجم تاريخ مولد ابن بسام الشنتريني، ولكنه عند الحديث عن الاديب أبي جعفر أحمد بن الدودين البلنسي، يقول: "هو أحد من لقيته وشافهته، وأملى عليّ نظمه ونثره بالاشبونة سنة سبع وسبعين 477ه/ 4-1085م"18. ولعل ابن بسام كان آنذاك في نحو العشرين من عمره، وعلى ذلك فإنه كان يناهز الأربعين حينما شرع في تأليف "الذخيرة"، وكان يناهز الخمسين عند فراغه من التأليف. ومما يؤيد ذلك قول ابن بسام نفسه في مقدمة "الذخيرة": "فإنما جمعته بين صعب قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل"19.
لقد ظلت مدينة شنترين في أيدي الروم ثمانية عشر عاماً 486 - 504ه/ 1093 - 1111م. ولعل تأخر المسلمين في استرداد المدينة يرجع إلى عاملين: أولهما مناعة المدينة لوقوعها، كما يقول الحميري "على جبل عالٍ كثير العلو جداً، ولها من جهة القبلة حافة عظيمة"20. أما العامل الثاني والأهم فهو انشغال المرابطين في الفترة التي سبقت استرداد شنترين بجهاد الروم في شرق الأندلس حيث كان قد ظهر الفارس القشتالي السيد الكنبطور Mio Cid El Campendor واستحوذ على مدينة بلنسية زهاء سبع سنوات، إلى أن استولى على المدينة بعد وفاة الكنبطور القائد المرابطي الأمير أبو محمد مزدلي بن سلنكان سنة 1002م. ثم واصل المرابطون جهادهم فأحرزوا انتصاراً كبيراً على القشتاليين في وقعة أقليش سنة 501ه/ 1108م، واستردوا بعد ذلك مجريط مدريد ووادي الحجارة، وحاصروا مدينة طليطلة ذاتها. وبعد هذه الغزوات المظفرة ارسل أمير المسلمين علي بن يوسف بن تاشفين القائد سير بن ابي بكر اللمتوني والي اشبيلية إلى غرب الأندلس، فاسترد في جملة ما استرد من الروم مدينة شنترين.
ويستبعد جداً ان لا يكون ابن بسام قد بادر بالعودة فرحاً إلى مسقط رأسه بعد تحريرها سنة 504ه/ 1111م وبعد أن فرغ من تصنيف "الذخيرة". وكانت وفاة بان بسام الشنتريني في سنة 542ه/ 7-1148م بعيد استيلاء أفونسو هنريق المعروف في المصادر العربية باسم ابن الريق أو ابن الرنك ملك البرتغال على المدينة في 15 آذار مارس سنة 1147م منتهزاً انشغال المرابطين عن الأندلس بقيام الموحدين عليهم في المغرب، فلم تجد شنترين لنفسها نصيراً. فهل كانت وفاة ابن بسام في مسقط رأسه قبيل استيلاء الروم على شنترين؟
هوامش
* بحث قدم باللغة الانكليزية في ندوة علمية موضوعها "شنترين في العصر الوسيط" عقدت في مدينة شنترين شمالي لشبونة في البرتغال في يومي 13 و14 آذار الماضي.
1 كثيراً ما ترد هذه الشكوى على ألسنة أعلام الأندلس، من ذلك مثلاً قول علي بن حزم:
أنا الشمس في جو العلوم منيرة
ولكنّ عيبي ان مطلعي الغرب
ولو انني من جانب الشرق طالع
لجلد على ما ضاع من علمي النهب
ابن سعيد: المُغرب في حلى المغرب، القاهرة 1953، 1/ص 356.
2 ابن بسام الشنتريني، علي: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، الدار العربية، 5-1979، 1/1 ص12.
3 نفسه، 1/1، ص14.
4 نفسه، 1/1، ص34.
5 نفسه، 1/1، ص13.
6 نفسه، 1/1، ص16.
7 نفسه، 1/1، ص15-16.
8 نفسه، 1/1، ص17-18.
9 ابن سعيد: المغرب، 2/417-418.
10 ابن الخطيب، لسان الدين: أعمال الأعلام، بيروت 1956، ص 185-186.
11 الذخيرة 1/1، ص19-20.
12 نفسه، 3/2، ص654.
13 نفسه، 3/1، ص101، 98.
14 نفسه، 3/1، ص93.
15 نفسه، 3/2، ص787-788.
16 نفسه، 1/1، ص21.
17 ابن ابي زرع الفاسي، علي: روض القرطاس، أبسالة 1846، ص105.
Menendz Pidal, R. La Espa–a del Cid, Madrid 1969, p.795
18 الذخيرة، 3/2، ص703.
19 نفسه، 1/1، ص15.
20 الحميري، ابن عبدالمنعم: الروض المعطار، بيروت 1975، ص346.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.